في مقالهم «عن أزمة الإسلام: دفاعاً عن الحق في النقاش»، يُحاجِجُ الكُتَّاب فاروق مردم بك وزياد ماجد وياسين الحاج صالح أنّ جريمة قتل أستاذ التاريخ صامويل باتي على يد عبد الله أنزوروف، قد نصبت فخاً وقع فيه الساسة الأوروبيون بردود أفعالٍ وتصريحاتٍ انفعالية خارجة عن عقالها. يدافع الكُتَّاب عن حق النقاش المتّزن في الشأن الإسلامي، بعيداً عن العصبيات والاستقطابات، ويقدمون تشخيصهم للواقع الذي يفرز ظواهر مثل عبد الله أنزوروف: العدمية الإسلامية في مقابل عدميةِ الحرب على الإرهاب والإسلاموفوبيا. يقول الكتّاب إنّ الحل لهذه المشكلة لا يمكن أن يكون محلياً ولا مجتزأً، وإن على الساسة العالميين النظر إلى العدميتين سويةً، داعينَ مثقفي ومفكري العالم إلى البحث عن حلٍّ عالمي يتجاوز العدميتين ويخفف من وتيرتهما، ويقوم على «مجتمع عالمي متضامن».
ليس لكاتب هذه السطور، وهو مَدينٌ للكُتَّاب الثلاثة بالكثير على المستوى المعرفي والشخصي، مشكلةٌ مع هذا الوصف لحال العالم اليوم. لكن بالمقابل، أرى أن هذا التشخيص ليس لـ«أزمة الإسلام» التي تحدّث إيمانويل ماكرون، وغيره من المسلمين وغير المسلمين، فيها. ليست المشكلة في عدمية إسلامية (التي يصعب في رأيي نَسبُ ولادتها إلى سبعينيات القرن الماضي واصطفافات الحرب الباردة، إلا إذا سَلَّمنا بأنّ تاريخ الإسلام قبل ذلك خالٍ من العدمية)، ظهرت وترعرعت في مجالات عامة مغلقة وأنظمة سياسية قمعية، تغذيها عدمية مقابلة للتيارات العنصرية والفاشية في العالم. المتن الأوسع من المسلمين اليوم يرفضون العدمية الإسلامية، ويُدينون ممارساتها، ولا يرون أنها تمثل دينهم. في الوقت نفسه، يساوي هؤلاء بين الذبح ونشر الرسومات المسيئة وتصريحات القادة الدوليين عن «أزمة الإسلام»، عبرَ تبني معيارٍ أخلاقي استثنائيٍّ ومنفصلٍ عن معايير العالم الأخلاقية السائدة. أرى أن «أزمة الإسلام» التي حريٌّ بنا أن نناقشها ليست تصرفات المتطرفين العدمية، بل تصرفات المتن الأوسع من المسلمين الذين يشكلون أغلبيةً في المجتمعات المسلمة اليوم. المشكلة التي أودُّ أن أناقشها، وأرى أن الكُتَّاب أغفلوها، هي مشكلة الأكثرية المسلمة اليوم، وليس فقط الأقلية العدمية المجرمة.
لعلّه من المفيد إعادة سرد وقائع الحادثة التي رمت العالم في هذه الدورة الهستيرية. أراد صامويل باتي، في نقاشٍ عن حرية التعبير ضمن مادة التأهيل الأخلاقي والمدني، عَرضَ رسوم شارلي إيبدو المسيئة للنبي محمد، ليس بالضرورة لأنه يتبنى أفكار رسّاميها، بل لأنه، كأيّ مدرس، أراد أن يُعرِّضَ طلابه لموادٍ خلافيةٍ وجدليةٍ تتحدى معتقداتهم، من أجل أن يُخضِعَها للنقاش والتحليل. طلب المدرّس من الطلاب المسلمين في الصف أن يتركوا الغرفة إنْ كانت الرسوم ستُثير استياءهم، مُبدياً الحساسية اللازمة تجاه طلابه المسلمين. إحدى الطالبات (التي زعم باتي لاحقاً أنها لم تكن موجودةً في الصف) وَشَت به لأبيها، الذي تقدَّمَ بشكوى لإدارة المدرسة والشرطة، واتَّهمَ باتي «بنشر صورٍ إباحية»، وردَّ عليه باتي بشكوى تشهيرٍ على إثرها. دعا الأبُ الأهالي الآخرين إلى حملةٍ ضد الأستاذ لطرده من المدرسة، ولكنّ جهوده لم تثمر. ما أثمرت عنه جهود الوالد هو أنّ باتي عُرِفَ في دوائر المجتمع المسلم في ضواحي باريس كـ«عدوٍّ للدين»، وأدى التحريض ضده إلى جريمة عبد الله أنزوروف.
أغلبُ الظن أنّ الأهالي المحرضين على باتي لم يريدوا قتله، وأغلب الظن أن معظمهم كان ينتمى للأكثرية المسلمة غير العدمية. ولكن ما الذي كانوا يطالبون به إذاً؟ هل هو استثناء دينهم وعقيدتهم من الاستهزاء في غرفة الصف دون بقية الأديان والعقائد؟ وتتبّعاً لذلك، ما الذي يطالب به مجتمع المسلمين العالمي اليوم، المشاركين في حملات مقاطعة البضائع الفرنسية والساخطين على الرئيس الفرنسي لاستغلاله الحادثة سياسياً، والمُستنكرين للاستهزاء من الرسول؟ هل هو استثناءُ دينهم وعقيدتهم من حرية التعبير التي يكفلها القانون الفرنسي كحقٍّ من حقوق المواطنة؟ لماذا يشعر المسلمون أنهم يستحقون هذه الاستثناءات؟ ولماذا يطالبون بالرقابة وتقليص المجال العام أمام انتقاد معتقداتهم في بلدٍ يكفل حق الإيمان وعدم الإيمان؟
وقائعُ ردِّ الفعل الهستيري لحادثة قتل باتي، بما تضمَّنَ المساواة الأخلاقية من قِبَلِ المسلمين المشاركين في حملة المقاطعة واسعة النطاق بين جريمة القتل وتصريحات ماكرون الانتهازية وحاضر التمييز العنصري في فرنسا وغيرها؛ هذه الوقائع لها دلالاتٌ كبرى، وتطرح أسئلةً صعبةً على المسلمين اليوم. ليس معظمُ المسلمين عدميون اليوم، ولكنّهم متصالحون مع العدمية الإسلامية ويلتمسون لها الأعذار إلى حدٍّ كبير، ويساوون بينها وبين تصرفاتٍ أخرى لا مجال للمقارنة بينها (المساواة بين القتل وازدراء الدين مثالٌ ساطع على هذا). يُبدي المسلمون انتقائيةً فجةً في ما يستشعر حساسياتهم، ويسفر عن حملات شجبٍ وإدانةٍ ومقاطعةٍ توازي هذه الأخيرة، فلا جرائم داعش بحق المسلمين وغيرهم، ولا جرائم بشار الأسد وأعوانه الروس بحق المسلمين وغيرهم، ولا جرائم النظام الصيني بحق عشرات آلاف المسلمين، أثارت حفيظة المسلمين ولا أسفرت عن حملات شجبٍ وإدانةٍ ومقاطعةٍ موازيةٍ لتصريحات ماكرون الأخيرة. ولم ينتقد قائد دولة ذات أغلبيةٍ مسلمةٍ واحد ممارسات الصين ضد المسلمين في مقاطعة تشين-جيانغ التي ترتقي للإبادة (باستثناء رجب طيب إردوغان الذي تراجع مبكراً عن ذلك)، ولم تستنفر هذه الممارسات العصبية الكامنة عند المقاطعين. عبرَ مطالباتهم باستثناء عقيدتهم، من بين سائر العقائد، من التحقير والاستهزاء، يُبدي المتنُ الأعرض من المسلمين شعوراً بالأحقية والاستثناء والامتياز عن عالمٍ يعمل جاهداً على استثنائهم، ويعملون جاهدين على الانفصال عنه.
يستنتج القارئ من الكُتَّابِ أن مشكلة المسلمين اليوم هي المجالات العامة المغلقة في بلادهم، إلا أن «أزمة الإسلام» اليوم، في رأيي، هي أزمة نسبةٍ لا يُستهان بها، غالباً ما قد تُشكّل المتنَ الأعرض من المسلمين، مع مبدأ المساواة في بلادهم وبلاد غيرهم، في مجالاتٍ عامة مغلقة ومفتوحة. هذه أزمةٌ يراها المراقب في المجتمعات المسلمة في ظل أحوال معيشية ومعايير تنموية مختلفة. يمتلك المسلمون سردية تفوّق وسردية مظلومية أساسية (كتب عنها ياسين الحاج صالح مطولاً)، لها دورٌ مركزيٌّ في بناء الجماعة المسلمة. تسفر هذه السرديات عن مشكلة مع المساواة في بلادٍ يشكلون فيها أكثريةً، وأخرى يشكّلون فيها أقلية. في بلاد الأكثرية المسلمة، يُجرِّمُ القانون انتقادَ العقيدة الإسلامية (وليس حتى الاستهزاء بها) وممارسات علنية تثير حفيظة المسلمين، إلى درجة تجريم المجاهرة بعدم الصيام في شهر رمضان في العديد من البلاد المسلمة. في ذلك تجنٍّ على حرية العبادة والمعتقد لغير المسلمين لا يشكل أي هاجس لمجتمع المسلمين هؤلاء. وإن حاججنا بأنّ الأحوال كذلك في مجتمعاتٍ يحكمها ساسةٌ غلاةٌ طواغيتُ يُحكِمون الإغلاق على مجالاتها العامة، يبقى الحال كما هو في بلادٍ يشكّل فيها المسلمون أقليات، ومجالاتها العامة مفتوحة نسبياً، كالدول الأوروبية –حيث تُطالِب المجتمعات المسلمة بالاستثناء والامتياز في الرقابة وتقليص المجال العام، لا المساواة والحقوق. وما شعبية رجب طيب أردوغان، القائد المسلم ذو الشعبية الأكبر بلا منازع في المجتمعات المسلمة، وفي بلاد المسلمين وغير المسلمين، ودوره في تنمية سردية التفوّق المسلمة وتأجيج الهستيريا العالمية الأخيرة، إلا خيرُ دليلٍ على ذلك. يتغاضى محبّو أردوغان عن ممارساته في انتهاك أقليات بلاده السياسية والإثنية، عدا عن ممارساته الاستعمارية في سوريا، ويرون أنه خير ممثلٍ للأمة الإسلامية، وهو يستدعى ماضي الإسلام الامبريالي ويسعى إلى إعادة بناء سرديّته. لا يمثل إردوغان العدمية الإسلامية، بل يعبر عن تطلعات فئاتٍ واسعةٍ في المجتمعات المسلمة لا يمكن تجاهلها.
إذاً، ليست مشكلة الإسلام الأكبر اليوم انعكاساً للمشهد الجيوسياسي العالمي القاتم كما يُحاجج الكتّاب فحسب، والذي يشكل فيه المسلمون مجتمعاتٍ مستباحةً أمنياً وسياسياً، وليس الفاعل الأكبر والأهم فيها هو الغرب الإمبريالي الذي يُغذّي العدمية الإسلامية. في مجالاتٍ عامة مفتوحة ومغلقة، وبلادٍ حرة وأقل حرية، وبمعايير تنمية منخفضة وعالية، ترفض المجتمعات المسلمة المساواة مع غيرها من أتباع العقائد الأخرى (الإبراهيمية وغيرها)، وبالأخص مع من لا يتبعون أي عقيدة. الجرح النرجسي الذي أيقظته حادثة مقتل باتي في المجتمعات المسلمة، والذي يغذّي شعور المسلمين بالاستثناء والتمييز، يَدلُّ على مشكلةٍ ثقافيةٍ عميقة تَحولُ دون انخراط المسلمين في العصر والمطالبة بحقوقهم كسائر شعوب الأرض. لا يمتلك الطرف الأضعف في أيّ نزاعٍ ترفَ المطالبة بالاستثناء والتمييز، بل أقصى ما يمكن أن يطمح إليه هو أن يتساوى مع الطرف الأقوى. لن يشترك الساسة الأوروبيين ولا قيادات المجتمعات غير المسلمة في حل مشكلة المسلمين الثقافية، وإنما يقع ذلك على عاتق القيادات والمجتمعات المسلمة وحدها اليوم. ستخفُّ الهستيريا مع الوقت، وسيبقى سؤال المساواة مطروحاً أمام المسلمين، ويتعين علينا –كعلمانيين ديمقراطيين دَعوْنا وندعو لحقّ المسلمين وغيرهم في بلادنا بالحياة والأهلية السياسية غير المشروطة– أن نُسائلهم عنه باستمرار. يحق للمسلمين المطالبة بالمساواة، ولا يحق لهم ما لا يحق لغيرهم؛ أي الاستثناء والامتياز.
كنا نأمل أن تنتصر ثورات الربيع العربي التي قامت في 2011، والتي لربما كانت ستفرز مجالاتٍ عامةً أوسع وأرحب لنخوض هذا النقاش، في أجواءٍ أنسبَ وأهدأ. أمّا وقد تعثرت الثورات وسُحِقَت، ونرى المجالات العامة في تَقلُّصٍ بينما يزداد سعار السلطات، فلا بديل عن خوضه اليوم.