يُعَدّ مسلسل فوق السقف، الذي أنتجته المؤسسة العامة للإنتاج التلفزيوني والإذاعي وبثته الفضائية السورية في رمضان 2011 (فترة الاستهلاك الاستثنائيّة للأعمال التلفزيونية)، أوّلَ محاولة درامية رسمية لتقديم صورة عن الثورة التي كانت قد اندلعت في البلد قبل عدة أشهر. يتناول العمل، بصورة عامة، الانقسامات العائلية والاجتماعية من منظور تداعيات الثورة على حياة السوريين اليومية، مستعرضاً، على سبيل المثال، حكاية المُسنّ الذي يوقعه استخدامه المفرط لفايسبوك في المتاعب؛ أو العروسين الشابّين المختبئين في منزلهما في انتظار انتهاء المواجهات الليلية؛ أو المرأة التي تلتحق بموكب متظاهرين هرباً من وحشيّة زوجها.

ينتمي المسلسل إلى صنف الأعمال الساخرة، الذي ساهم في تحقيق شهرةٍ واسعةٍ للمسلسلات التلفزيونية السورية المعروفة باسم «الدراما السورية». يأخذ هذا الصنف من المسلسلات شكلَ حلقاتٍ تُقارب مدّتها العشرين دقيقة، وتُعالِج مسائل اجتماعية حسّاسة. وقد سبق لمخرج المسلسل سامر البرقاوي أن شارك، بالتعاون مع عدد من كتّاب السيناريو، في إنجاز مسلسل بقعة ضوء الساخر (عُرِضَ منه 14 جزءاً منذ 2001).

عرفتِ المسلسلات السورية نجاحاً متزايداً في الفضاء التلفزيوني خلال العقد الأول من الألفية الثالثة، ليس في سوريا فحسب، بل على المستوى العربي، مستفيدةً من صعود نجم القنوات الفضائية الخليجية التي موّلت عدداً لا بأس به من هذه المسلسلات. وقد شكّل البعد السياسي للمسلسلات المسمّاة بـ«الاجتماعية» موضوعاً للنقاش والتساؤل في الحقل الأكاديمي: هل توفّر هذه الأعمال وسيلة «تنفيس» فعليّة تتيح مقاربة مسائل حسّاسة، أم أنها، على العكس من ذلك، خلطةٌ نقدية من صنيع نظام يريد تصدير صورة إصلاحية عن نفسه؟انظر على وجه الخصوص: ميريام كوك، «سورية الأخرى: صناعة الفن المعارض»، الدوحة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2018؛ دوناتيلّا ديلا راتّا، «دراما الدولة الاستبدادية» (بالإنكليزية)، موقع Middle East Report Online، منشور بتاريخ 7 شباط/فبراير 2012؛ ريبيكا جوبن، «مقاومة في ظل استقطاب النظام حول مسلسل بقعة ضوء 2001-2012» (بالإنكليزية)، نشرة Middle East Journal، المجلد 68، العدد 1، 2014؛ ليزا وادين، «السيطرة الغامضة: السياسة، الخطاب والرموز في سورية المعاصرة»، بيروت، رياض الريس للكتب والنشر، 2010. لا تسمح نقاشاتٌ كهذه، تدور بشكل أساسيّ حول العلاقة بين شخصيات الدراما والسلطة، بفهم كيفية قيام مسلسل مثل فوق السقف بمحاولة تأطير سرديّ للثورة، عبر إلقائه الضوء على أمور معيّنة، وإبقائه أموراً أخرى في العتمة.

يكشف سياق إنجاز وعرض المسلسل عن المعاني السياسية التي تحملها، في نظر دوائر السلطة، مسألةُ تصوير الثورة. إذ يعكس المسلسلُ المواقفَ –المتباينة في بعض الأحيان– السائدة في مختلف الدوائر المحيطة بالرئاسة. فمن جهة، كان المقربون من بثينة شعبان، مستشارة بشار الأسد، ينادون بـ«حلّ» ما كان يجري في شوارع البلد بطريقة «فنية»، في حين كان الذين يجسّدون الخط الأكثر تشدّداً يعارضون أيّ شكلٍ من أشكال الحواروناتيلّا ديلا راتّا، «بين تصوير الثورة وقتلها: الإعلام المرئي والحرب في سوريا»، لندن، منشورات بلوتو برس، 2018، ص 38.. وقد سُمِحَ بعرض المسلسل، في اللحظة الأخيرة، بعد تدخّلٍ مباشرٍ من القصر الرئاسيالمرجع السابق نفسه، ص 39.. هذه النزعات المتناقضة داخل جهاز الدولة حاضرةٌ حتّى في ظروف عرض المسلسل، إذ بُثَّت الحلقات الهادفة إلى إقامة «مساحة للحوار» مُرفقَةً بشريطٍ أخباري، أسفل الشاشة، يركّز بشكلٍ أساسي على أفعال «العصابات المسلّحة» و«الإرهابيين»، بما يتماشى تماماً مع موقف الذين يستبعدون أي نقاش مع المعارضة. لكن محاولة احتواء الثورة هذه، عبر الدراما الساخرة، لم تدم طويلاً، رغم أنها جاءت برغبةٍ من السلطات وبدعمٍ من وزير الإعلام حينها، عدنان محمود، الذي كان قائماً على هذا المشروع ريبيكا جوبن، «سياسة الحب: الجنسانية والجندر والزواج في الدراما التلفزيونية السورية»، بليموث، منشورات لينكسينكتون بوك، 2013، ص48.. فبعد إيقاف عرضه لعدّة أيام، جرت إعادة بثّ المسلسل، لكنه عاد واختفى من الشاشات بعد الحلقة الخامسة عشرةبدأت وسائل الإعلام تتناقل خبر إيقاف عرض المسلسل اعتباراً من 26 آب/ أغسطس 2011.، وذلك رغم حذف مشاهد منه ومنع حلقات كاملة من العرض، ورغم أن حلقات أخرى منه كانت قيد التصوير ريبيكا جوبن، سياسة الحب…، مرجع سابق، ص 51-52.. كان معن حيدر، مدير الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون في ذلك الوقت، الشخص الوحيد الذي تحدّث عن توقّف المسلسل بشكلٍ مفاجئ، معيداً الأمر إلى عدم الانتهاء من إخراج بقية الحلقات، وواعداً بعودة المسلسل ما إن تُنجزَ هذه الحلقات دوناتيلّا ديلا راتّا، بين تصوير الثورة وقتلها…، مرجع سابق، ص 39.، وهو ما لم يحصل أبداً.

إلى أي مدى استطاع مسلسل فوق السقف معالجة الثورة؟ وما هي حدود تصويره لها؟ أثناء تحليلنا عدداً من المقاطع المقتطفة من حلقتين هما غاية بالإفادة، باعتبارهما تتناولان الثورة بشكلٍ مباشرٍ عبر عرضهما للمتظاهرين السلميين، نرى أنَّ المسلسل يبدو محكوماً باستحالة معالجته لمطالب هؤلاء المتظاهرين وللقمع الذي يتعرضون له. سننظر، في السطور التالية، أول الأمر، في كيفية قيام المسلسل بمقاربة وتصوير بعض الأحداث التي وقعت أثناء الثورة. ثم سنتوقف، في خطوةٍ ثانية، عند حلقتين منه تُظهران بوضوح استحالة إظهاره القمع، الذي يبدو أشبه بالنقطة العمياء فيه. كما سنبيّن أن المتظاهرين، المُمثَّلين بشبابٍ دائماً ما يكونون قليلي العدد، لا يشكّلون إلا عنصراً ثانوياً في المسلسل: فهم إمّا مُبعَدون من الشاشة، وإما حاضرون فيها لكنْ بأدوار ومقولات مفرغة من أيّ معنى وأثر. هكذا، تطلّ هذه الشخصيات، الممحوّة تماماً، في إطار علاقة شديدة اللاتكافؤ على مستوى الصورة وعلى مستوى السرد.

إحالاتٌ متفرقة إلى الثورة

يشتمل المسلسل على العديد من العناصر المرتبطة مباشرةً بالثورة التي يستحضرها بأسلوبٍ تلميحيّ. كان مقرراً للعمل أن يحمل عنوان «الشعب يريد»ريبيكا جوبن، سياسة الحب…، مرجع سابق، ص 51.، في إشارة إلى شعار «الشعب يريد إسقاط النظام» الذي رفعه متظاهرو الانتفاضات العربية بين عامي 2010 و2011. لكنّه جرى استبدال هذا العنوان المُفرط في مباشرته وقلّة لباقته، بـ«فوق السقف»، الذي يحيل إلى بيان «تحت سقف الوطن»، المنشور بتاريخ 29 آذار (مارس) 2011 على موقع فيسبوك، والذي توجّه فيه عددٌ من نجوم المسلسلات المتلفزة، على وجه الخصوص، إلى رأس السلطة الحاكمة مطالبينه بتنفيذ إصلاحاتٍ مثل إيقاف العمل بقانون الطوارئ. لا شكّ أن صانعي المسلسل أرادوا التلميح إلى خطاب لبشار الأسد ألقاه في أيار (مايو) 2011 واستخدم فيه، هو أيضاً، مجاز السقف الذي لا بدّ لأبناء الوطن من أن يجتمعوا تحته دوناتيلّا ديلا راتّا، بين تصوير الثورة وقتلها…، مرجع سابق، ص 39.. كما أن عنوان حلقة «بيان الخبز» يشكّل إشارةً واضحةً إلى «بيان الحليب»، الذي وقّع عليه ممثلون وكتاب سيناريو ومخرجون دراميّون، وطالبوا فيه القوّات المسلّحة برفع الحصار عن مدينة درعا. في هذه الحلقة، ينشب خلافٌ في موقع تصوير أحد المسلسلات بين ممثلَّيْن يتّهم أحدهما، وهو مؤيد للنظام، زميله بالخيانة لتوقيعه على أحد البيانات. لكنّ المسلسل، بتناوله لهذا الانقسام الذي مرّت به الدراما السورية، يركّز بشكل أساسي على الخلافات التي تعتريه، وليس على الثورة في حدّ ذاتها، إذ تضع هذه الحلقة عالمَ المسلسلات التلفزيونية في مركز الأحداث، موليةً اهتماماً كبيراً لبعض نجوم الدراما الذين شاركوا في النقاش العام مستفيدين من شهرتهم سيسيل بويكس، «مشاركة الفنانين في الانتفاضة السورية: أنماط الفعل وحدود الالتزام السياسي»، أمين علال وتوما بييريه (تحرير)؛ «في قلب الثورات العربية: صيرورة وثوّار»، باريس، منشورات أرمان كولان، 2013، ص 87-108.، والذين جرت تبرئتهم، فيما بعد، من تهمة الخيانة من قِبل بشار الأسد شخصياً، وذلك إثر قيام عددٍ من زملائهم بمهاجمتهم وبالمطالبة بمنعهم من العمل ريبيكا جوبن، سياسة الحب…، مرجع سابق، ص 51.. يكشف خيار العودة درامياً إلى هذه الأحداث عن انغلاق الدراما على نفسها وضعف قدرتها على تصوير ما يجري خارج عالمها الصغير. وعندما تحاول الدراما تصوير ما يجري خارج عالمها، فإنها تلفظ الواقع خارج الشاشة، كما هو الحال في الحلقتين اللتين تحملان عنوانَيْ «مظاهرة مرخّصة» و«دو ويَكّ»، اللتين تستعرضان الثورة بشكلٍ مباشر.

لا نرى شيئاً، وبالكاد نسمع

حلقة «مظاهرة مرخّصة» مبنيّةٌ حول إجراء قسريّ تبدو فيه الشخصيات المُسانِدة للثورة أشبه بالأسرى الذين لا يملكون أي مجال للتصرّف. يقوم ضابط رفيع المستوى في الأجهزة الأمنية بتكليف شباب، معروفين بمعارضتهم، بمهمّة تنظيم مظاهرة من المنتظر أن تقوم كاميرات التلفزيون السوري بتصويرها، بهدف إثبات انفتاح النظام على مطالبهم. لا يجد المعارضون الشباب خياراً آخر أمامهم سوى الامتثال لتوجيهات السلطات. تظهر لنا شخصياتهم فقيرة بالتفاصيل وكأنها لم تنل من البناء إلا الحدّ الأدنى، في مسعىً لتجنّب الانقسامات. يمكن لنا أن نستشفّ من الإطار السردي للحلقة أن هؤلاء الشباب ينتمون إلى الطبقة المتوسطة المدينية؛ هذا ما تدلّ عليه ملابسهم (بنطال جينز وفوقه قميص أو تي شيرت)، والأماكن التي يترددون عليها (مقهى شعبي يصدح فيه صوت فيروز أو محلّ فول وفتّة)، وكذلك وسائط النقل التي يستخدمونها (السرفيس).

أما أسماؤهم (عامر ونبيل ورانيا وجمال)، فلا تسمح بتحديد انتماءاتهم الدينية، إذ يمكن للمسلمين والمسيحيين أن يحملوها. تبقى هذه الشخصيات باهتة وهشّة البناء، لا سيّما في ما يخصّ دوافعها السياسية. فنحن إزاء ثلاثة شبّان وفتاة يُقدَّمون إلينا بوصفهم معارِضين؛ نراهم يتناقشون في أحد المقاهي بحماسٍ حول إمكانية تنظيم مظاهرة (لقطة 1)، فيما يعبّر أحدهم عن تحفّظه على المشاركة خوفاً من اعتقاله. لكنّ الأسباب التي تدفع الشباب للنزول إلى الشارع تبقى شديدة العمومية، وتقتصر على استحضارهم أفكاراً حول التغيير والديمقراطية.

لقطة 1

نعثر أيضاً على غياب الدوافع السياسية في «دو ويَكّ». تدور هذه الحلقة حول قمع مظاهرة في قريةٍ نائية، حيث يُفاجأ رئيس المخفر والمختار بدخول متظاهرين إلى المخفر الذي يلعبان فيه الطاولة. هنا، تُختزَل الثورة إلى مجرّد خلاف عائلي، إذ نكتشف أن سعيد، الذي يقود المظاهرة، والذي يجري إحضاره مع بقية المتظاهرين بالقوّة إلى المخفر، ما هو إلا ابن المختار. لا تحظى شخصية سعيد بأي تعريفٍ آخر غير علاقتها بسُلطة ثلاثية الحدّ: السلطة العائلية والإدارية التي يمثّلها والده، وسلطة الدولة التي يمثلها رئيس المخفر. أمام ردة فعل المختار وتوبيخِه ابنَه كما لو كان طفلاً ارتكبَ حماقة، يتدخل رئيس المخفر ويعطي الشاب محاضرةً في حسن التصرّف، موجهاً له اللوم على سلوكه غير المسؤول وغير اللائق بشخصٍ مثله يُعتبَر مثالاً يُحتذى به في القرية. وعندما يطلب رئيس المخفر من سعيد التعهّد بعدم المشاركة مرة أخرى في المظاهرات، تكون شخصية الشاب المعارض قد اختُزلت تماماً إلى طفلٍ مجرّدٍ من أي دافع سياسي.

لقطة 2

إضافةً إلى فقرها السياسي، تتصف الشخصيات الراغبة بالتظاهر بعدم قدرتها على التحرّر من قبضة الشخصيات التي تمثّل السلطة. في حلقة «مظاهرة مرخّصة»، يمثّل الضابطُ (ورتبته مقدَّم) الشخصَ الذي يَظهر عارفاً بمجريات الأحداث، وتَفوقُ معرفته، التي يشاركها مع المشاهد، معرفةَ بقية الشخصيات. في أحد المشاهد، يخبر هذا المقدَّمُ مساعداً له برغبته في جعل بعض الشباب ينظّمون مظاهرة، بهدف تلميع صورة النظام وإظهار تسامحه. ولتنفيذ ذلك، يقوم المقدَّم، بنفسه، بتكليف شباب معارضين بمهمة تنظيم المظاهرة، ويدعو كل قنوات التلفزة لتغطيتها. على أنَّ تقديم الأمور على هذا النحو يضع المتظاهرين، بشكلٍ واضح، في موضع الدمية التي يجري التلاعب بها.

لا تنعكس السُلطة التي تمارسها شخصيات النظام باختيارها المكان الذي تجري فيه المواجهة (المخفر في حلقة «دو ويكّ») فحسب، بل أيضاً بالطريقة التي تقوم من خلالها الشخصيات بتأدية الحكاية. إذ يجري تشييء المظاهرة بعرضها من وجهة نظر شخصيات السلطة، ما يضع المشاهد بعيداً عن الزخم الذي يحرّك المتظاهرين الشباب. ينعكس هذا الخيار، على وجه الخصوص، في المونتاج الذي ينقلنا من نظرات المختار ورئيس المخفر القلقة، وهما يلعبان الطاولة، إلى موكب المتظاهرين.

لقطة 3

ثمة، في حلقة «مظاهرة مرخصة»، مشهدان يشيران أيضاً إلى أنه لا يمكن تناول الثورة إلا في إطار تحدّده السلطات. في المشهد الأول، يجري استدعاء عامر، الشاب الذي يسعى إلى الانخراط أكثر في الثورة، إلى مكتب المُقدَّم. يسمح لنا كادر اللقطة بمتابعة تقدّم الشاب، في حقل الصورة، نحو المكتب الواسع الذي يجلس وراءه المقدَّم. لا ينهض هذا الأخير من كرسيّه عند وصول عامر، بما من شأنه التأكيد على العلاقة الهرمية بينهما. فجأة، يغيّر الضابط من نبرته، أما عامر، فلا يفارقه الخوف، كما يتّضح من تعابير وجهه وطريقة حكيه التي تلامس الغمغمة. مثلاً، يقول الضابط، بنبرة مبالغ في لطفها: «أنا دائماً مكتبي مفتوح للشباب وطموحاتهم وطلباتهم». لكن هذا اللطف سرعان ما يختفي عندما يبدي الشاب عدم رغبته، هو وأصدقاؤه، في تنظيم هذه المظاهرة المصطنعة. لكن الضابط يُفهِمُ الشاب أن رفضهم للطلب سيعني توقفيهم. يأخذ المشهد إيقاعاً تحكمه لقطات ولقطات عكسية لوجهي الشخصيتين، بما يشير إلى مواجهة لا يستطيع الشاب الفَكَاك منها.

لقطة 4 

هكذا، يجري تصوير المتظاهرين الشباب كأشخاصٍ يتحكّمُ بهم عناصر الجهاز الأمني. أما المشهد الثاني، الذي يتناول المظاهرة، فيحتوي في ثناياه كل الازدواجية التي يقوم عليها المسلسل. كما هو الحال في اللقاء مع الضابط، لا يمكن للمظاهرة أن تجري إلا في إطار تحدّده السلطات. الثورة، كما تظهر هنا وكما يجب لها أن تُصوَّر من قبل كاميرات التلفزيون داخل الفضاء السردي، محصورة تماماً في إطارٍ يضعه النظام.

لقطة 5

هنا، يأتي عناصر الشرطة، بخوَذهم ودروعهم، ليزيدوا من الانطباع بالمحاصرة والتأطير الذي تُظهره اللقطة العُلوية للمتظاهرين وقد جرى تطويقهم، وكذلك اللقطات التي ترافق الحديث بين الضابط والمتظاهرين. أمّا وجهة نظر المتظاهرين، فنادراً ما يجري التصوير انطلاقاً منها، اللهمّ إلا في لقطة التتبّع الطويلة، الجانبية، التي تفتتح المشهد وتضعنا أمام حائطٍ من الدروع.

لقطة 6

ظهور الضابط، الذي يحميه الطوق الأمني، في موضع مرتفع نسبياً مقارنةً بالمتظاهرين، يأتي ليؤكد على عدم توازن القوى. فمن يدير النقاش هو المُقدَّم، الذي يتصرّف مثل مخرج مسرحيةٍ تجري في الهواء الطلق، ويشكّل عناصرُ الشرطة حدودَ خشبتها. هكذا، يفرض الضابط الحوارات على الشباب الذين يقومون، في نهاية الأمر، بلعب دور المتظاهرين:

– شو بتحبّ نهتف، سيادة المقدَّم؟ يقول عامر.

– لك شو إلكم بالعادة تهتفوا؟ يسأله الضابط.

– يعني نحن… نحن بالعادة منهتف «حريّة، حريّة».

– إي خلص، قولوا «حرية»!

ما نحن إزاءه، إذاً، هو تقليد فعل التظاهر. لكنّ المفارقة، هنا، هي أن شعارات الثورة تُردَّد تحت الإكراه، وكأنه يستحيل للنظام إرخاء قبضته.

لقطة 7

أمام برودة الشباب في ترديد الشعار، يعطي الضابط تعليماته على طريقة مايسترو الأوركسترا. بعد جعلهم يصطفّون في وضعية انتباهٍ واستعدادٍ عسكرية، يأمرهم بالهتاف بصوتٍ عالٍ يُمكنُ سماعه من آخر الشارع، ويشرح لهم كيف يردّدون كلمة «حريّة».

لقطة 8

بعد ذلك، يأمر الضابطُ الشبابَ بترديد «الشعب والجيش إيد وحدة»، وهو شعارٌ آخرٌ مأخوذٌ من المظاهرات. ومن ثم يقوم الشباب، المُكرَهون والمُتعَبون، تحت شمس حارقة، بهتافِ واحدٍ من أول هتافات الثورة: «واحد، واحد، واحد، الشعب السوري واحد». إذا كان المسلسل قد تضمّن شعاراتٍ جاءت بها الثورة، فإنه اختزلها إلى مهمّةٍ إجبارية، وسَخَّفَ الذين يرددونها.

حتى عندما يُظهر المسلسل مظاهرةً غير مصطنعة، فإن المتظاهرين يبقون محرومين من مساحة أكبر للتصرّف. صحيح أن الشرطة تجهد، في حلقة «دو ويَكّ»، في اقتياد المتظاهرين إلى المخفر، وأنها تبدو وكأنها مقتادة هي نفسها من قِبلهم. وصحيح أن المتظاهرين يصلون المخفر وهم يهتفون «سِلميّة، سِلميّة!»، أحد الشعارات المأخوذة من مظاهرات المعارضة بدءاً من 2011، ومن ثم يرددون، داخل المخفر، شعارات أخرى مثل «ليش خايفين؟ ليش خايفين؟» و«الشعب بدّه حرية، إسلام ومسيحية». لكن، مع تقدّم المشهد، يأتي رئيس المخفر ليفرض نفسه ويدير النقاش حول مطالب المتظاهرين. يُظهِرُ المسؤول نفسَه كشخصٍ طيّب القلب ومنصِت، منضبط وأبويّ، حتى أنه يقوم باستلام ورقةٍ من المتظاهرين كتبوا عليها مطالبهم التي لا يمكن للمشاهد معرفتها. بإعادته الهدوء والانضباط، يستعيد رئيس المخفر زمام السيطرة، مجسّداً شاقوليّةَ السلطة التي تفرض طريقتها بالحوار.

لقطة 9 و10

تظهر استحالة تناول الثورة بشكلٍ أوضح عندما يتعلق الأمر بمسألة تسجيلها بالصورة، وهو أمرٌ وحدها الجهات الرسمية مخوّلةٌ بفعله. في حلقة «مظاهرة مرخّصة»، يمنع الضابطُ الشبابَ من مغادرة «المسرح» قبل أن يجري تصويرهم وهم يتظاهرون، ويرفض مقترح عامر بأن يقوم أحد الشباب بتصوير المظاهرة ونشر التسجيل على الإنترنت، معللاً ذلك بأنَّ الصورة ستكون ضعيفة الجودة في هذه الحالة، وبأنه يريد صورة واضحة. يمكننا، ضمنياً، أن نفهم من هذا أن النظام لا يتسامح مع وجود مصدرٍ آخر لصور الثورة غيره، وهو ما يبدو نوعاً من الاعتراف من قِبل المسلسل نفسه، الذي يتحرك، في نهاية الأمر، ضمن حدود الإطار الذي اختارته السلطات.

في الانقلاب الدرامي الذي تنتهي به الحلقة، سيجري تحويل الشباب إلى مجرَّد متفرّجين على وضعٍ خارجٍ تماماً عن إرادتهم. الضابط/المخرج المسرحي، حين يعلم أن القنوات التلفزيونية التي كان من المفترض أن تنقل المظاهرة المصطنعة قد أخطأت بمكان التجمّع وصوّرت بدلاً من ذلك مظاهرةً حقيقيةً حدثت خلالها اشتباكاتٌ بين المتظاهرين والأمن، يأمر عناصر الشرطة بمغادرة المكان والذهاب إلى موقع المظاهرة الحقيقية. هكذا، يجد الممثلون/المتظاهرون أنفسهم وحيدين في المكان، ويتيح كادر الصورة الوقوف على تعابير الإحباط والحيرة في وجوههم، ولا سيّما وجه عامر الذي يدير رأسه يمنةً ويسرة. عبر ترك الأمور ضبابيةً على هذا النحو، يكون موضوع القمع قد وُضِعَ جانباً، وتُترك الشخصيات بلا تحديدٍ لمصيرها، كما يجري تجاهل سؤال المسؤولية. يطال التعتيم على هذا السؤال حتى الديكور، حيث لا تظهر صورة بشار الأسد معلّقةً في مكتب ضابط الأمن. وما لا يحتويه إطار الصورة تجري إحالته إلى فضاءٍ خارجيّ تتّسم معانيه وشخصياته بالضبابية واللا وضوح. كما يُظهر المسلسل عدم قدرة المتظاهرين الشباب على التصرف إزاء التهديدات التي تبقى خارج الصورة، ولا سيّما تلك التي تبدو أشبه باشتباكاتٍ مسلّحة.

تشهد حلقة «دو ويَكّ» تطوّراً أخيراً بدورها، يعود معه أحد وجوه السلطة ليصبح الشخصية التي تقوم عليها الحكاية، وكأنه الوحيد القادر على مواجهة الموقف. فبعد تسليم المتظاهرين مطالبَهم، تندلع أصوات نيرانٍ لا نعرف مصدرها، خارج المخفر. ويختفي سعيد، الذي كان يقود المظاهرة، من المشهد، في إشارةٍ إلى أنه غير قادر على التعامل مع الوضع. عبر عرضه، في حلقةٍ واحدة، لمظاهرةٍ سلمية ومواجهات مسلحة تبقى خارج الصورة ولا يدرك أحدٌ معناها، يقيم المسلسل استمراريةً بين انقسام المجتمع السوري وخطر الفوضى التي تمثّلها قوى مجهولة لطالما أشار إليها الخطاب الرسمي. وحدها السلطات، كما يبدو، قادرةً على مواجهة هذه المخاطر.

لقطة 11

تبقى مسألة قمع النظام للمتظاهرين خارج الصورة، حتى عندما يحاول المسلسل الاقتراب أكثر ما يمكن منها. في أحد مشاهد الحلقة المعنونة بـ«مختار قدري» نرى مسؤولاً أمنياً يأمر رجال شرطة وشبيحةً بقمع مظاهرة تهتف بشعاريّ «سلميّة» و«حرية». يجري تشييء هذه المظاهرة بعرضها من وجهة نظر ضابط الأمن، حيث يبدو المتظاهرون كحشدٍ مؤلّفٍ من أفراد لا يمكن تمييزهم بل، وأكثر من ذلك، لا تمكن رؤيتهم. وعندما يجري إطلاق النار من خارج الصورة على المتظاهرين، نرى الضابط وحده، ويأتي تعليقه الصوتي ليزيد من التركيز عليه، حيث ينقل لنا أحاسيسه وحيرته في ما يخص التعليمات التي أعطاها، قبل أن يحسم الموضوع بإحالته للقدر، الذي يعني هنا أن لا خيار آخرَ أمامه.

لقطة 12 و13

يختار المسلسل، إذاً، إضفاء صفة الإنسانية على الشخصية التي تمثل السلطة، في حين تُقدَّم المظاهرة كحشدٍ من أفرادٍ بلا هوية وبلا ملامح، مما يكشف عن استحالة تمثيله للثورة وللخطوط الحمراء التي تحكم تناولها على مستوى السرد والصورة.

خاتمة: محاولة لم تدم طويلاً

تشكّل حلقة «مظاهرة مرخّصة» مرآةً لوضع صنّاع المسلسل، فهؤلاء ليسوا بتلك السذاجة ليجهلوا الدور الذي من المفترض أن يلعبه مسلسلهم في تقديم صورة مقبولة للثورة. هم مطالبون بإنتاج حكاية تراعي القيود المفروضة، حتى لو كان ذلك يعني فرض رقابةٍ على أنفسهم، كتلك التي يمارسها المتظاهرون الشباب مع واحدٍ منهم كان ينوي ترديد هتافٍ بطريقةٍ عفويةٍ دون الحصول على موافقة السلطة.

لقطة 14

بعيداً عن لعبة المرآة هذه، يمكن القول إن المسلسل يتطابق، في العديد من الجوانب، مع الإطار السردي الخاص بالنظام. صحيحٌ أنه يُرينا متظاهرين سلميين، إلا أنه يُظهِرهم بصورة باهتة وبلا لحم ودم، متجنّباً كل الأبعاد السياسية لنضالهم. لا تمتلك شخصياتهم الممحوّة أيّ استقلالية. ولا يمكنهم التحرّر من هيمنة شخصيات السلطة التي تحدّد لهم الإطار الذي يتحركون فيه، باعتبار أنه لا يمكن لفعل الاحتجاج أن يُمارَس أو يُصَوَّر إلا شاقولياً، من الأعلى، وعليه أن يتجنّب المساس بالوحدة الوطنية. هكذا، يتجاهل المسلسل، عن قصد، كل ما هو موجود خارج هذا الإطار.

يكشف مسلسل فوق السقف، وكذلك إيقاف عرضه، أن النظام السوري كان يبحث، في ذلك الوقت بالتحديد، أي في آب (أغسطس) 2011، عن طريقةٍ للتعامل مع الثورة، خصوصاً وأنه كان يواجه سيلاً من الصور والمقاطع المصورة التي تُنشَر على الشبكات الاجتماعية. يجد التردّد الذي طبع مسار المسلسل شرحاً له هنا: في نظام يشعر بضرورة الردّ بالصورة، لكنّه ما يزال قيد التجريب والبحث. بهذا المعنى، يشكل المسلسل نوعاً من الاستثناء. ولم يُعْرَض مجدداً ولم يجرِ بيعُه لأيّ محطّة أجنبيّة لإعادة بثّه بعد شهر رمضان دوناتيلّا ديلا راتّا، بين تصوير الثورة وقتلها…، مرجع سابق، ص 39.. بعد تلك المرحلة، اصطبغ مجمل الإنتاج التلفزيوني السوري الصادر عن الجهات الرسمية بلونٍ واحدٍ عبر تبنّيه خطاب النظام الذي يقدّم نفسه على أنه الحصن الوحيد ضد الإرهاب الجهادي، ولا سيما إرهاب تنظيم الدولة الإسلامية.