عندما بدأت أعمال اللجنة الدستورية الخاصة بسوريا، في 30 تشرين الأول (أكتوبر) عام 2019، كانت نوايا الأطراف المشاركة الأساسية واضحة للجميع، من ناحية الأولويات السياسية العامة، واتجاهات عملها التي عبّرت عنها في أكثر من مناسبة. بالمقابل، لم تكن مواقف تلك الجهات واضحةً تماماً فيما يخص محتويات هذا الدستور، خاصةً القضايا التي شهدت نقاشات تاريخياً عند إعداد الدساتير في البلاد.
ورغم حضور ثلاثة وفود تمثل المعارضة والنظام والمجتمع المدني، إلّا أن غياب مكونات سياسية رئيسية عن هذه الاجتماعات مثل الأحزاب الكردية، والظروف التي أحاطت بتشكيل هذه اللجنة والتأثير الدولي عليها، جعل وضعها شديد القلق تجاه الشرعية السياسية لها أمام السوريين، ما سيقود بالنتيجة إلى أن تحاول اللجنة الدستورية إرضاء الآراء الأكثر تشدداً في كل الملفات (ابتداءً من مواضيع صلاحيات السلطات المحلية إلى علاقة الدين بالدولة)، وذلك على الرغم من أنّها قد لا تعبّر عن رأي غالبية السوريين، إذ لا يبدو أنّ هناك أي جهود تبذل من قبل اللجنة والقائمين على عملها لتحري تلك الآراء وموازنتها فعلاً. في هذا السياق، قامت منظمة اليوم التالي بالعمل على استطلاع رأي موسع حول آراء السوريين بخصوص تلك الجهود، وحول القضايا الرئيسية في دستور البلاد المقبل، وقد حصلت الجمهورية على بيانات الاستطلاع بالاتفاق مع الناشر (منظمة اليوم التالي) قبل نشره بشكل رسمي اليوم، لإنجاز هذه المقالة التي ستركز على نتائج الاستبيان بما يخص علاقة الدين بالدولة ضمن الدستور المقبل، وفق آراء العيّنة التي استجابت لأسئلة الدراسة.
اعتمدت الدراسة على استطلاع رأيِ عَيِّنةٍ طبقية مُنتظمة، تضمُّ 2966 سوريَّةً وسُوريًّا من البالغين، داخل البلاد وخارجها، ومن خلفِيَّاتٍ دينية وقومية مُتنوعة. وقد أجرى الاستِبيانَ باحثون مَيدانيُّون مُختصُّون، خلال الفترة ما بين بداية شهر حزيران/يونيو 2020 وبداية شهر تموز/يوليو 2020، اعتِمادًا على المقابلات الصوتية المباشرة عبر الانترنت، بسبب تعذُّر إجراء المقابلات الفيزيائية في ظروف انتشار وباء كوفيد-19. وتمَّ الحرص عند اختِـيار العيِّـنة على تحقيق التوازن بمُختلف مُسـتوياته، بما في ذلك مراعاة الجنس والعمر ومكان الإقامة والخلفيات الدينيَّة والقوميَّة ومستوى المعيشة.
لم تَغِب النقاشات حول العلاقة بين الدين والدولة عن جميع الدساتير في سوريا، ورغم أنّ دساتير الأعوام 1920 و1930 و1950 كانت الوحيدة التي أقرتها جمعية عامّة منتخبة أو يحظى أعضاؤها بشرعية سياسية واجتماعية لدى السوريين، إلّا أنّ جميع الدساتير التي أُقِّرت في البلاد، ومن بينها دستور حافظ الأسد الذي أقرّ بشكله النهائي عام 1973، تسبّبت بنقاشات عامّة حول علاقة الدين بالدولة ضمن نص الدستور. وفيما عدا الدستور الذي أقره المؤتمر السوري بالتوازي مع إعلان استقلال المملكة السورية في شهر آذار (مارس) عام 1920، تضمنت الدساتير في البلاد إشارات واسعة للعلاقة بين الدين والدولة، واعتبار الدين أو الفقه الإسلامي مصدراً أساسياً للتشريع في البلاد. امتلكت تلك الإشارة آثاراً قانونية وسياسية عديدة طوال تاريخ البلاد. كما يحوز النقاش حول هذه القضية صلةً قوية بالانقسامات الدينية والقومية، وما يرتبط بهذه الانقسامات من تطورات حدثت خلال التاريخ الحديث لتَشكُّل البلد.
تُظهِر بيانات استطلاع الرأي استمرار تأثير تلك الانتماءات الفرعية على آراء السوريين حول العلاقة بين الدين والدولة، وإن كان الميل العام للعينة، في المجمل، يميل نحو الآراء الأكثر وسطية، وهو ما يمكن أن يكون تعبيراً عن تغييرات اجتماعية وسياسية لدى فئات واسعة من السوريين.
تمّ استطلاع آراء المستجيبات والمستجيبين للدراسة حول علاقة الدين بالدولة، ضمن عدد من الأسئلة التي يمكن اعتبار نتائجها مؤشرات عامّة حول تلك العلاقة وشكلها، وذلك في عدة تفاصيل لطالما اعتبرت هامّةً عند صياغة الدساتير في البلاد. من الملاحظ أنّ مواقف العينة محل الدراسة قد تغيرت بناءً على تغيّر العبارات المعبّرة عن فكرة العلاقة بين الدين والدولة، فقد حازت العبارات المشابهة للمستخدمة تقليدياً في الدساتير السورية اعتراضاً أقل من العبارات الجديدة، وهو ما يمكن ربطه بخبرات السوريين السياسية مع تلك الإشارات وفهمهم لتأثيرها العملي على حياتهم.
وتوافق غالبية العينة محل الدراسة (59.2% من العينة) على ألّا يتضمن الدستور أي إشارة لأي دين، لكن هذا الموقف يتغير عند تغيير السؤال ليصبح حول رأي المستجيبات والمستجيبين بأن يكون دين الدولة في سوريا هو الإسلام، إذ وافق أو وافق بشدّة على هذه العبارة 43.5% من العينة فيما رفضها 30%، وكان المحايدون تجاه العبارة 19.6%. تتقارب النسب بشدّة عندما يتم سؤال العينة حول موقفها من أن يكون دين رئيس الدولة هو الإسلام السني، إذ وافق أو وافق بشدّة على هذه العبارة 39.8%، فيما رفضها أو رفضها بشدّة 38.4% من المستجيبين. سنجد أنّ المعارضة تزيد لدى السؤال حول عبارة «إظهار هوية سوريا الإسلامية في الدستور المقبل»، فقد وافق أو وافق بشدّة على هذه العبارة 35.5% فيما رفضتها النسبة الأكبر من المستجيبين: 44.8%.
أظهرت اتجاهات رأي العينة الكليّة عدم التشدد في ربط هوية البلاد بالدين الإسلامي، بل ورفضاً لهذا الارتباط عندما كانت العبارة «إظهار هوية سوريا الإسلامية في الدستور المقبل»، ولم تَحُز أيٌّ من الإجابات حول الخيارات السابقة على الأغلبية المطلقة (أكثر من خمسين بالمئة)، باستثناء السؤال حول موقف المستجيبات والمستجيبين من ألا يتضمن الدستور أي إشارة للدين، حيث وافقت أغلبية العينة على ذلك.
لن يكون بالإمكان تفسير ميل العينة الكليّة نحو الآراء الوسطية بالاستناد إلى تكوّنها من منتمين لطوائف وأديان مختلفة، إذ لا تزال نسبة الذين عرّفوا عن أنفسهم خلال الاستطلاع بانتمائهم إلى الطائفة السنية 71.3%، ما يعني أنّ جزءً هامّاً من هؤلاء قد دأب على عدم ربط توقعاته حول هوية البلاد ضمن الدستور المستقبلي بالدين الإسلامي. يتوافق ذلك مع طروحات المعارضة الديموقراطية في سوريا، والتي ربطت هوية البلاد بالانتماء المتساوي قانونياً لجميع المواطنين. ويبدو أنّ تأثير هذه الأفكار مستمر لدى نسبة واسعة من السوريين على الرغم من تراجع حضور ونفوذ الشخصيات والقوى المعارضة والمشاركة بالثورة من المنتمين للتيار الديمقراطي. ولا يبدو أنّ سيطرة ونفوذ قوى إسلامية عسكرية بمختلف توجهاتها على مناطق واسعة من البلاد خلال فترات طويلة نسبياً في السنوات العشر الأخيرة، قد أدى إلى ترك أثر كبير من أفكارها على السوريين. يمكن تفسير ذلك أيضاً بأنّ سيطرة إسلاميين على النفوذ والسلطة في عدد من المناطق السورية قد أدى للعكس، أي إلى ابتعاد السوريات والسوريين عن الأفكار والمحددات التي كانوا يضعونها، وعلى رأسها طبعاً أن تكون هوية سوريا إسلامية، بغض النظر عن التفاصيل التي يختلفون حولها.
سنشهد تغييراً في هذا الموقع العام للعينة حول علاقة الدين بالدولة، عندما يكون السؤال حول العلاقة القانونية. إذ قال 66.2% بأنّهم موافقون أو موافقون بشدّة على أن تكون الشريعة الإسلامية مصدراً من مصادر التشريع في البلاد، ولم يرفض هذا الخيار سوى 21.5% من العينة الكليّة محل الدراسة. ارتفع الرفض عندما أصبحت الإشارة إلى العلاقة القانونية مبنية على أن تكون الشريعة الإسلامية المصدر الأساسي للتشريع، إذ قال 45.5% من العينة بأنّهم يرفضون أو يرفضون بشدّة هذا الخيار، ولم يوافق عليه سوى 36.1% من العينة الكلية.
يمكن فهم الميل العام للعينة ببساطة من خلال مقارنة الإجابات على السؤالين السابقين، فمن الواضح أن نسبة واسعة من السوريين (قرابة ثلثي العينة) يوافقون على أن تكون الشريعة الإسلامية مصدراً من مصادر التشريع، لا أن تكون المصدر الأساسي، وهو ما يتوافق مع خبرات السوريين القانونية منذ تأسيس الدولة السورية الحديثة في الربع الأول من القرن العشرين، إذ اعتُبِرَ الفقه الإسلامي السني مصدراً من مصادر التشريع ومرجعاً لعدد من القوانين، على رأسها قانون الأحوال الشخصية.
ويبدو أن خبرات السوريين حول هذه العلاقة بين القوانين والشريعة الإسلامية، والتي تعطي حيزاً للقوانين الدينية لبعض الطوائف والأديان الأخرى غير الإسلام السني لتطبيقها على أبنائها، لم تكن نقطة الاستقطاب الرئيسية بينهم.
يساعد النظر إلى المتغيرات الفرعية في العينة في تقديم بعض التفسيرات حول الانقسامات ضمن العينة الكلية خلال السؤال عن علاقة الدين بالدولة، خاصةً فيما يتعلق بالسؤال حول أن يكون دين رئيس الدولة في الدستور المقبل هو الإسلام السنّي، فقد وافق على هذه العبارة من السنّة 55.6% ورفضها 21.8% منهم. تنقلب هذه النسب إلى شبه إجماع على رفض هذا الخيار لدى معظم أبناء الأقليات الدينية واللادينيين، إذ رفضها 83.8% من المسيحيين و86.3% من الدروز، و83% من الإسماعيليين،و 92.6% من اللادينيين. الاستثناء الوحيد على نسب الرفض المرتفعة بين أبناء الأقليات الدينية كان بين العلويين، حيث رفض 53.7% منهم هذه العبارة ووافق عليها 11.5% وهي أقل نسبة رفض للعبارة وأعلى نسبة موافقة عليها بين جميع المستجيبين الذين لا ينتمون إلى الإسلام السنّي.
توافق غالبية المسلمين السنّة أيضاً على أن يكون دين الدولة في سوريا هو الإسلام (57.9% منهم)، فيما سيكون موقف الأقليات الدينية واللادينيين معارضاً بشكل واسع لهذه العبارة التي يرفضها 95.6% من المسيحيين و84.6% من الدروز 78.1% من الاسماعيليين و63% من العلويين و91.4% من اللادينيين.
ويتغير موقف المنتمين إلى الطائفة السنيّة لدى سؤالهم عن موقفهم من عبارة «ألّا يتضمن الدستور المقبل أي إشارة لأي دين»، إذ وافق 48.5% منهم على هذه العبارة فيما رفضها 34.8% فقط. أما باقي الانتماءات الدينية فقد حافظت على اتجاه تصويتها في هذا الخيار أيضاً إلى جانب فصل الدين عن الدولة في الدستور المقبل.
من الملاحظ توافق اتجاه تصويت السنّة مع اتجاه العينة الكلية، إذ وافق السنة على ربط الدين بالدولة عندما كانت الأسئلة تتقصى خيارات المستجيبين بعبارات قريبة ومشابهة للعبارات التي استخدمت في الدساتير السورية السابقة، بينما مال السنة إلى الرفض عندما كان هذا الربط مبنياً على عبارات جديدة على الإرث الدستوري السوري.
ولا تبدو خيارات المستجيبين مفاجئةً بالمقارنة مع ما أكدته الأحداث التاريخية والنقاشات السياسية خلال كتابة الدساتير في تاريخ البلاد، فسنجد ضمن التصويت كتلة وازنة من المنتمين للطائفة السنيّة غير متشددة بخصوص شكل هذا الارتباط طالما كانت هناك عبارة واحدة على الأقل تربط الدين بالدولة، سواءً بالإشارة إلى دين الرئيس أو دين الدولة؛ فيما تقف الأقليات الدينية بشكل واضح ضد هذا الارتباط مع عدم التشدد في المعارضة عند بعض الخيارات، من بينها على سبيل المثال أن تكون الشريعة الإسلامية أحد مصادر التشريع في البلاد.
الاستثناء الوحيد على مواقف الأقليات الدينية كان الاتجاه العام لدى المستجيبين من الطائفة العلوية، والذين أظهروا تسامحاً أكبر مع ربط الدين الإسلامي بالدولة.
لطالما كانت العلاقة بين الدين والدولة في الدستور السوري مثار جدل بين السوريين خلال كتابة الدساتير السابقة، وليس من المتوقع أن يتغير ذلك قريباً، إلّا أنّ مَيلَ مواقف السوريين عموماً نحو تراجع التشدّد في هذه العلاقة قد يكون بداية لتغييرات أوسع في مواقفهم مستقبلاً. لكن قد تكون علاقة هذه الآراء بكتابة الدستور ضمن اللجنة الدستورية الحالية غير مؤكدة وربما متعارضة أحياناً، نتيجة بنية اللجنة الحالية والعلاقة السيئة للغاية بينها وبين الجمهور السوري، وهو ما عبّر عنه المستجيبات والمستجيبون للدراسة في أحد أسئلة الاستبيان السابق.
مستقبلاً، ستنير نظرة متفحصة على آراء السوريين حول عدد من القضايا الرئيسية أي توجه نحو بناء دولة جديدة. لن يحدث هذا بالطبع طالما أن نظام الأسد يحكم البلاد برعاية روسية وإيرانية، إذ ليس لدى السوريين المستجيبين للدراسة أنفسهم أية آمال حول دستور جديد وفق المعطيات الحالية. لكنّ الاطلاع على توجهاتهم سيكون مفيداً للغاية في نقاشات تدور دوماً حول شكل وبنية النظام السياسي في البلاد، إذ يدّعي عدد من الأطراف، الأكثر محافظةً على وجه الخصوص، أنّ رؤيتهم تمثل توجه غالبية السوريين، لكن الحقيقة مغايرة لهذه المقولة، إذ لم يتجه السوريين إلى أكثر الآراء محافظةً في تحليل نتائج هذا الاستبيان، وهو ما يمكن أن يكون نقطة انطلاق نحو نقاشات متحررة من الادعاءات بتمثيل السوريين سياسياً.