قضى مصطفى الهنداوي خمسَ سنوات وهو يطرق أبواب المقرات العسكرية لقوات سوريا الديمقراطية، باحثاً عن ابنه أحمد. مصطفى، الذي كان يسكن في قرية الزنباق (80 كم شمال الرقة) توفي منذ ستة أشهر، تاركاً لزوجته المهمة من بعده، لتتيه هي الأخرى في الدروب، لا ذكر على لسانها سوى اسم أحمد، راجيةً أن يأتيها أحد بخبر يسرها، لكن لا جدوى، فالأمر أصعب مما يبدو لنا.

أحمد من مواليد عام 2004، وهو الأخ الأصغر لخمسة أشقاء، وكان قد أنهى الصف الثالث الابتدائي في المدرسة المجاورة لمنزله، لينقطع عن التعليم بعد سيطرة داعش على محافظة الرقة في كانون الثاني (يناير) من عام 2014. ومع سيطرة قوات سوريا الديمقراطية على مساحات واسعة من الريف الشمالي لمحافظة الرقة عام 2015، انضمّ أحمد لهذه القوات وهو في الحادية عشر من عمره، دون درايّة ذويه، الذين ظنّوا وقتذاك أنه مخطوف أو تائه، ليخبرهم أحد رفاقه في القرية لاحقاً بأنه انضم لقوات سوريا الديمقراطية، بعد أن أُعجِب بمقاتلي وحدات حماية الشعب YPG وحياتهم في الجبال، وأنه يرغب أن يكون «رجل» على حد قوله.

ومُنذ ذلك الحين، غابت أخبار أحمد عن عائلته، كما أن محاولات ذويه لرؤيته أو معرفة مكان قطعته العسكرية لم تلقَ إلا جواباً واحداً اعتيادياً؛ «لا نعرف».

 كل هذا لم ينل من عزيمة والده، الذي طلب مساعدة العديد من وجهاء المنطقة كي يسترد ابنه، دون أن يحصد أي فائدة.

وفي أحد أيام ربيع عام 2017، فُرِض طوق أمني كبير في القرية، وأحاطت قوات عسكرية كبيرة منزل عائلة مصطفى، وللوهلة الأولى، ظنّت العائلة أن مسؤولاً ما سمع بمعاناتهم وأتى يحمل ما يسر البال. يُفتَح الباب، وإذ بابنه أحمد ينزل، مدججاً بالسلاح، ومن حوله مرافقة، لتكون تلك أول زيارة لأحمد بعد قرابة العامين من الالتحاق بقوات سوريا الديمقراطية، ليُصدَم والداه بالحال الجديد لابنهما، وما طرأ عليه من تغيرات جسمانية ونفسية. قضى أحمد قرابة الساعتين في منزل عائلته، ثم غادر، لترد الأخبار في حزيران العام 2019 أنه يخضع لعقوبة عسكرية في سجن علايا بمدينة القامشلي، ولا يزال حتى هذا الوقت هناك.

أمّا ديمة موسى العلي، والتي تبلغ من العمر ستة عشر عاماً، فقد أحبت تَقمُص شخصية المرأة المناضلة والمحررة من القيود، فقررت ترك مَربى طفولتها في بلدة الجرنية (60 كم شمال الطبقة)، والتحقت بصفوف وحدات حماية المرأة YPJ أواخر عام 2017 ، وقد كانت حينها في بداية عامها الثالث عشر. وعند سؤال والدها عنها بغية إعادتها للمنزل، كان مصيره الاعتقال من قبل جهاز الاستخبارات التابع لقوات سوريا الديمقراطية، ومنذ ذلك الوقت لا يملك الأهالي أي معلومات عن ابنتهم، كما أنّ سبل التواصل معها مقطوعة، رغم المطالبات العديدة لمعرفة مصيرها أو مكان تواجدها، والتي قوبلت بالتكتم من قبل قوات سوريا الديمقراطية.

في التاسع والعشرين من شهر حزيران (يونيو) 2019 وقّعت الإدارة الذاتية على خطة عمل مشتركة مع الأمم المتحدة لوقف أي حالات تجنيد للأطفال ضمن صفوف قوات سوريا الديمقراطية (قسد). وقد نصَّ البروتوكول الموقَّع آنذاك على ضرورة تسريح الأطفال ممن هم دون سن الثامنة عشر. كما أنّ وحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة وقّعت في حزيران 2014 «صكّ التزام» مع منظمة «نداء جنيف» لحظر استخدام الأطفال في الحروب، ورغم كل هذه الاتفاقيات الموقعة وحالات تسريح الأطفال التي أجرتها الإدارة الذاتية، إلا أنّ هذا السلوك لم ينتهِ، ولا يزال العديد من الأطفال مجندين ضمن صفوفها ، فقد رصد تقرير لجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بسوريا العديد من حالات تجنيد الأطفال ضمن صفوف قوات سوريا الديمقراطية عام 2020، كما شهد يوم الخامس عشر من آب (أغسطس) عام 2020 حالة تجنيد بحق القاصرة ش.ع. د. من مواليد عام 2005، والمقيمة في قرية حمرة جمّاسة (14 كم شرقي الرقة).

وفي الثلاثين من آب (أغسطس) الماضي، أصدرت الإدارة الذاتية قراراً يقضي باستحداث مكتب حماية الطفل من النزاعات المسلحة ضمن معظم الإدارات والمجالس المدنية التابعة لها، وتتلخص مهام هذا المكتب بتلقي الشكاوى الخاصة بتجنيد الأطفال ضمن قوات سوريا الديمقراطية، إلّا أنّ العديد من ذوي الأطفال تقدموا بشكاوى لهذه المكاتب دون إحراز أي نتائج فعلية حتى الآن وفق ما أفادت به العديد من المصادر.

مصدر محلي مُطلع أفاد للجمهورية عن وجود حالات يتم فيها تقديم وثائق شخصية غير مطابقة للقاصر المنتسب، من خلال تواطؤ بعض القادة العسكريين من قوات سوريا الديمقراطية. أي أن العديد من القُصر المُجندين ضمن صفوف هذه القوات يحملون وثائق شخصية تعود لأخوة أو أقارب لهم تتجاوز أعمارهم الثامنة عشرة، وقد ساهمت هذه الإجراءات بضعف تعقُب حالات تجنيد القُصَّر، وإخفاء العديد من الأدلة على تورط هذه القوات بحوادث تجنيد أطفال.

أفادت مصادر بأن هؤلاء الأطفال يتم أخذ العديد منهم لمعسكرات في جبال قنديل، يتلقون فيها تدريبات عسكرية وفكرية تجعل من ولائهم لحزب العمال الكردستاني ركيزة أساسية في تكوين شخصياتهم الفتيّة، فضلاً عن ترغيبهم بمناصب قيادية مستقبلاً (ما يسمى بالكوادر)، ما يزيد من اندفاع هؤلاء الأطفال لهذا النمط من الحياة، ويجعل ارتباطهم بهذه القوات أوثق، والعزوف عنها ضرب من أضرب الخيال.

أشارت عدد من المصادر والأنباء المتقاطعة بأن عدداً من هؤلاء الأطفال قضوا في قنديل دون حتى معرفة سابقة من ذويهم أنهم هناك، ففي يوم التاسع من حزيران الماضي 2020، أبلغت قوات سوريا الديمقراطية كلاً من ذوي القاصر محمد حميدي الشحاذة الفرج مواليد عام 2003 بئر الصناع (25 كم شمال الطبقة)، وبتول عبد الجليل العيسى مواليد عام 2004 الطبقة، أنَّ قصفاً جويّاً تركيّاً على جبال قنديل قد أودى بحياة أبنائهم، وقد تمّ دفنهم في قنديل دون أي تفاصيل أخرى.

ورغم كل الإدانات التي سُجلت بحق حركة جوانن شورشكر (الشبيبة الثورية)، وهي منظمة غير رسمية مرتبطة بحزب العمّال الكردستاني مباشرةً، بخصوص اختطاف الأطفال وتجنيدهم، إلا أنّ إلقاء التهم على هذه الحركة من قبل قوات سوريا الديمقراطية، لا ينفي ضلوع العديد من قياديّ هذه القوات بتجنيد الأطفال.

تُوضِح الحوادث المُدونة أعلاه استمرار نهج قوات سوريا الديمقراطية في تجنيد الأطفال، رغم كل المواثيق والمعاهدات الدوليّة المُبرمة من قبلها، والتي تُوجِب عليها إيقاف ذلك، ما يزيد احتمالية عدم الالتزام مستقبلاً بأي معاهدات على هذا المستوى. ويُلاحظ أيضاً غياب آلية دولية لمراقبة تطبيق هذه المعاهدات ومدى التزام القوات بها، مما يجعل مسؤولية الضامن الدولي ممثلاً بالأمم المتحدة والتحالف الدوليّ أكبر للعمل على إنهاء هذه الممارسات وتسريح ما تبقى من أطفال، والمضي قٌدماً في إيجاد آليات مناسبة لإعادة تأهيلهم ودمجهم في المجتمع. كما يجب الإشارة إلى أنّ هذه السلوكيات تعيق المساعي المحليّة والدوليّة لدعم استقرار المنطقة وضمان العيش بسلام ضمن مكوناتها.

تشير كل الدلائل المتوفرة إلى استمرار قوات سوريا الديمقراطية بتجنيد الأطفال، أو السماح بذلك، ما يعني استمرار مأساة أهالي الأطفال المجندين في عموم الجزيرة السورية، واستمرار خوف الأهالي في المنطقة من إرسال أولادهم لوحدهم إلى الخارج، في الوقت الذي تستمر فيه عمليات خطف وتجنيد الأطفال واليافعين. وهي مسؤوليةٌ يتحملها، إلى جانب قسد، التحالف الدولي الذي يقدم الدعم والرعاية لقوات سوريا الديمقراطية.

تجنيد الأطفال واليافعين مشكلة تواجه الجميع في سوريا، إذ تقوم بهذه الانتهاكات الغالبية العظمى من القوى المسلحة في البلاد، مثل هيئة تحرير الشام، التي تقيم معسكرات تدريب للأطفال، أو قوات النظام التي تسمح لميليشياتها بتجنيد الأطفال واليافعين في صفوفها.

في حالة الجزيرة، يوجد طرف تقدّم بشكل رسمي لوقف تلك الانتهاكات، لكن مع ذلك يبدو واضحاً أنّها لم تتوقف حتى اللحظة. وبغض النظر عن تأثير أي صراعات داخلية بين مراكز القوى في الجزيرة على وقف تلك الانتهاكات، فإنّ استمرارها بهذه الطريقة يعني شيئاً واحداً؛ أن لا ضامن في المنطقة لوقف أي نوع من الانتهاكات ضد المدنيين، وأنّ الوعود والتصريحات لا تتجاوز حملات العلاقات العامّة، بينما لا تزال والدة أحمد عاجزة عن الوصول إلى إبنها الذي أصبح شابّاً بعيداً عنها. في منطقة لن تشهد استقراراً أو أماناً حتى يستطيع عشرات الأهالي استعادة أبنائهم القاصرين، الذين تعرضوا للتلاعب والخطف.