أسعى في هذا المقال إلى توسعة تعريف المجتمع المدني، ليشمل جميع الفئات الفاعلة اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً خارج منظومات الدولة القامعة، وأعتبر أن المجتمع المدني يشمل كل من يسعى إلى عدالة اجتماعية شاملة و/أو تخفيف وطأة وشدّة القمع. وقد تتمثل تلك الفعالية بنشاط فردي، أو على مستوى العائلة أو الحي أو المجموعات والتجمعات. ويشمل ذلك التعريف أيضاً الثورات والحركات السياسية المقاومة، والمبادرات والممارسات الفردية التي تصب بشكل أو بآخر في مساحة تحدي الظلم والقمع. وفي ذلك أَستندُ إلى مفاهيم نظرية الفوضى، التي تفترض أن القدرة على التغيير غير محصورة في أصحاب وصاحبات المناصب والسلطة، بل هي متوزعة بيننا كأفراد بأشكال وطرق مختلفة. ويسعى النهج الفوضوي إلى تحدي وجود هرميات غير تطوعية أو متوافق عليها فيما بيننا. تستخدم غالب الأدبيات، وتحديداً في اللغة العربية، مصطلح المجتمع المدني لوصف العمل المنظماتي أو المنظم، الذي يتمثّل عادةً في المؤسسات والمجموعات المسجلة وغير المسجلة، والتي تتواجد في مساحة تُعتبر إلى حدٍ ما خارج إطار العائلة والأسواق الاقتصادية والدولة (WEF, 2013)، وتشمل تعريفاتٌ أخرى للمصطلح منظمات ومؤسسات بأشكال مختلفة، مثل المؤسسات الدولية والوطنية والمحلية، والتجمعات العضوية غير المنظمة أو المُمأسسة، والشبكات والنقابات والحراكات الاجتماعية الشعبية وغيرها (Cooper, 2018)، والمؤسسات والمنظمات غير الحكومية غير الربحية، والمجموعات الافتراضية الناشئة عبر الإنترنت، والمؤسسات الدينية أو الروحانية أو المبنية على الإيمان، والقطاع الخاص الذي يخدم رسالة عدالة اجتماعية، والتجمعات القاعدية والتعاونيات التي قد تكون تجارية، ونوادي الشباب والشابات والمنصات الإعلامية من راديو وتلفاز ومواد مطبوعة أو منشورة الكترونياً والمؤسسات البحثية والأكاديمية وغيرها (WEF, 2013). ولكن على الرغم من هذه التعريفات الواسعة والشاملة، إلا أنه بإمكاننا اعتبار حصر المصطلح في هذه الكينونات ممارسةً تهميشيّة للفئات المجتمعية التي تسعى نحو العدالة، والتي لا يُكتب عنها عادة.

بينما تحتوي مظلة تسمية «المجتمع المدني» الكثير والعديد، إلا أنه وفي الآونة الأخيرة عادةً ما يُستخدم لوصف نقابات العمال والمنظمات المجتمعية والتجمعات المهنية والمؤسسات غير الحكومية في الشمال العالمي (VanDyck, 2017). وأما في المناطق الناطقة باللغة العربية، فقد أصبح مصطلح المجتمع المدني يُستخدم حصراً لوصف المنظمات غير الحكومية، المحلية والوطنية والدولية والعابرة للأوطان منها، والتي تعمل تحت إطارات إنسانية/إغاثية، أو إطارات حقوق الإنسان والديمقراطية والتنمية، أو إطارات توفير خدمات لتغطية عجز الدولة في تلبية سبل العيش الأساسية للمواطنين والمواطنات من مأوى وخدمات صحية وتعليم، أو توفير خدمات لفئات لا تُحسب تحت مظلة المواطنة مثل اللاجئين واللاجئات. في هذا المقال أحاول إلقاء الضوء على بعض إشكاليات احتكار مصطلح المجتمع المدني من قبل الجهات التي تعتمد في عملها على تمويل، فتلك تهمّش وتستولي على كدح مجموعة واسعة من الجهات الفاعلة اجتماعياً، وكذلك أُلقي الضوء على التناقض ما بين عمل تلك المؤسسات وتعريف المجتمع المدني من وجهة نظر السعي نحو العدالة، وأحاول في هذا الإطار ربط هذه الإشكاليات بالتعقيدات السياسية الموجودة في المناطق الناطقة باللغة العربية عامة، وتلك المرتبطة بسوريا على وجه الخصوص.

أبني هذا المقال على الفهم القاعدي للتغيير الاجتماعي والسياسي، الذي يحلل القوة الاجتماعية/سياسية على أنها غير محصورة في مواقع القوة والسلطة أو النخب السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية، وأعتبر التغيير الاجتماعي الإيجابي عملية مجتمعية متكاملة تبدأ من المستوى الفردي لتمتد نحو المستوى التنظيمي. وعلى ذلك أجادل بأن علينا اعتبار المجتمع المدني امتداداً للمستويات المجتمعية المختلفة، واعتباره أيضاً عمليةً مجتمعية تشاركية، لا كينونة ثابتة. فمن خلال هذا المنظور، يمكننا فهم أبعاد المجتمع المدني وديناميكياته بشكل أوسع وأكثر دقة، يشمل أيضاً النشاط المجتمعي غير المُمأسس أو غير المركزي. ونصبح بهذا المنظور أكثر قدرة على إدارة توقعاتنا من المنظمات غير الحكومية، المحلية والوطنية والدولية والعابرة للأوطان التي تعتمد على تمويل خارجي، ونكون واعين وواعيات على محدودية أثرها.

اتفق العديد من المفكرين على أنه كلما اتسع مفهوم المجتمع المدني اتسع إطار الحريات والتكافؤ في توزيع الموارد (Habermas, 1992; Havel, 1993)، فإذا أخدنا ذلك بعين الاعتبار وسعينا نحو توسيع مفهوم المجتمع المدني عبر العمل على إدراك الأفراد للقدرة التي يمتلكونها على التغيير، سنخلق دافعاً للتغيير على مستوى القاعدة، وستكون تلك خطوة نحو خلق تغيير مجتمعي تحويلي على مستوى الخطاب على الأقل.

في منتصف القرن العشرين، وتحديداً مع امتداد منظومة الدولة والشعب أو nation-state إلى ما يُسمى بالعالم البوستكولونيالي أو ما بعد الاستعماري، شدد الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو على أهمية المجتمع المدني للتصدي لاحتكار منظومة الدولة للقوة والحكم، ولكن مع الوقت بدأ فوكو بنقد القدسية الملقاة على المجتمع المدني، فهو غير منفصل عن منظومة الدولة وسياساتها وإنما يمكن اعتباره موقعاً من مواقع القوة أيضاً (Provenzano, 2016). فكما جادل حسين يوسف بوكبر (2016)، حاول فوكو بتحليلاته للمجتمع المدني ومنظومة الدولة فتح باب اعتبار التذويت والتركيز على الذات الفردية والقيادة من خلالها نوعاً من أنواع المقاومة لمنظومة الدولة القامعة وجزءاً من المجتمع المدني، الذي من الجدير به أن يُستخدم كأداة تحليلية مُقاوِمة وكعملية اجتماعية متكاملة، بدلاً من اعتباره موقعاً ثابتاً يتمثل بكينونات ثابتة كذلك. وعلى ذلك أيضاً، لا يمكننا اعتبار أي كينونة متشكلة من مجموعة خارج إطار الدولة مترفعةً عن الممارسات القمعية، حتى ولو كانت مضادة لسياسات الدولة، فبإمكان تلك المجموعات إساءة استخدام القوة ناحية أفراد في داخل أو خارج المجموعة تلك، وفي كثير من الأحيان تكون تلك المجموعات التي تدّعي المساحة المدنية متواطئة مع الأنظمة القمعية.

كما لا يمكننا التفكير بالمصطلح باللغة العربية دون التفكير في المعاني التي تعكسها كلمة «مدني» في سياقات مختلفة، ففي سياق سوريا عادة ما يستخدم المصطلح كمضادٍ لـ«عسكري»، وفي إطارات أخرى كمضاد لـ«سياسي». في لبنان تُستخدم كلمة مدني لوصف الجهات التي لم تشارك في الحرب الأهلية، وفي مصر تُستخدم لوصف المناهضين لحكم العسكر، أما في إطارات أخرى قد تستخدم كلمة مدني كمضاد لـ«قَبَلي» أو «قروي» (Abu-Assab, Nasser-Eddin and Seghaier, 2020).

في الإطار السوري، تطور المصطلح تحديداً تحت مظلة مشاريع تطوير ودعم «المجتمع المدني» بحسب تسميات غالب الممولين في ذلك الوقت، من وجهة نظر أن غالب المؤسسات تلك هي مضادة للنظام البعثي السياسي والعسكري. ولكن التناقض المعرفي في هذه التسمية يكمن في أن العديد من المؤسسات والتجمعات التي تشكلت بعد ثورة عام 2011 كانت عند نشوئها مُسيّسة وسياسية، ولكن ومع الرغبة الدولية بالتوصل لحل سياسي من خلال المفاوضات، تولدت رغبة لدى المجتمع الدولي بجعل تلك المؤسسات التي أصبحت تدّعي تمثيل المجتمع المدني حيادية سياسياً، وبدأ الممولون ببرامج تسعى نحو تحييد المجتمع المدني من إطار السياسة العامة.

لا يمكننا النظر إلى ذلك التغيير دون اعتباره تحييداً وتقويضاً لأثر المجتمع المدني على التغيير السياسي، ومن السهل تحقيق ذلك التحييد، فتلك المؤسسات تعتمد بشكل اقتصادي مباشر على منظومات دول للقيام بعملها، أما العاملون والعاملات فيها فتعتمد قوتهم على ذلك التمويل أيضاً. ومن تبعات هذا التحييد تغييب الصوت المضاد لمنظومة الدولة القمعية، وتغييب المساهمة القاعدية في التغيير السياسي والاجتماعي. كما يَسهُلُ ذلك أيضاً، تحديداً، في إطار احتكار المؤسسات غير الربحية وغير الحكومية، التي تعتمد على المركزية في السلطة، لساحة المجتمع المدني. فلو ساهمت تلك المؤسسات في توسعة ذلك المفهوم ليشمل النشاط الفردي على مستوى القاعدة لما كان من السهل احتكاره ولا تحييده ولا تغييب الأصوات المتنوعة المناهضة للقمع. إذ يمكن لتلك المؤسسات المسجلة، والتي تعتمد على تمويل، لعب دور أساسي في عملية التغيير الاجتماعي والسياسي عبر مَركزَة القاعدة والأصوات الأكثر تهميشاً، وجعل أُطُرِ عملها أكثر تشاركية تعتني بالتذويت والفردانية. ومن المهم التوضيح أنني أقصد بكلمة فردانية هنا الاحتفاء بالاختلافات الفردية بيننا، التي تجعلنا جميعاً فريدين وفريدات ومختلفين ومختلفات عن بعضنا، لكل دوره ومساهمته المجتمعية التي إن اختلف شكلها فإنها لا تختلف في قيمتها المالية ولا المعنوية، ولا أقصد الانطواء الفردي على الذات أو الأنانية أو مركزة النفس ومطامعها ورغباتها على حساب الآخرين والأُخريات، المرتبطة بشكل كبير بالرأسمالية على طريقة الغرب.

يتكون المجتمع من شبكة من العلاقات الاجتماعية، وتُدعَى الطرق التي تتشكل عبرها العلاقات عملياتٍ اجتماعية، وبذلك لا وجود للمجتمع دون وجود عملياتٍ اجتماعية بيننا كأفراد، تمتد لتصل إلى المستوى المجتمعي الأوسع. أَستحضرُ العديد من الأمثلة من سوريا ومن فلسطين، حيث عبَّرَ عاملون وعاملات في المؤسسات التي تحتكر ساحة «المجتمع المدني» عن عدم الرضا عن العمل الذي يقومون به من ناحية الأثر المجتمعي، ولكن كان العديد منهم يكرر أنَّ ما يجعلهم مستمرين ومستمرات هو قدرتهم على التأثير في حياة أفراد من حين لآخر. لعل التذكير بذلك مهمٌ في فترات يأسٍ سياسي سائد في المناطق الناطقة باللغة العربية، ولكن من المهم أن نتذكر دوماً أن توسعة حيز المجتمع المدني وفهمه كعملية مجتمعية شاملة على كافة المستويات أداةٌ هامة في سعينا نحو العدالة.

بناء على ذلك، تحت أنظمة الحكم الديكتاتورية والفاسدة، يمكننا اعتبار المجتمع المدني مجموعة الفئات المضادة لظلم الدولة، والتي تسعى نحو تقويض هيمنة الدولة على السلطة والعنف. ولكن في وقتنا الحالي نجد مؤسسات تستلم تمويلات من الدول لتبييض صورتها، كما هو حال ما يُسمى بالمجتمع المدني في الإمارات والسعودية. وفي مصر بات حيز ما يُسمى بالمجتمع المدني يضيق تدريجياً تحت حكم السيسي العسكري، في ظل تضييقه لمساحة الحقوق الفردية. أما في الأردن على سبيل المثال، تعمل المؤسسات بالحدود التي تسمح بها الدولة، وقلَّ ما تتواجه معها أو ضدها. في هذه الحالات، يعتبر احتكار مصطلح المجتمع المدني من جانب تلك المؤسسات استيلاءً على الأصوات الحقيقية التي تسعى وراء العدالة وتتصدى للقمع.

تردَّدَت قصص عديدة على وسائل التواصل الاجتماعي عن ممارسات قمعية تتم في داخل المؤسسات التي تحتكر ساحة المجتمع المدني، وتحديداً في لبنان وفلسطين، مثل التحرش والتنمر والاستقواء وغيرها من أنواع الأذى والإساءة، وعن سوء التعامل مع تلك الحوادث، ففي واحدة منها استقال مجلس إدارة بأكمله بسبب ممارسات إدارية سيئة، ولكن بقيت المؤسسة والإدارة كما هي متلقية للتمويل ومستمرة في الإساءة. ويدلنا ذلك على أن تلك المؤسسات ليست مؤهلة ليتم اعتبارها كجزء من المجتمع المدني، فإن كانت غير قادرة عن توفير عدالة على مستوى فردي، لن تكون بريئة في سعيها نحو عدالة اجتماعية. قد تشبه تلك الممارسات ممارسات الأحزاب السياسية، إذ تُهمَّش أصوات النساء وعادة ما تكون معادية لتواجد النساء في تلك المساحة الذكورية المشحونة بالعدوانية، وتَدَّعي في الوقت ذاته التزامها بمبادئ عادلة، فحتى الأحزاب اليمينية العنصرية تدعي أنها تسعى نحو شكل من أشكال العدالة، عادة ما يكون أحادي الأبعاد يفيد مجموعة دون الأخرى ويظلم فئات واسعة في المجتمع وله مطامع مالية واقتصادية.

ويمكننا الاستنتاج من ذلك أن العديد من المؤسسات التي تصنف تحت تسمية المجتمع المدني لا تتوافق مع معنى أو دور المجتمع المدني بالسعي نحو العدالة، فبعضها متواطئ وبعضها الآخر له مصالح ومطامع، وبعضها يعيد إنتاج الظلم والقمع وبعضها الآخر يعمل بتكاتف مع أنظمة الدولة القامعة. ولعل من المهم هنا أيضاً التذكير أنه حتى لو كانت هذه المؤسسات غير متواطئة ومخلصة في سعيها وراء العدالة، إلا أنها بشكل أو بآخر تعمل من خلال إطار الدولة لا خارجه. فعلى سبيل المثال، في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1984، يفرض الاستعمار الصهيوني على المؤسسات الفلسطينية التسجيل كـ«مؤسسات إسرائيلية» لكي تتمكن من الاستمرار في عملها في خدمة شعبها، وتُعتبر المؤسسات الفلسطينية تحت هذا الإطار «مؤسسات أقليات» تعمل تحت إطار تعترف من خلاله بشرعية المُحتل الصهيوني. ولا تنصبُّ المشكلة في ذلك وحسب، فعلى مستوى التأريخ سيتم اعتبار تلك المؤسسات «إسرائيلية» ومن خلال احتكارها لـ«صوت» المجتمع المدني ستهمش المقاومة الفردية الفوضوية الفلسطينية من التاريخ. ولم أتطرق للمثال الفلسطيني لأنتقد أسلوب البراغماتية أو العملية، وإنما لأشير أن لهذه المؤسسات سقفاً ومحدودية، وأنّها باحتكارها لساحة المجتمع المدني وادعاءاتها بالتمثيل تعيد إنتاج المنظومة القمعية التي تدعي مجابهتها، فهي تخدمها بشكل غير مباشر، وتهمش أصوات المقاومة الفلسطينية الفردية الساعية نحو عدالة.

هذا ومن أهم إشكاليات المؤسسات التي تحتكر ساحة المجتمع المدني في المنطقة ادّعاؤها التمثيل، فسيكون من الأصدق والأدق لو وضحت تلك المؤسسات محدوديتها وعزفت عن ادعاءات التمثيل، لأن غالب المؤسسات غير منتخبة وتتشكل عن طريق عمليات وعلاقات اجتماعية لها أبعاد مختلفة بحسب السياقات. سيكون ذلك الاعتراف مفيداً للمؤسسات ذاتها،  ذلك أنه سيجعلها أكثر شفافية وسيكسبها بالتالي ثقة الفئات التي تخدمها، وستترك حيزاً مفتوحاً للاختلاف وظهور أصوات مضادة في حال عجزت هي ذاتها عن تخطي العقبات التي قد تعترضها. ومن خلال ذلك ستتمكن تلك المؤسسات حقاً من بناء قواعد اجتماعية، ومن خلق حاضنات تهدف إلى توسيع دائرة وحيّز المجتمع المدني وفهمه كعملية مستمرة لا بداية ولا نهاية لها.

كان مضحكاً ومبكياً أن تطلب عدة مؤسسات «مجتمع مدني» فلسطينية العام الماضي تنظيم وقفة احتجاجية، وأن لا تتمكن تلك الجمعيات التي يفوق عمر البعض منها عشرين سنة تجميع أكثر من بضع عشرات، فعلى الرغم من العمل المستمر على مدى سنوات لم تتمكن تلك المؤسسات من بناء قواعد وحاضنات اجتماعية تتمثل في ولاءات فردية طوعية. ويجعلنا ذلك نتساءل: ما هي الآليات التي كانت تعمل من خلالها تلك المؤسسات إذا لم تتمكن من حشد فئات مجتمعية يفترض منها خدمتها وبناء الخطاب فيها؟ ما زالت تدعي الكثير من تلك المؤسسات أن لها قواعد شعبية واسعة، لعلها غير مرئية أو مختبئة في بيوتها، تظهر فقط عند الحاجة الماسة.

في الإطار السوري، من المهم للغاية لمؤسسات المجتمع المدني فرض صوتها السياسي والمُسيّس على من يحاول تحييده، والعمل نحو كسر الثنائية التي خُلِقت ما بين «المدني» و«السياسي»، إذ لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر، فسعي المجتمع المدني نحو العدالة أمرٌ سياسي، كما يمكننا اعتبار سطوة الدولة أمراً سياسياً أيضاً. ولذلك من المهم عدم التخلي عن الطبيعة السياسية للمجتمع المدني. ففي القرن السابع عشر لم يقسم الفيلسوف الإنجليزي جون لوك (Locke, 1688) المجتمع إلى مجتمع مدني ومجتمع سياسي، بل اعتبَرَهما كينونة واحدة، ولعل هذا المنظور هو الأسلم لفهم الحراك المجتمعي المقاوم للقمع والساعي نحو العدالة في وقتنا الحالي، فحياتنا جميعاً سياسية ومسيسة ولا يمكننا فصلها عن الإطار العام. ومن المهم للغاية، بل من الضروري للتصدي للأنظمة القمعية، أن تسعى المؤسسات نفسها إلى الحد من احتكار مساحة المجتمع المدني وتوسيعها عن طريق مَركزَة الفرد على مستوى القاعدة، والتوقف عن ادعاءات التمثيل لفئات مجتمعية واسعة، والاعتراف بمحدودية أثرها وعملها والسعي نحو توزيع الموارد والقوة لا التنافس عليها، والقضاء على الممارسات القمعية التي تحدث في داخلها كذلك لكي تكون مؤهلة لتُصنَّف كجزء من المجتمع المدني بوصفه أداة مقاومة وعملية اجتماعية متكاملة.

*****

 

قائمة المراجع

– Nour Abu-Assab, Nof Nasser-Eddin & Roula Seghaier (2020): Activism and the Economy of Victimhood: A Close Look into NGO-ization in Arabic-Speaking Countries, Interventions, DOI: 10.1080/1369801X.2020.1749704.

– Bokubar, H.Y. (2016) Civil Society for Michel Foucault: Between Technologies of Rule and Possibilities of Resistance. In Tabayyun: vol. 5, issue 18. Available at: https://bit.ly/3bl8QCC.

– Cooper, R. (2018). What is Civil Society? How is the term used and what is seen to be its role and value (internationally) in 2018? K4D Helpdesk Report. Brighton, UK: Institute of Development Studies.

– Habermas, J. (1992) ‘Further Reflections of the Public Sphere’ in C. Calhoun (ed.) Habermas and the Public Sphere, Cambridge, Mass.: MIT Press.

– Havel, V. (1993) “How Europe Could Fail’, New York Review of Books. 18 November: 3.

Locke, John (1688), Two Treatises of Government, edited by Peter Laslett (Cambridge: CUP, 1988 [1688]).

– Provenzano, L. 2016. “Foucault on the Aporias of State-Phobia: Michel Foucault’s Collège De France Lectures.” [Blog]. Available at: http://bit.ly/2FnTFev. [Accessed March 1, 2018].

– VanDyck, C., K. (2017). Concept and definition of civil society sustainability. Washington DC: Centre for Strategic and International Studies.

– World Economic Forum (2013). The Future Role of Civil Society. World Economic Forum in collaboration with KPMG International. Retrieved from http://www3.weforum.org/docs/WEF_FutureRoleCivilSociety_Report_2013.pdf

– (Habermas, 1992; Havel, 1993).

*****