توقفت حركة العائدين إلى قرى وبلدات جبل الزاوية ومدينة أريحا، وذلك نتيجة القصف المدفعي والصاروخي الذي استهدف المنطقة، وأسفر عن مقتل ستة أشخاص خلال الأسبوع الماضي. وشهدت الأيام التسعة الأولى من شهر تشرين الثاني مقتل خمسة وعشرين مدنياً، بينهم سبعة أطفال، في مناطق سيطرة فصائل المعارضة في ريف إدلب، التي تم استهدافها من قبل قوات النظام والقوات الروسية، في خرق مستمر للهدنة التي تم الاتفاق عليها في آذار الماضي مع الجانب التركي.
مرارة النزوح أجبرت السكان على العودة
توضح الأرقام التي وثَّقَها فريق استجابة سوريا خلال شهر آب الماضي أن 33.37% من النازحين عادوا إلى بلداتهم وقراهم، مُقدِّرةً أعدادهم بنحو ثلاثمائة وسبعة وأربعين ألف شخص من أصل مليون شخص نزحوا جراء الحملة العسكرية التي نفذها النظام وحلفاؤه مطلع العام الجاري، بينما قَدَّرَ الفريقُ نسبة النازحين غير القادرين على العودة إلى مناطقهم بسبب سيطرة النظام عليها بـ 45.09%، والمهجرين الوافدين من محافظات أخرى وغير قادرين على العودة إلى المناطق التي نزحوا إليها سابقاً بـ 7.98%.
يقول مصطفى الحمادي، وهو مُدرِّسٌ وعائدٌ إلى قرية بليون في جبل الزاوية، إن عدداً كبيراً من السكان عادوا إلى بيوتهم، وتختلف نسب العودة بين قرية وأخرى، إلا أنه يصفها بـ «العودة الكبيرة» إلى بعض هذه القرى، خاصة تلك البعيدة عن خطوط التماس.
كيفما تنقلت في قرى جبل الزاوية تجد عائدين إلى المنطقة، باستثناء بعض القرى التي تحولت إلى خطوط جبهة مثل قريتي كنصفرة وبينين، بينما تشهد قرى أخرى عودة كبيرة، سواء لسكانها أو النازحين إليها من مناطق أخرى، مثل أورم الجوز ومعراته وبسامس، وكذلك مدينة أريحا التي سجلت أعلى نسبة من العائدين.
لا يمكن تفسير النسبة المئوية والتي توضح عودة نحو ثلث النازحين إلى قراهم دون أخذها في سياقها الكامل، وذلك من خلال حساب عدد النازحين الذين لا يستطيعون العودة بسبب سيطرة قوات الأسد على مناطقهم، والذين تزيد نسبتهم عن نصف النازحين، ما يعني أن القسم الأكبر من النازحين الذين ما تزال قراهم وبلداتهم غير محتلة قد عادوا فعلياً إليها، مع ما يرافق هذه العودة من تخوّف ونقص في الخدمات العامة.
يفسّر المحامي إسماعيل الموسى، رئيس المجلس المحلي في بلدة شنان بجبل الزاوية، هذه العودة بمعاناة السكان في خيام النزوح، ما أجبرهم على تركها والعودة إلى منازلهم أياً كانت الظروف التي تحيط بهم.
مصطفى اليوسف طالب جامعي، وأحد العائدين إلى قريته في جبل الزاوية، وهو يرى أن العودة الجزئية التي تمت خلال الأشهر الماضية، والتي أُطلِقَ عليها «عودة المواسم»، دفعت جزءاً من السكان للاستقرار في مناطقهم من جديد. كذلك يقول اليوسف إن حياة الخيام وما تحمله من مصاعب، خاصة في فصل الشتاء، كانت سبباً رئيسياً في اتخاذ القرار بالعودة، إذ شهدت الأسابيع الماضية تأَثُّرَ ما يزيد عن خمسين مخيماً بمياه الأمطار، بعضها تَعرَّضَ للغرق. كذلك وباء كورونا الذي انتشر في المنطقة، وتَخوُّفُ السُكّان من الاكتظاظ الموجود في المخيمات التي ينعدم في معظمها القدرة على التباعد الاجتماعي، خاصة في استخدام المرافق العامة كصنابير المياه والحمامات.
يقول اليوسف إن «المنطقة غير مستقرة، السكان متخوفون من الخروقات اليومية والقصف، لكن قلّة استخدام الطائرات توحي بحالة من الأمان الذي يتعلق به السكان للبقاء في منازلهم».
توقف العودة ونزوح بسيط بعد الضربات الأخيرة
يقول أحمد فاتح سعدو رئيس المجلس المحلي في مدينة أريحا إن حركة نزوح معاكسة، وصفها بالبسيطة، حدثت بعد الضربات الأخيرة على المنطقة، وقدر عددها بثلاثة آلاف شخص من أصل نحو تسعة وأربعين ألفاً وخمسمائة عائد إلى مدينة أريحا خلال الأشهر الأخيرة.
بينما يؤكد محمود قرقناوي، رئيس مجلس أورم الجوز المحلي، أنه لم يحدث أي نزوح معاكس من البلدة، التي قَدَّرَ عدد العائدين إليها بنحو تسعة آلاف وثمانمائة شخص، بينهم ألفان ومئة شخص من سكان القرى المجاورة المقيمين في البلدة. والأمر ذاته في قرية شنان أيضاً، إذ أكد الموسى عدم نزوح أي من العائدين إليها، والذين يبلغ عددهم نحو ألفين وسبعمائة وخمسين شخصاً بينهم عشر عائلات نازحة أصلاً من مناطق أخرى.
وقد بلغ عدد النازحين عكسياً، الذين سجلهم فريق استجابة سوريا، نحو ألف وسبعمائة وأربعة وتسعين شخصاً، بينما توقفت العودة بشكل كامل. ويرى من تحدثنا معهم من العائدين أن الهدف الرئيسي من وراء ما أطلقوا عليه «الاستهداف العشوائي» هو دفع السكان الذين عادوا إلى قراهم للنزوح من جديد، وإجبارهم على ترك منازلهم، وهي سياسة تتّبعها قوات النظام وحلفاؤها للسيطرة على المنطقة، ويتوقعون تصعيداً في عدد الضربات خلال الأيام المقبلة لفرض تفاهمات معينة. إلا أنهم يقولون إنهم لن يتركوا منازلهم مجدداً بعد أن خبروا النزوح لمرات كثيرة.
يقول الموسى إن هناك فارقاً بين ما حدث في بداية العام من نزوح وبين الواقع الحالي، إذ ينتظر باقي النازحين بعض الاستقرار للعودة، حتى مع الخروقات المستمرة التي طالما عاشوا مثيلاً لها خلال السنوات الماضية.
الاستجابة الضعيفة لا تمنع النازحين من العودة
يقدر فريق استجابة سوريا نسبة الاستجابة لاحتياجات لعائدين بـ 11.17%، ويقول أحمد فاتح سعدو إن المراكز الخدمية الأساسية قد عادت للخدمة في أريحا، إذ يوجد نحو خمس عشرة مدرسة عاملة، وثلاثة أفران خبز وثلاثة نقاط طبية، بينما تفتقر المدينة للمشافي الجراحية.
فيما تتفاوت الخدمات الرئيسية بين قرية وأخرى، ويقول محمود قرقناوي إن منظمة إنسانية تخدم بلدة أورم الجوز بالمياه وسلل النظافة، كذلك تعمل منظمة نسائم الخير على توفير الخبز، بينما لا تتلقى المدارس أي دعم، مع توقف للمستوصف الرئيسي، إذ لا توجد حالياً أي نقطة طبية عاملة في البلدة.
ويؤكد فائز يد، عضو سابق في مجلس أورم الجوز المحلي، أن سكان البلدة لا يتلقون أي مساعدة غذائية، وتقتصر المساعدات على توزيع الخبز المجاني وفق مشروع لمدة ثلاثة أشهر، والمياه بمعدل خمسة عشر برميلاً للعائلة شهرياً.
كذلك الحال في بلدة شنان، إذ أكد رئيس مجلسها المحلي عدم وجود الكهرباء في البلدة، ويعتمد العائدون على مياه الصهاريج للشرب وعلى نفقتهم الشخصية، بينما يقدر نسبة الخدمات التعليمية بنحو 50% بسبب نقص الكوادر التدريسية والدعم، وكذلك قلة أعداد الطلاب الملتحقين بمدارسهم.
من خلال حديثنا مع أشخاص في بلدات مختلفة من جبل الزاوية، أكدوا على توفر المواد الأساسية للحياة كالخبز ودكاكين الخضار والفاكهة والصيدليات والإنترنت، لكنهم تحدثوا عن ضعف وصول المساعدات الإنسانية للمنطقة، وكذلك خدمات الرعاية الصحية، خاصة المشافي، وارتفاع أسعار المواد المتوفرة رغم ما يعيشونه من ظروف وتصنيفهم تحت خط الفقر.
تقول نوال المحمود، وهي أم لثلاثة أطفال في جبل الزاوية، إنها لم تستلم أي مساعدة غذائية منذ عودتها قبل ثلاثة أشهر، وإنها دائماً ما تفاضل بين قرارها بالبقاء أو النزوح، إلا أنها آثرت البقاء في منزلها رغم ما وصفته بـ «حياة الفقر التي تعيشها وأقرانها في القرية». وتتساءل نوال عن سبب إهمال الاستجابة للعائدين، تقول «حين كنت في المخيم كنت أحصل على المياه والكهرباء وسلة إغاثة وأحياناً مبالغ مالية، فلماذا يتركوننا الآن؟ من المفترض أن يدعمونا للعودة لأننا حالياً نعيش في منازلنا دون أن نسبب لهم أي أعباء إضافية، ناهيك عن وجود أسمائنا في قوائم الدعم لديهم، فلماذا لا يقدمونها لنا هنا؟».
يخبرنا الموسى أن نقص الخدمات لم يمنع السكان من العودة التي كانت تزداد في كل يوم. توضح الأرقام وشهادات من تحدثنا معهم هذه الزيادة، ومع توافر الخدمات اللازمة يبدو واضحاً أن هذه المناطق ستشهد عودة شبه كاملة.
يسعى سكان قرى جبل الزاوية إلى قليل من الأمان بعد أن أتعبتهم حياة الخيام، ولن تفلح محاولات إفراغ المنطقة من جديد عبر الخروقات التي تقوم بها قوات النظام في ليّ أيديهم وإجبارهم على النزوح. كلّ ما يقلقهم اليوم هو احتمال تَقدُّم بري يُحوِّلُ قراهم إلى «مناطق محتلة» كما يصفونها، وهو الأمر الوحيد الذي يمكن أن يدفعهم إلى النزوح مجدداً كما يقولون. أما ما دون ذلك، فإن أغلب العائدين الذين تحدثنا إليهم قالوا إنهم يفضّلون «الموت في منازلهم على العودة إلى الخيام، التي ستُغرقها مياه الأمطار شتاء، وتجبرهم على الهرب من حرارتها صيفاً، في ظل خصوصية معدومة وقهر يكاد لا ينتهي».