تسعى جميع الأطراف الحاضرة في المشهد السوري إلى حجز أو تعميق مساحة حضورٍ لها في المحافظات الثلاث الواقعة في شرق البلاد، تحديداً في منطقة الجزيرة السورية التي باتت تسمى شرق الفرات، والتي تدير قوات سوريا الديمقراطية غالبية مساحاتها الجغرافية ومراكز ثروتها، وذلك بعد انتزاعها من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية قبل قرابة سنتين. يُفسِّرُ تلك المساعي أنّ هذه المنطقة هي الأكثر ثراءً وهشاشة، وما يزال بالإمكان العمل على إعادة تقاسمها مجدداً بتغيّر المعطيات السياسية، لا سيما أن قسد تواجه فيها رفضاً شعبياً متزايداً من جانب المكون العربي، كما تغلب الضبابية على استدامة الوجود الأميركي كطرفٍ حامٍ لها في مواجهة قوى عسكرية قوية تنتظر الفرصة المواتية للقضاء على مشروعها وإعادة تشكيل خارطة السيطرة في المنطقة.
وقد شهد العامان، الحالي والفائت، جهوداً روسيةً مباشرةً تهدف للوصول إلى تفاهماتٍ مع الأحزاب الكردية، وإلى مزاحمة نفوذ الولايات المتحدة في المنطقة التي يُعوّل الروس على ثرواتها في تحسين الوضع الاقتصادي للنظام السوري، وفي جني مكاسب سياسية واقتصادية. ولكنّ هذه المبادرات لم تقتصر على الجانب الروسي وحده، فقد كانت جهودٌ تركية وسعودية-إماراتية وإيرانية ومن جانب نظام الأسد تصبّ في هذا الاتجاه، كلٌّ بما يخدم مصالحه أو يتعارض مع مصالح خصمه. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ المنطقة شهدت عدداً من الاجتماعات العشائرية في فتراتٍ متقاربة خلال العام الماضي، بالتزامن مع شكوكٍ حيال خروج الولايات المتحدة من المنطقة، وكان كل واحدٍ من هذه الاجتماعات مدعوماً من طرفٍ سياسي مختلف، وكل ذلك تحت إطار ضرورة تمثيل العناصر العربية في إدارة مناطق شرق سوريا أو وجوب إعادتها إلى «سلطة الدولة»، ولكن لم يرشح عن هذه التحركات أيّ خطواتٍ ملموسةٍ على الأرض، فما يزال الوضع على حاله منذ ذلك الحين.
المحاولة الأخيرة جاءت قبل فترةٍ قصيرة، وهذه المرة من الائتلاف السوري لقوى الثورة والمعارضة المحسوب على تركيا، والذي عقد «لقاءاتٍ تأسيسية» مع عددٍ من أبناء محافظات دير الزور والرقة والحسكة، بغية تمثيل هذه المحافظات في الائتلاف وتأسيس «مجالس سياسية» تُفضي إلى تشكيل مجلسٍ موحّد «يُمثّل» كامل المنطقة، مع التركيز على دير الزور التي تشهد توتراتٍ متكرّرة بين الأهالي وقسد من وقتٍ إلى آخر. والواضح أنّ الهدف الذي يتوخّاه الائتلاف من هذه الخطوة هو محاولة العودة إلى المشهد السياسي السوري بعد انحسار دوره وفاعليته، إلى الدرجة التي بات معها طرفاً لا يؤخذ على محمل الجد حتى من الجانب التركي الذي بات الوحيد الداعم له، وكذلك إرسال رسالة إلى الأطراف الراعية لمجلس سوريا الديمقراطية، والمُتعاملة معه بوصفه الطرف السياسي الوحيد القادر على تمثيل المنطقة حالياً، بأنّ البديل العربي من أبناء شرق سوريا موجودٌ داخل الائتلاف ومنظّم سياسياً، وهو قادر على إدارة المنطقة بما يضمن تمثيل الكتلة السكانية العربية الأكثر تعداداً في المحافظات الثلاث.
لكنّ مساعي الائتلاف الأخيرة هذه قد فشلت بعد ساعاتٍ قليلة من تداول أسماء أعضاء «مجلس دير الزور السياسي»، فقد انسحب عددٌ من هؤلاء الأشخاص، ونفى بعضٌ آخر أن يكون قد وافق على عضوية هذا المجلس أصلاً، وإنْ كان قد اشترك في المشاورات واللقاءات الإلكترونية التي أجراها الائتلاف لهذا الغرض. أيضاً، سبق ذلك تأسيس لجنة مشابهة لمحافظة الرقة، مكونة من 29 عضواً، يكون أمامها مهمة تشكيل مجلسٍ سياسي للمحافظة، ولكن سرعان ما أعلن 21 من الأعضاء في بيانٍ انسحابهم ورفضهم لهذه اللجنة. وبذلك لا يقتصر الرفض لمحاولات الائتلاف على الناشطين من غير المدعوين للاجتماعات التشاورية، والذي كانت وسائل التواصل الاجتماعي ساحته الأبرز، بل إنّه فشل في نيل ثقة أولئك الذين اشتركوا فعلاً في المشاورات التي أدارها.
أسباب رفض الخطوة التي شرع بها الائتلاف من جانب أبناء محافظات الشرق السوري عديدة ومتنوعة، فطوال السنوات الماضية لم يلتفت الائتلاف إلى هذه المناطق التي عانى أهلها من سياسات داعش الإجرامية بحقهم، ولم يقدّم شيئاً لعشرات الألوف من أولئك الذي قضوا أياماً وشهوراً شديدة القهر في مخيمات البادية الأكثر بؤساً في البلاد، كما أنّه ما يزال غائباً بشكلٍ كامل عن معاناة النازحين من هذه المناطق إلى الشمال السوري. أكثر من ذلك، أشار نشطاء من دير الزور خلال الفترة الماضية إلى أنهم طالبوا الائتلاف مراراً، ومنذ العام 2015، بشكلٍ مباشرٍ أو من خلال حملاتٍ إعلامية، باستبدال ممثلي المحافظة الدائمين فيه، ولكن من دون جدوى، وهو ما يعني أن الائتلاف لا يقيم وزناً لأصواتهم التي يريدها اليوم أن تعمل في فلكه، فضلاً عن جهلهم للأسس التي اعتمدها الائتلاف في توجيه الدعوات للقاءات التشاورية التي عقدها.
يُضاف إلى هذه الأسباب عدم ثقة سكان هذه المناطق بجدوى جميع الخطوات التي يتخذها الائتلاف تجاه محافظاتهم على الصعيد السياسي والتمثيلي، فكيف يمكن لطرفٍ عاجزٍ عن تأدية أدوار فاعلة في المناطق التي تحضر مؤسساته فيها أن يكون فاعلاً في مناطق لا يحضر فيها مطلقاً، ومن خلال أشخاص مقيمين خارج سوريا وموزّعين على عددٍ من الدول. هل بوسع اجتماعات الائتلاف على منصات التواصل الاجتماعي أن تدير شؤون مئات ألوف القاطنين اليوم في الحسكة ودير الزور والرقة؟ لا شكّ أنّ العمل من أجل مصالح أهالي شرق سوريا يقتضي الدخول في عمق مشاكلهم وحلّها على الأرض، ويقتضي ألا يُصار إلى تشكيل هيئات ومجالس باسمهم فقط في إطار التنازع مع قوات سوريا الديمقراطية أو خدمةً للأجندة التركية.
القصور يمتدّ أيضاً إلى آلية ونوعية التمثيل الذي يريده الائتلاف لأبناء الشرق السوري في «مجالسه السياسية»، فما الهدف من مجلس موحّد يجمع أبناء المحافظات الثلاث؟ أليس من أجل حشد غلبة تمثيلية للأكثرية السكانية العربية تقابل السيطرة الفعلية للعنصر الكردي على مشاريع الإدارات الذاتية؟ ألم يصل الائتلاف بعد سنوات من العمل «السياسي» إلى درجةٍ وعيٍ كفيلة بإحداث القناعة بأنّ هذه المنطقة المتنوعة عرقياً ودينياً لن تنفع معها مجالسُ وهيئاتُ غلبةٍ ديموغرافية تُغفِلُ وجود الآخرين، وبأنه ليس من المجدي الخوض العدمي المتكرر في نسب التوزّع الديمغرافي التي يزيد فيها طرفٌ على آخر، سيما أنّ هذا النهج لن يوصل إلى حلولٍ من شأنها إرضاء أو تمثيل جميع الأطراف بشكلٍ عادل؟
لم يعد الائتلاف طرفاً قادراً على تقديم أي شيءٍ نافعٍ للسوريين اليوم أكثر من إزاحة عبء فشله وارتهانه عن عاتقهم، ومن الأجدر به، قبل أن يشرع في تشكيل مجالس سياسية جديدة تُمثّل أولئك الذين انفصل عن واقعهم ومعاشهم اليومي، أن يُعيد النظر في جدوى وجوده أصلاً، وأن يقيس مدى ازدراء عموم السوريين له وقد تحوّلَ عبئاً ثقيلاً، كثير الضرر وعديم النفع، على قضيتهم.