احتلّت موضوعة استعادة التاريخ مكانةً كبيرةً في كل أشكال الفنون، كالرسم والنحت والمسرح. وكانت الرواية هي صاحبة الحظ الأكبر في التداخل بين الأدب والتاريخ، كونهما يوفران مساحةً للسرد وللخيال. وفي حين أن التاريخ يتناول ما حدث في الماضي، إلا أنه يتحول مع الأدب إلى مساحةٍ شعبيةٍ قريبةٍ من الناس. وإذا أمكننا القول إن الفن الشعبي الذي حلّ محلَ الرواية في عصرنا الحالي هو الدراما التلفزيونية، فمن المنطقي أن تأخذ الدراما التاريخية حيزاً مهماً من متابعة الجمهور واهتمامه.
أصبح من المُتوقَّع في كل رمضان أن يكون المشاهد العربي أمام مجموعةٍ من المسلسلات التاريخية الجديدة التي تركّز على حقبةٍ ما من التاريخ العربي. ومع تقدّم وتغيّر شكل صناعة الدراما التلفزيونية في سوريا منذ تسعينات القرن الماضي، ودخول المشاهد العربي -الخليجي- إلى فضاء التركيز، أصبحت المسلسلات التاريخية أكثر محوريةً بميزانياتٍ تكبر بشكلٍ ملحوظ، وقد كان لهذا النوع من المسلسلات، بالإضافة إلى مسلسلات الفنتازيا التاريخية، دورٌ كبيرٌ في جلب المنتجين العرب -الخليجيين على وجه الخصوص- إلى لعب دورٍ كبيرٍ في الإنتاج والتمويل، لا في الاستهلاك فحسب.
حين نتحدث عن المسلسلات التاريخية في هذا المقال، فإن المقصود هو المسلسلات التي تناولت أحداث ما قبل الحكم العثماني، أما المسلسلات التي تتناول العقود الأخيرة من سلطنة العثمانيين أو الاستعمار الفرنسي، فسيتمّ تصنيفها تحت مسمى المسلسلات الشامية أو مسلسلات البيئة. ورغم أن هذه المسلسلات لعبت دوراً كبيراً في تغيير شكل الإنتاج الدرامي، إلا أنني لن أُصنِّفَها كمسلسلات تاريخية، رغم كونها كذلك من الناحية التقنية. في هذه المقالة، سنتناول وضع المسلسلات التاريخية ومسلسلات «البيئة الشامية» تحت مسمى مسلسلات الحِقَب التاريخية، مبتعدين عن التعريف السائد للفنتازيا على أنها مسلسلات تاريخية، وبذلك تكون مسلسلات الحِقَب التاريخية هي المسلسلات المستمدّة من تاريخٍ حقيقي.
مسلسلات الحِقَب التاريخية والتاريخ
على الرغم من أهمية الدور الذي لعبته مسلسلات الحِقَب التاريخية بمختلف أشكالها في تغيير آليات إنتاج الدراما التلفزيونية السورية، إلّا أنّ هذا التغيير لن يكون مركز الاهتمام في هذه المقالة. فما يُغرينا في الحديث عن تلك النوعية من المسلسلات هو ما يتم التغاضي عنه غالباً، ألا وهو التاريخ، أي مادتها الأساسية. لا شك في أن علاقة التاريخ المتوترة والمعقّدة مع أي نوعٍ فنيٍّ أو أدبي أخذت حيزاً كبيراً من التفكير لدى كثيرٍ من المفكرين، وكانت مادةً لمئات القراءات النقدية لمفهوم التاريخ والحاجة الملحة إليه وتبعات استعادة تاريخٍ معيّن دوناً عن الآخر. نحاول اليوم تحويل التركيز إلى السؤال ذاته بالعلاقة مع المسلسلات، فنسأل عن تلك الحاجة التي تدفعنا دوماً للعودة إلى تاريخٍ للحديث عنه، مع إغفال أن التاريخ، حتى الذي نتفق أو لا نتفق عليه، هو سردٌ معينٌ ومحددٌ من وجهة نظر أحدٍ ما.
هناك أبعاد فكرية وأخلاقية كبيرة عند الكلام عن التاريخ أو التعامل معه كثابتٍ غير قابل للتغيير أو التغيّر وفق معطياتٍ جديدة، أو لدى محاولة إعادة قراءته من وجهات نظر مختلفة قد تكون أقل تمثيلاً ضمن السردية السائدة. ولأن الدراما التلفزيونية السورية اكتسحت كل الفنون المختلفة في سوريا منذ نهاية التسعينيات، فيُعَدُّ النقاش حول حضور التاريخ فيها مغرياً: أولاً لأن الدراما التلفزيونية السورية قدمت نفسها كفن شعبي، وثانياً لأن علاقة هذه الدراما بالواقع تغدو إشكاليةً حين تريد أن تتطرق للتاريخ، وثالثاً لأن المسلسلات التاريخية تُقدّم نفسها على أنها تُقدّم التاريخ كما كُتِب. وهي، وإن كانت آلية للتسويق ولطرح العمل الدرامي بشكل جدي، إلا أنها تسمح لنا بنقدها تاريخياً بشكلٍ جدّي.
الآخر في الدراما التلفزيونية ومسلسلات الحِقَب التاريخية
الآخر والآخريّة هما مفهومان واسعان، وتحديدهما ضمن مجتمع ما يتغير حسب الثقافة والسياق. يكون الآخر خارج النسق، وغير مُطابِق، وصِفاته مختلفة في الغالب، وعليه فقد يحمل أوجهاً متنوعة مثله مثل الأنا. ولكن الآخريّة، من جانبٍ آخر، هي عملية لتركيب صفات غير مرغوبة ومنافية للسائد المفترض أو مخالفة له، لذلك يتم سلب هذا الآخر إنسانيته أو جزءاً منها، وتحديده ضمن كلمات وتعريفات محدّدة، وهذه الآلية الخفية هي التي تصنع وتدير مفاهيم العنصرية والتمييز على مختلف المستويات: الطبقية، والعرقية، والطائفية، والميسوجينية، والجنسانية، وغيرها من التصنيفات والمفاهيم.
السؤال عن آلية الآخرية وصنع الآخر في الدراما التلفزيونية السورية هو سؤال معقد ومُلح. فرغم أن الدراما تقدم شريحةً من المجتمع السوري بكل أطيافه وتعقيداته، إلا أنها تتناسى عناصر كثيرة من حقيقة المجتمع السوري، أو تهتم بتقديم مجتمعٍ «متجانس» هلامي غير واضح المعالم. فصورة السوري/ة المسيحي/ة فيها تعتمد على الحبكة، والتصريح بهويته/ا هو فعل متعمد لقول شيءٍ محدد، كالتآلف الاجتماعي أو تسامح الأديان أو الحب أو الزواج بين أفراد من دياناتٍ مختلفة. قد تتضمن الحبكة الدرامية تصعيداً للأحداث، كأن يتزوج أحد أفراد العائلة امرأةً مسيحيةً كما حدث مثلاً في مسلسل ليس سراباً (2008)، من تأليف فادي قوشقجي وإخراج المثنى صبح، أو قد تكون الحكاية عن «التسامح الديني في سوريا»، فالآخر هنا ذو وظيفة درامية لا أكثر، وفي حال غياب المبرر الدرامي يمكن بكل بساطة الاستغناء عنه.
يُعَدُّ تتبّع وجود الآخر في المسلسلات السورية الاجتماعية أو الكوميدية عملاً شاقاً للغاية، وله أبعاد سياسية على الأغلب. فظهور العائلة المسيحية في مسلسلات رمضان 2012 كان رافداً للمقولة السُلطوية في سوريا حول فكرة «النسيج الوطني الواحد»، فيُمكن بالتالي رصد حضور الآخر وغيابه بالعلاقة مع التوجه السياسي.
أما في المسلسلات التاريخية، يضيف تتبُّعُ الآخر والآخَريّة تعقيداً جديداً للموضوع. فالمسلسل الذي يُقدّم قطعةً من تاريخ البلاد، يُصدِّر نفسه على أنه حقيقي ومبني على وثائق تاريخية، وتتضح نتائج السردية التي ترسمها هذه المسلسلات في طمس الآخر بشكلٍ فعالٍ وخبيث. ويساهم تكرار السرديات الإقصائية في دعم إلغاء الآخر ودعم وجهات النظر التي تراه كدخيل، ومخالف للمقبول، وغريب أو صاحب وجود مستجد نتيجة الاستعمار أو العولمة أو… إلخ.
التاريخ العربي والسوري تاريخ معقد بحد ذاته، ونقاشه يحمل وجهات نظرٍ كثيرة، ولكن الهرب من مواجهته أصبح السمة العامة لكثيرين. وصار من المقبول أو المتوقع لدى المشاهدين تغييب الآخر، ورسم صورة مشوهة له، تذرّعاً بالرغبة في «عدم إثارة أي نزعاتٍ طائفيةٍ أو عرقية» أو عدم تقديم مادة «إشكالية» في رمضان. وعليه، فقد شكّلت مسلسلات الحِقَب التاريخية السورية إنساناً متخيلاً أحادياً ضمن مجتمع «متكامل» يطابقه ويُماثله، وذلك ضمن نسخة واضحة المعالم للتاريخ، لها وجهة نظر يمكن تحديد ناظرها: هي نسخة عربية هويةً وعرقاً، ومُسلِمة إذا أردنا الدقة، سُنيّة المذهب بلا شك، ومحورها رجل ميسور الحال منتصرٌ مغايرٌ جنسياً.
بالعودة إلى مثال التعامل مع المسيحيين في مسلسلات الحِقَب التاريخية، فضمن ما يزيد عن الستين مسلسلاً سورياً منها (دون احتساب الأجزاء لكل مسلسل)، ظهرت في عددٍ قليل جداً شخصيات مسيحية، وسأتحدث عن مسلسلين يتناولان حضور المسيحيين كأفراد فاعلين موجودين في البلد، كلاهما من مسلسلات البيئة الشامية، واحتويا مجموعةً من الشخصيات الأساسية التي كانت مسيحية.
أولهما هو الحصرم الشامي (2007)، كتابة فؤاد حميرة وإخراج سيف الدين سبيعي وإنتاج ريل فيلم، وله ثلاثة أجزاء. حاول المسلسل عرض بعض الجوانب المختلفة والحساسيات المتنوعة وواقع التمييز الذي كان جزءاً من القانون في زمن المسلسل ضد المسيحيين. تم منع عرض المسلسل على القنوات السورية آنذاك بحجة أن هذه المسلسلات «تسيء للدمشقيين وتخدش المجتمع وأخلاقه وقيمه»، وعُرِضَ على قنوات شبكة أوربت التلفزيونية والإعلامية المشفرة.
عَرَضَ مسلسل الحصرم الشامي بعض الأمور التي كانت تعد إشكاليةً وعادةً ما يتم تجنب الكلام عنها، مثل كون المسيحيين ممنوعين قانونياً عن امتطاء الأحصنة حينها، واضطرارهم في بعض الحالات إلى إخفاء دينهم للحصول على القبول الاجتماعي أو الحصول على عمل، بالإضافة لعرض عددٍ من حالات التحرش والتمييز بناءً على الدين من مختلف الأطراف ضد بعضها بعضاً.
المسلسل الثاني هو بواب الريح (2014)، كتابة خلدون قتلان وإخراج المثنى صبح وإنتاج سما الفن الدولية للإنتاج. ارتبط إنتاج المسلسل بالسياق السياسي السوري بعد الثورة، ويتم فيه استعمال مذابح 1860 الطائفية كعِبرة عن نتيجة التدخل الخارجي، ليتم عبره دعم سردية تضع كل اللوم على الجهات الخارجية لما حصل حينها. الإِشكال في سرديات كهذه هو أنها تقوم بإلغاء سياق معقد ما زلنا نعيش آثاره، وتُعفي مرتكبي المذابح وأسلافهم من المسؤولية.
كل الأمثلة التي سبقت ضمن المقالة تناولت وضع عرض المسيحيين ضمن الدراما التلفزيونية، الذين، رغم ندرة تمثيلهم بأي شكل، هم بحالٍ أفضل من أي مجموعة دينية/طائفية أو عرقية سورية أخرى، فهناك تجاهل شبه كامل لتمثيل هذه الفئات والشرائح، أو الاعتراف بوجودها أو حتى الكلام عنها، ويتم دوماً تقديم نسخة من التاريخ تلغي وجودها بشكل كامل. هذا ناهيك عن المجموعات الأخرى الأكثر حساسية أو «إشكالية» مجتمعياً مثل الملحدين، ومجتمع الميم بمختلف أطيافه، وكثيرون غيرهم، رغم تناول المسلسلات التاريخية على وجه الخصوص شخصيات من هذه الفئات مع إسقاط هذه التعريفات عنها.
هل السؤال عن كيفية حضور الآخر في التلفزيون هو تسييس مفتعل؟
يبقى الفن سياسياً بكل أشكاله، واعتبار الفنان نفسه «غير إيديولوجي» هو فعل إيديولوجي بحد ذاته. لطالما كان للمناخ السياسي علاقة مباشرة في التأثير في آليات إنتاج الدراما التلفزيونية عبر مختلف الطرق، وأكثرها مباشرةً هي الرقابة. ومن الواضح أن مزاجية وعدم وضوح حدود الرقابة في سوريا هي أمر مقصود، ويهدف إلى خدمة التوجه السياسي الحالي الذي يدّعي انعدام الرقابة الحكومية. ولكن يمكننا بسرد بعض الأمثلة أن نرى سيطرة أو تسييس مسلسلات الحِقَب التاريخية في سوريا: فعلى سبيل المثال، بعد عرض مسلسلي أخوة التراب (1996) والخوالي (2000) صدر احتجاجٌ من السفارة التركية على مبالغة إبراز العنف العثماني. وفي منتصف العقد الأول من الألفية الثالثة حدث تقاربٌ بين الحكومة السورية ونظيرتها التركية وتم وضع عدة سياسات اقتصادية مشتركة بين البلدين، وكانت إحدى نتائج هذا الاتفاق هو التشديد الرقابي على الأعمال الدرامية التي تناقش الاحتلال العثماني بشكلٍ سلبي. تم منع عدة أعمال وعُدِّلت أعمال أخرى لتتناسب مع هذا التقارب الحكومي الجديد. أصبحت هذه الحقبة تُقدَّم بشكل مختلف، فغابت مشاهد التعذيب أو العنف، وصار الضابط العثماني يتكلم بلهجةٍ أوضح، ويعيش كأحد أفراد الحي، وإن حدث خطأٌ فهو فردي وليس خطأ يمثل منظومة، كما في مسلسل أهل الراية (2008) وما تبعه من أعمال تتناول هذه الحقبة. ثم عادت وانقلبت الآية مع التباعد السوري التركي بعد عام 2011، فتم تغيير التوجه وسُمِحَ بانتقاد الحكم العثماني، حتى أنه تم إنجاز عدة أعمال درامية تلفزيونية عن هذه الحقبة من تاريخ سوريا لهذا الغرض، وكانت من إنتاج حكومي. وفي هذه المسلسلات عاد العثماني ليكون العدو، مثل الأميمي (2012) تأليف سليمان عبد العزيز وتامر إسحاق وإخراج تامر إسحاق، وحرائر (2015 ) تأليف عنود الخالد وإخراج باسل الخطيب.
الحديث أعلاه عن موضوع الرقابة هو طبعاً حديثٌ عن رقابة بلد الإنتاج (وفي هذه الحالة سوريا)، دون نسيان أن المسلسل يتعرض لرقابة أخرى هي رقابة بلد العرض والحدود والشروط الاجتماعية والدينية، خاصةً عند الكلام عن مرحلة ما أو شخصية تاريخية ما، لذلك فإن نقاش آلية طرح التاريخ في مسلسلات الحِقَب التاريخية هو ليس تسييساً لأمرٍ غير سياسي، بل هو نقاشٌ في واقع حال له نتاجه السياسي، وله أبعادٌ أخلاقيةٌ ذات تأثير واسع الطيف.
في النهاية، يبدو أن الأجوبة على سؤال استعادة التاريخ في الدراما التلفزيونية السورية معقّد ومتشعّب. وما حاولناه هنا هو وضع نقاط للتساؤل عن فكرة التاريخ كمادة عرض ضمن الدراما التلفزيونية، فهذه النقاط الحساسة ضمن نسيج المجتمع السوري تتناول السوريين والسوريات الذين لا يرون أنفسهم في الدراما، أو يتم تصويرهم بشكلٍ مشوّهٍ وسطحي، رغم أن الفاعلين في هذه الدراما هم في الحقيقة من كل أطياف هذا المجتمع.