«هل تعرف نفسك؟» هذا سؤال بسيط ومعقد في آن! والإجابة عنه تتطلب «صفنة» طويلة. ربما تكون معرفة الذات واحدة من أقدم المسائل التي تناولتها العلوم الإنسانية على مدى تطورها. خاض فيها الفلاسفة كمسألة جوهرية نحو تطوير الإنسان لذاته، ولا عجب أنها أيضاً تبوّأت مكانها الخاص في علم النفس بمختلف مدارسه_وخاصة علم النفس الإنساني_ الذي انتقلت معه مسألة معرفة الذات إلى تقدير الذات، والذي اهتمَّ أيضاً بمشاعرنا تجاه ذاتنا وطريقة نظرنا إليها، وليس فقط بمعرفتها، فهو مرآتنا الداخلية التي نرى أنفسنا عبرها.
فَهمُ تقدير الذات
يقول الطبيب النفسي كريستوف أندريه إن تقدير الذات يتكون من النظرة إلى الذات والمشاعر نحوها والثقة فيها. يمكننا ترجمة ذلك عبر الأسئلة التالية: هل أرى نفسي وأعرفها كما هي؟ هل أحب نفسي كما أنا؟ هل أثق بنفسي؟ وبالتالي، هل أرى بأن ذاتي تستحق الحب والاحترام والاعتبار من الآخر؟
كثيراً ما يتم الخلط بين تقدير الذات والثقة بالنفس. وفي الواقع هما مفهومان متصلان اتصالاً وثيقاً، فوجود تقدير ذات قوي يعني وجود ثقة كبيرة في الذات، إلا أن تقدير الذات يرتبط بشكل أكبر بقيمة الذات والمشاعر تجاهها «أنا أحب نفسي وأستحقّ الحب»، في حين أن الثقة في الذات ترتبط بالقدرة على القيام بالأعمال والمهام «أستطيع القيام بهذا».
دور الحب غير المشروط
إذن، كيف يتشكل تقدير الذات في الأساس؟ يبدأ تقدير الذات بالتشكل في مرحلة الطفولة. جين سيو فاكان، وهي معالجة نفسية ومختصة في علم النفس العيادي، ذهبت أبعد من ذلك في مقالها الذي تناول دور حب الأهل في تقدير الذات – نُشر في مجلة العلوم الإنسانية في تشرين الثاني 2020 ضمن ملف حول تقدير الذات – فقالت إن تقدير الذات يبدأ في مرحلة الحمل عبر تفاعل الأم مع جنينها ومشاعرها تجاهه. والأكيد أنه يتشكل عبر إدماج نظرة الأفراد المهمين بالنسبة لنا (الوالدان في الغالب) في نظرتنا لأنفسنا ومن ثم تبنيها من الداخل كليّاً؛ أي عندما يشعر الأب بالحب تجاه طفلته ويرى أنها تستحق الحب والاحترام لأجل ذاتها، ستتبنى الفتاة نظرة أبيها لها، ولاحقاً سترى أنها تستحق الحب والاحترام. فالذي قَدَّمه الأب هنا هو حب غير مشروط، بغض النظر عن النجاح أو الفشل، وهو حب لأجل الشخص ذاته وليس لأفعاله. والعكس أيضاً صحيح، فتجاهل الطفل وعدم إعطائه الحب اللازم وعدم تلبية احتياجاته، أو ربط الحب بشروط أخرى ثانوية مثل النجاح أو الكمالية كالقول مثلاً: «شو هالعلامة السيئة؟ بطلّت أحبك.. أنا ما بحب الكسلانين»، سيترك تقديراً ضعيفاً للذات. كذلك، مثلاً، في بعض صفحات فيسبوك التي تتناول مشكلات الأهل في تربية الأطفال، هناك تعليقات كثيرة تحث على تجاهل الطفل عند بكائه أو على عقابه بشكل قاس أو عنيف، ويتذرع أصحابها بأن هذه هي الطريقة المثلى لتربية الطفل، وأنهم هم أنفسهم قد تربوا هكذا وربوا أبناءهم أيضاً على هذا النحو: «عين الله علينا ما فينا شي». في الواقع، تؤدي هذه العلاقة إلى عدم محبة الأطفال لأنفسهم، فهم يرون أنهم لم يستحقوا حب والدَيهم في الأساس، وأنهم لا يستحقون وجودهم! وهذا يحيلنا أيضاً إلى العلاقة بين تقدير الأهل لذواتهم وبين تقدير الطفل لذاته، فغالباً ما يعكس الأهل تقديرهم لذواتهم على طفلهم. وكثيراً ما يورثون -عبر التربية- ضعف تقدير ذاتهم إلى أطفالهم، أو يحاولون تعويض هذا الضعف عبر مطالبة الطفل بتحقيق ما عجزوا هم عن القيام به.
كيف أُعزِّزُ تقدير الذات عند الطفل؟
حَدَّدَت سيو-فاكان كيف يبدو الطفل الذي لديه تقدير جيد لذاته بأنه «طفل يبدو مرتاحاً في حياته بشكل عام، منفتح على الآخر، سعيد في تعلم المزيد، فضولي ويحب اللعب، ولديه القدرة على الاندهاش والتساؤل. بمعنى آخر، هو الطفل الذي لديه شعور بالأمان. ولديه ما يكفي من الاطمئنان، ويعلم كيف يطلب المساعدة عندما يحتاجها. يمكنه التعبير ببساطة عن حزنه أو قلقه ويسمح لنفسه بالبكاء للتعبير عن حاجاته». مؤكدة على أهمية شعور الوالدين بالفخر بطفلهما، ليس لأنه متفوق وينال العلامات التامة دائماً، وليس لأنه يتقن كل ما يقوم به، بل بالفخر بمحاولاته حتى لو لم تتكلل بالنجاح، وبسعيه قبل وصوله، وبإنجازاته الخاصة الصغيرة (كتعامله اللطيف مع شخص آخر مثلاً). بالإضافة إلى ضرورة تعليم الطفل تقبُّلَ أخطائه دون أن يهدد ذلك قيمة ذاته، وذلك عبر تعليمه الاعتراف بالخطأ والاعتذار عنه، وختاماً، بالتأكيد، تقديم الحب غير المشروط للطفل.
الحياة عندما تقسو علينا
إلا أن شكل تقدير الذات ليس ثابتاً نهائياً أو يقتصر على العلاقة بالأهل، بل يتسم بالديناميكية، حيث يتغير تقدير الذات عبر الحب غير المشروط الذي يمكن تلقيه من أشخاص آخرين غير الأهل مثل صديق/ة أو معلم/ة أو حبيب/ة… إلخ. وقد يتغير مع الأحداث والخبرات التي يمر فيها الفرد. فتجربة اللجوء مثلاً هي إحدى الخبرات التي تترك أثراً ملحوظاً على تقدير الذات، وتدفع اللاجئ نحو إعادة تشكيل تقدير ذاته، سواء على نحو إيجابي أم سلبي. يصف مازن حالته بالقول: «أنا حقاً متعب من نفسي، ليس لدي ما يفيدني في حياتي هنا، كما لو أنني طفل صغير وعليَّ البدء من الصفر. ضعيف وعاجز، وأخجل من ضعفي. كنت دائماً قوياً ومتماسكاً في سوريا حتى أثناء الحرب. ولا أعرف ما الذي يحدث لي هنا، أنا غبي وأكره نفسي جداً، وربما لا أستحق هذه الفرصة!». وبعيداً عمّا كان قد مر به قبل اللجوء، يتعامل مازن هنا مع سلسلة من الصدمات التي تتوالى، بدءاً من الخسارة والفقدان مع خروجه من سوريا، بما في ذلك فقدان الإنجازات الشخصية الخاصة والأشخاص المقربين الداعمين ونقاط القوة التي كان يعتمد عليها في محيطه السابق، إضافة إلى طريقة تلقيه وتعامله مع هذه الخسارة، ووصولاً إلى عملية الاندماج مع مجتمع اللجوء وفهم سياقاته ودواخله والصعوبات التي تشكل عوائق نفسية واجتماعية كاللغة، واختبار مشاعر الغربة والبحث عن الانتماء والاعتراف به من جديد وما إلى ذلك. كل هذا جعل مازن يرى نفسه عاجزاً وضعيفاً ويشعر بكره ذاته لهذا الضعف. غالباً ما تتخلل تجربةَ اللجوء – كأي خبرة أخرى كثيفة وحادة – حالةٌ من ضعف تقدير الذات والشك في القدرات الخاصة أثناء محاولة إثبات الذات وإثبات استحقاق الوجود، في الفترات الأولى، وذلك إلى أن يتمكَّنَ اللاجئ من استعادة توازنه واندماجه النفسي الجزئي مع محيطه الجديد على الأقل. والمفارقة هنا هي أن هذا المرور عبر التشكيك وإعادة النظر في الذات وصقل المهارات والتحقق منها والمرور بكل هذه الصعوبات هو الذي سيسمح ببلورة النظرة والاعتبار للذات وحبها، وينتهي بتقدير ذات أكثر متانة مما سبق. يعتمد هذا على الطريقة الخاصة التي يواجه بها اللاجئ هذه الخبرة، وعلى عوامل أخرى. وسواء ازداد تقدير الذات أو تراجع، فسنرى انعكاس ذلك على الصحة النفسية.
انعكاس تقدير الذات سيكوباثولوجياً
يترك تقدير الذات أثره على شخصيتنا وصحتنا النفسية. تضمَّنَ الملف المنشور في مجلة العلوم الإنسانية حول تقدير الذات مقالاً بقلم ماركو أولانو، وهو صحفي علمي ودارسٌ لعلم النفس، بعنوان اضطرابات تقدير الذات. يشير فيه الكاتب إلى أن اضطرابات تقدير الذات تبدأ في الظهور بعد المرور بخبرات سلبية، وغالباً متكررة، في أية مرحلة من مراحل النمو. هذه الخبرات كالتجاهل والإهمال والتنمر وسوء المعاملة والانتهاكات الجنسية وغيرها، تؤدي إلى إضعاف تقدير الذات. وقد عَرَض الكاتب أشكال اختلال تقدير الذات وكيف يساهم في تطوير اضطرابات نفسية، نلخصها هنا مع عكسها على حالات من مجتمعنا السوري:
الاضطرابات المزاجية
يتراجع تقدير الذات في الاكتئاب، وهو اضطراب مزاجي يتميز بانخفاض الطاقة وانعدام الرغبة أو الاهتمام بالأمور التي كانت مهمة سابقاً، وبسيطرة مشاعر من الفراغ الداخلي واليأس. وبشكل أكثر تحديداً تكون قيمة الذات ضعيفة أو تكاد تكون منعدمة. قالت ميسون عن نفسها: «ليس لي أية أهمية. أنا صفر. أساساً لا أستحق الحياة ويئست مني ومن حياتي!». عاشت ميسون في عائلة من الأخوات البنات، وكان الأب يعبّر صراحة على ندمه وخجله منهنّ، وعلى رغبته بإنجاب ذكر يحمل اسمه. فيما كانت الأم تعتبر أنهن ّسبب بؤسها في هذه الحياة. وبهذا يمكننا فهم أصل الشعور بانعدام القيمة عندها.
أما اضطراب المزاج ثنائي القطب، فهو أيضاً اضطراب مزاجي، إلا أنه يتناوب ما بين فترات من انخفاض شديد في المزاج والطاقة (تسمى نوبة اكتئابية)، وفترات أخرى من ارتفاع المزاج والطاقة أكثر من الحد الطبيعي (نوبات هوسية). يكون تقدير الذات كذلك الأمر غير مستقر ويتراوح ما بين الانخفاض (في النوبة الاكتئابية) والارتفاع (في نوبة الهوس)، فمِن «أنا بشع وضعيف ولا أستحق الحب»، إلى «أنا رائع الجمال وخارق القدرة وجذاب للغاية، وأنالُ ما أريد!».
القلق
في حين أن تقدير الذات في اضطراب القلق يكون منخفضاً أيضاً، إلا أنه يكون مترافقاً بمشاعر من الذنب، وشكوك حول فعالية الذات والخوف من ألا يكون الشخص على المستوى المطلوب. ويختلف عن تقدير الذات عند المكتئب، فالمُكتَئب يرى نفسه بلا قيمة ويُعدّ تقديره لذاته ضعيفاً للغاية، في حين يكون لدى القَلِق شكوك حول قيمة ذاته «هل أستحق هذا حقاً؟». ويمكن العودة إلى مازن الذي ذكرت قصته سابقاً، فالشك في قيمة ذاته ومشاعر الذنب والضياع التي يمر فيها خلقت حالة من القلق في مواجهة الخبرة الجديدة، أي اللجوء.
الإدمان واضطرابات الطعام
قد يدفع انخفاض تقدير الذات والشعور بانعدام القيمة نحو الإدمان على الكحول أو غيرها من المواد، وذلك رغبةً في الهروب من مواجهة تقدير الذات المنخفض. إلا أنّ الإدمان يعزز صورة الذات الضعيفة، وبذلك يدخل الفرد في حلقة مفرغة تزيد الاعتمادية على هذه المواد. وغالباً ما ترتبط اضطرابات الطعام، كالبوليميا (تناول كميات كبيرة من الطعام بشكل قهري أي غير طوعي) أو الأنوروكسيا (وهو رفض قهري لتناول الطعام خوفاً من زيادة الوزن) بصورة سيئة عن الذات، وخاصة فيما يتعلق بصورة الجسد «أنا بشع للغاية وأكره جسدي».
اضطرابات الشخصية
أما فيما يتعلق بدور تقدير الذات في اضطرابات الشخصية، وهي اضطرابات مستمرة نوعاً ما، فغالباً ما تكون صورة الذات مشوهة عند الأفراد ذوي اضطراب الشخصية الحدية (وهو اضطراب يتميز بالاندفاعية والخوف من الرفض واضطراب العلاقات العاطفية) ويؤدي ذلك إلى سلوك تشويه الجسد وإيذاء الذات، كالتشطيب بآلة حادة بهدف الإيذاء فقط. في حين أننا نشاهد تقدير ذات مرتفع للغاية ظاهرياً عند الأفراد النرجسيين الذين يرون أنفسهم أعلى مكانة وتميزاً من الآخرين، ولا يشعرون بالتعاطف مع الآخر، ولكنهم في الحقيقة يخبئون وراء هذا التقدير شديد الارتفاع شكاً كامناً في اللاوعي بقيمة الذات. لذا نراهم يبحثون عن ضحية ضعيفة يسيطرون عليها في محاولة إثبات صورة الذات الفوقية وتسكين الشك.
اضطرابات الصدمة
أما اضطرابات الصدمة فتترك أثراً سلبياً للغاية على تقدير الذات. وقد أشار أولانو في مقاله إلى أنه غالباً ما يوجد شعور بالذنب والخزي عند ضحايا الصدمات الناتجة عن العنف أو الانتهاكات الجنسية أو غيرها، كما لو أن ما حدث هو خطأ الضحية. وقد يفسر هذا غياب حركة المقاومة في بعض الأحيان عند التعرض للانتهاك، ويفسر حتى قيام بعض الضحايا بالتبرير للمعتدين، كالقول مثلاً: «أبي يضربني لأنني سيء وأَستحقُّ هذه المعاملة السيئة» أو «يحق لزوجي أن يعنفني لأنني أخرج عن إمرته، فأنا أستحق هذا»، أو «لو لم أكن أرتدي ما أرتديه، لما قام باغتصابي، أنا لا أستحق الاحترام». يمكننا أيضاً أن نسقط هذا على الحالة المجتمعية، مثل قول بعض المؤيدين للأنظمة الاستبدادية: «نحن كشعب نستحق أن نعيش تحت حكم العسكر والاستبداد لأننا متخلّفون لا نستحق الحرية». هذه التبريرات تعكس صورة سلبية عن الذات، والأمر قد يكون أشد تعقيداً في حالات الصدمات المتكررة، وخاصة تلك التي تكون ضمن إطار العائلة. أما لدى الناجين من الحروب أو الإبادات، كما عند مازن مثلاً، قد يترك شعور الذنب بسبب الهروب والتخلي عن الأصدقاء والأهل (أو الوطن) أثره على تقدير الذات لديه. فقد يشعر أنه لا يستحق النجاة أو الوجود، وربما هذا ما قد يفسّر انتحار بعض اللاجئين في بلد اللجوء بعد رحلة الهروب الطويلة من الموت في بلدهم الأم.
«دوزنة» تقدير الذات
لا شك في أن دوزنة أو تعديل تقدير الذات هي عملية قد تتطلب بعض الجهد والوقت، والكثير من الصراحة والصدق مع ذواتنا، وقد تنطوي على كثير من الألم والتعب من مواجهة الذات، وهي ربما أصعب المواجهات. ويمكن تغيير تقدير الذات اللامتوازن بشكل واعٍ مباشر عبر، أولاً: النظر إلى الذات بشكل واقعي ومن الخارج؛ أي تحييد الخوف من الحقيقة والسعي لرؤية النفس كما هي وفهم حاجاتها الخاصة وتحديدها، وبالتالي التمكُّنُ من رؤية جوانب الضعف والقوة. ثانياً: تَقبُّلُ الذات كما هي؛ أي تَقبُّلُ الجوانب السلبية، والعمل على تلافيها إن أمكن، وإن لم يمكن، فلا بأس، فهي تشكل جزءاً من الشخصية والذات والتفرّد. ومن الأفضل تقبلّها وفهمها بدل رفضها، فأن أرفض خوفي من الظلام وألّا أعترف بوجوده لا يعني أنني تخلصت منه. ثالثاً: حب الذات وتقديرها واحترامها؛ فتقبّل ذواتنا بأخطائها ونجاحاتها يؤدي إلى حب الذات كما هي ولأجلها، وهذا يعني التسامح مع الضعف والإخفاقات التي تمر بها دون تضخيم أو تبخيس قيمتها، وفهمها والتعلّم منها دون تطبيق محاكمة أخلاقية. وهذا أيضاً يعني إدراك قوتنا ونجاحاتنا ورؤيتها دون تبخيس أو تضخيم في قيمتها، وبالتالي تشكيل نظرة متوازنة قائمة على أساس الحب غير المشروط والتسامح مع الذات، وعلى أساس أن الفشل هو جزء من النجاح، وليس نقيضه، وأن «حب الذات لا يمنع الألم أو الشكّ عند المرور بالصعوبات، ولكنه يحمي من اليأس».من كتاب تقدير الذات (L’Estime de soi) للكاتبين الفرنسيين كريستوف آندريه (Christophe André) وفرانسوا لولور (François Lelord).