لا يزال مجال علم النفس وما يتطرق إليه من اضطرابات وحالات نفسية أقرب ما يكون إلى الغموض والضبابية ضمن مجتمعنا السوري. وربما قد تعرّضت بالفعل، عزيزت/ي القارئ/ة، -إن كنت قد احتجت يوماً لزيارة العيادة النفسية وأجهرت بذلك- للنعت بالـ«جنون»، حيث لا تزال هذه الكلمة تقفز إلى أذهان السواد الأعظم بمجرد ذكر «الاضطراب النفسي» أو «الطبيب النفسي» أو «المعالج النفسي».. إلخ. أو ربما قد نصحك أحدهم بالتقرب من الله لأنّ ما تشعر به من حزنٍ أو ألم هو بسبب البعد عن الله أو غضبه، بل ربما هذا ما قاله لك أحد المختصين النفسيين! أو ربما هاجمك ثالثٌ بأنّ كل ما تقوم به ما هو إلا تظاهرٌ يهدف إلى لفت الانتباه، وربما تعرضت لغير ذلك من معتقداتٍ مختلفة أبعد ما تكون عن حقيقة شعورك بالمعاناة النفسية. لذا نجد من الأهمية بمكان إفساح المجال لفهم معنى الاضطراب النفسي، في حدّ ذاته، والمعاناة أو الضيق النفسي، ولمناقشة الحدود ما بين الحالة «الطبيعية» و«المَرَضية».

فهم الضيق النفسي

بدايةً لا بد من التفريق بين الضيق النفسي (détresse) أو المعاناة النفسية، وبين الاضطراب العقلي/النفسي (psychopathologie). نشرت فيفيان كوفيس ماسفيتي (Viviane KOVESS-MASFETY)، وهي طبيبة نفسية وعالمة وبائيات وبروفيسورة فخرية في EHESP -كلية الدراسات العليا في الصحة العامة- وباحثة متعاقدة مع مخبر علم الاضطرابات النفسية وعمليات الصحة (جامعة Paris-V)، في ملحق مجلة العلوم الإنسانية، مقالاً تحت عنوان: Psychopathologie, comprendre le mal-être، أو السيكوباثولوجى؛ فهم الكَدَر. تناولت ماسفيتي معنى الضيق النفسي، وذكرت أنّ ما يقرب من 15 إلى 20% من البشر قد مرّوا بضيقٍ نفسي أو عاشوا المعاناة النفسية في لحظةٍ معينةٍ من الحياة. وعرّفت هذا الضيق بأنه «يتحدّد عبر وجود أعراض اكتئابية أو أعراض قلق، خفيفة الشدة أو زائرة، بحيث لا تستوفي هذه الأعراض المعايير التشخيصية. وهي عبارة عن استجابات على مواقف عصيبة أو صعوبات وجودية. وبالتالي لا تشير هذه المعاناة إلى اضطراب عقلي/نفسي بحصر المعنى، ولكنها قد تتطور في المستقبل إلى ذلك، في حال استمرارها وتعاظمها..». وملخص هذا التعريف أن الشعور بالضيق النفسي أو المعاناة في لحظةٍ معينةٍ من الحياة لا يعني حصراً وجود اضطراب نفسي، كما لا يعني أنه يشكل بالضرورة «عَرَضاً مَرَضياً».

الحدود أكثر ضبابيةً مما نعتقد!

إذاً، متى تكون الأعراض «طبيعية» ومتى تكون «مَرَضية»؟ لنفترض أن أحداً ما يمرّ بحالةٍ من الحزن الشديد أو الأسى (أي عَرَض ما) بسبب موت أحد أصدقائه، فهل يستلزم هذا تدخلاً نفسياً مختصاً؟ إن كان بوسعنا القول بأن الاكتئاب (اضطراب مزاجي) هو مبالغة للأسى مثلاً، فإننا لا نستطيع القول إنّ وجود الأسى يعني وجود الاكتئاب، فالأسى شعور طبيعي يبديه الفرد إزاء الفقد أو الخسارة أو ما إلى ذلك من أحداث عصيبة، وبالتالي هو حالة «طبيعية». إلا أنّ هذا الأسى الطبيعي قد يتحول إلى أسى «مَرَضي» حين يستمر لمدةٍ معينة ويكون بشدةٍ معينة، وحين يترافق مع مشكلاتٍ في النوم واضطراباتٍ في الشهية وصعوباتٍ في التركيز (بمعنى أنه يترافق مع أعراض أخرى مُحدّدة)، وغيرها من الأعراض. وهنا نستطيع القول بأنه قد دخل في حالة اكتئابية، وأنّ هذا الأسى قد تجاوز الحد الطبيعي، من دون التطرق إلى تحديد نوع الاكتئاب بحد ذاته، والذي يعني أن أي تغييرٍ في شدة أو مدة عَرَضٍ معين، أو أي ظهورٍ أو اختفاءٍ لأي عرضٍ آخر، قد يؤدي إلى تحديد نمطٍ اكتئابيٍّ يختلف عن الآخر، وبالتالي طريقة مختلفة في التدخل. مثلاً، قد يعاني أحدهم من الاكتئاب دون أن يكون قد تعرض مؤخراً لخبرة من الحزن! إن هذا أيضاً اكتئاب.

وحين نتحدث عن مشاعر طبيعية، فالمقصود هو فطرية وجودها في حدّ ذاتها، أي أنّ وجودها طبيعيٌّ عند كل البشر، سواء كانت إيجابية (أي مشاعر محببة لنا مثل الحب والفرح والاطمئنان) أو سلبية (أي غير محببة لنا، مثل الخوف والحزن والغضب). بكلماتٍ أخرى، كلّنا  نمر في حياتنا بلحظاتٍ من الخوف والقلق وما إلى ذلك من مشاعر سلبية، وكذلك بلحظاتٍ من المشاعر الإيجابية. ويوجد للمشاعر الطبيعية السلبية أهمية خاصة، فهي تساعدنا على البقاء وتدفعنا لتجنّب الأحداث الخطيرة بشكلٍ حدسي. مثلاً، كثيراً ما نسمع في حالات الانتهاك الجنسي للأطفال عبارة «لم أفهم ما الذي كان يحدث في تلك اللحظة، ولكنّي كنت أشعر بالخوف الشديد وأردت الهروب!»، ففي بعض الأحيان، لا تكون لدينا المعلومات الكافية لنفهم وندرك عقلياً أنّ ما يحدث يشكل خطراً ما، لكن هذه المشاعر «الطبيعية» تخبرنا بذلك على أية حال.

لنأخذ مثالاً آخراً، وهو اضطراب الشدة ما بعد الصدمة (post-traumatic stress) (نوع من اضطرابات القلق)، وهو اضطرابٌ يصيب الأفراد الذين تعرّضوا لصدمةٍ نفسية قوية عبر المرور بخبرة صعبة (لمرة واحدة أو أكثر) كانت قد هددت حياتهم الشخصية أو النفسية هم أنفسهم، أو حياة شخصٍ آخر مقرب جداً. لنفترض أن أحداً ما قد عايش معارك متعددة بين طرفين مسلحين كانت قد هددت حياته. سيميل هذا الشخص فيما بعد إلى تذكّر بعض هذه المعارك مع وجود كوابيس، وإلى تجنّب التعامل مع أي عنصر يرتبط بما عايشه؛ كأن يهرب مثلاً عند رؤية شخصٍ مسلح في مكانٍ عام. أليست هذه الأعراض هي آليات طبيعية إلى حدٍّ ما لدى الجميع عند التعرّض لمواقف مثيرة للقلق؟ من حيث المبدأ نعم، ولكنها تتواجد بشدة وتستمر لمدة تختلف من شخصٍ إلى آخر، وهذا ما يشكل الفرق ما بين العَرَض «الطبيعي» وذاك «المَرَضي»؛ أي أن هذه الأعراض المرضية هي في الأصل طبيعية.

الهلاوس والهذيانات

وقد نعتقد أن هذا الحد الضبابي ما بين «المَرَضي» و«الطبيعي» هو أمرٌ ليس بمستغرب في الاضطرابات المزاجية واضطرابات القلق، وأن هذه الحدود ستكون أوضح في الاضطرابات التي تسمى الذهانية (مثل الفصام) أو في اضطرابات الشخصية (مثل اضطراب الشخصية النرجسية) أو غيرها. لكنّ الأمر لا يختلف حقاً هنا، فقد ذكرت ماسفيتي أنّ الاضطرابات التي تُسمى بالذهانية هي تلك التي تشتمل على أعراض معينة لا تتواجد مطلقاً عند الأفراد «الطبيعيين». مثالٌ على هذه الأعراض: الهذيانات (تشوهات تصيب وظيفة التفكير أو اعتقادات مرضية في وقائع غير حقيقية، مثل الأفكار البارانوية «الارتيابية»)، والهلاوس (إدراك مثير لا وجود له، كأن يرى أحدهم شيئاً ما لا يراه أحدٌ آخر سواه، وقد تكون بشكل هلاوس سمعية أو لمسية أو غيرها).

ولعل أحد أشهر اضطرابات هذا النوع هو اضطراب الفصام (الشيزوفرينيا)، وهو اضطرابٌ نادرٌ يصيب 1% من البشر. لكن هل حقاً توجد هذه الأعراض فقط عند الأفراد «غير الطبيعيين» المصابين بأحد الاضطرابات الذهانية؟ وهل هذه الأعراض «غير طبيعية» في المطلق؟ في الواقع إن هذه الأعراض، وخلافاً للفكرة السائدة، قد تتواجد عند «الطبيعيين» لأسباب مختلفة؛ كتناول العقاقير مثلاً، أو العيش في صراع مهني أو بين-شخصي (أي صراع يكمن في العلاقة مع الآخر)، أو وجودي كما في حالات الحروب أو في حالة النظم الديكتاتورية التي ترفع من درجة المراقبة إلى أقصى حد، كما في سوريا مثلاً، وغيرها من الظروف، فهل يمكننا أن نقول مثلاً إنّ من يعيش في سوريا ويعتقد بمراقبته من قبل المخابرات أو الشبيحة لديه أفكار بارانوية مرضية؟

أشار المقال إلى أنه في فرنسا، وبعد استبعاد الأفراد الذين يعانون من الاضطرابات الذهانية، فإنّ 5.7% من الأشخاص قد مرّوا في حياتهم بخبرةٍ واحدةٍ على الأقل من هذا النوع، منهم 4.9% مرّوا بخبرة من الهلاوس، و1.6% أخبروا عن تفكيرهم بأفكار هذيانية من النمط البارانوي. إن وجود الإنسان في ظروف صراعية قد يؤدي إلى ظهور أعراضٍ معينة: معزولة، أي لا تترافق مع أعراض أخرى لتشكّل اضطراباً، وزائرة بحيث تزول مع زوال الظروف، وبشدة خفيفة إلى متوسطة، إلا أنّها، إن تعاظمت الظروف أو امتدت لفترة زمنية طويلة مع عدم امتلاك الوعي الكافي حول الأعراض وحول التعامل معها، قد تتحول إلى «مَرَضية».

قيود المجتمع حول «الطبيعي» و«المَرَضي»

الأمر ذاته ينسحب على اضطرابات الشخصية، والتي تتميز بأعراض مستقرة نوعاً ما مع الوقت، لنأخذ مثالاً على ذلك اضطراب الشخصية المضادة للمجتمع، وهو اضطراب يشمل أعراض مثل سلوكيات عنيفة أو عدوانية أو عدم تعاطف، وغير ذلك من الأعراض. إن الجدل حول مدى «مَرَضية» هذه الأعراض هو ما يشير إليه علماء الاجتماع من أن الحكم هنا يعتمد على مدى تقبّل المجتمع وتسامحه مع هذه القيم، وعلى مدى تغيّر هذا التقبّل مع تطور المجتمع، وكذلك تغيّره من مجتمع إلى آخر، فلم تكن العدوانية «مَرَضية» بنفس درجتها اليوم، ولربما كانت يوماً ما  «فضيلة».

نحن نتحدث هنا إذاً عن الظروف البيئية أو المجتمع المحيط الذي يترك آثاراً هامةً في جانبنا النفسي، قد تجعلنا نعيش في معاناةٍ نفسية «طبيعية»، كما قد تدفعنا نحو الاضطرابات النفسية، بل وحتى قد تضفي في بعض الأحيان صفة «المرضية» على حالاتٍ ليست كذلك (مثل المثلية الجنسية، وما كان يسمى بالهستيريا، والذي كان ملتصقاً بالنساء عند قيامهن بما يخالف قيم المجتمع آنذاك، والأمثلة غيرها كثيرة). وإن حاولنا تتبّع أسباب الاضطرابات النفسية/العقلية بشكلٍ عام، فغالباً ما سنجد أنّ البيئة المحيطة قد لعبت دوراً هاماً في ظهورها، بالإضافة إلى أسباب أخرى مختلفة لن نتطرق إليها هنا، والتي تشكل الاستعداد الداخلي عند الفرد لتطوّر العَرَض. في الحقيقة إنّ ما يهمنا هو كيفية التعامل مع الأعراض «الطبيعية» ومنع تحوّلها إلى «مرضية»، خاصةً في البيئات التي تدعم هذا التحول.

كلنا مضطربون؟

إنّ فهم الضيق النفسي وإمكانية تطوره إلى حالةٍ من الاضطراب يساعدنا على فهم ما نحتاج إليه حقاً هنا والآن. إنْ نظرْنَا إلى دواخلنا كسوريين (داخل وخارج سوريا)، سنرى أنّ معظمنا يعاني من المعاناة النفسية بشكلٍ أو بآخر، فهل نحن مضطربون نفسياً ونحتاج إلى العلاج النفسي أو الدوائي؟ يمكننا الإجابة بأن بعضنا يحتاج للمساعدة النفسية المتخصّصة، وبعضنا الآخر لديه أعراض «طبيعية» قد تتطور مع الوقت إلى «مرضية» بسبب استمرارية الظروف المحيطة وارتفاع درجة الضعف النفسي والهشاشة بعد ما يقارب العشر سنوات من الفقد والخسارة والخوف والدمار والأزمات الاقتصادية، وبعد تاريخ طويل من القمع والترهيب، بالإضافة إلى عدم وجود رعاية أو تثقيف نفسي أو دعم حقيقي عام على مستوى المجتمع بأكمله؛ سواءً داخل سوريا أو في دول اللجوء.

إنّ ما نحتاج إليه كسوريين -بالإضافة إلى ضرورة إمكانية الوصول للخدمات النفسية المختصة- هو أن نفهم مانعانيه، وأن نتقبّل تعبنا وأن نزيد الوعي حول جانبنا النفسي، وذلك حتى نحاول الحد من تعاظم الأعراض الطبيعية وتحوّلها إلى أعراض مرضية. نحتاج إذاً إلى التعبير عن مشاعر الحزن والخوف والقلق، وغيرها من المشاعر الطبيعية، لنتمكّن من المحافظة على التوازن النفسي. ونحتاج أيضاً إلى التعبير عن الذات والصعوبات التي تمر بها بعيداً عن الأحكام المسبقة، وبالقرب من الاستماع الحقيقي الذي قد يأتي من الدعم النفسي المختص أو ذاك الصادق من الأصدقاء الداعمين. ولعلنا نرى اليوم بعض الانفتاح نحو فهم المعاناة النفسية، وذلك عبر ما نشهده من تزايدٍ في عدد الصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك، والتي تتناول الجانب النفسي الذي لطالما تجاهلناه، أو التي تهدف إلى الدعم النفسي المتبادل بين الأعضاء، لكن أيضاً يمكننا أن نرى هناك بأننا لا نزال نتخبط في هذا الفهم، حيث تمتلئ التعليقات بالنصائح أو المقارنات مع الآخر وغير ذلك، بالإضافة إلى غياب الرأي التخصصي الدقيق، وهو ما يزيدنا تخبطاً. وحقيقةً، نجد هنا الفرصة سانحة للإشارة إلى أن الدعم الذي يمكن أن يفضي إلى نتيجة طيبة هو الذي يعتمد على الاستماع الكامل المُصغي، والذي يخلو من تقديم النصح أو إطلاق الأحكام الخُلُقية أو الدينية أو المقارنة مع الآخر، وهو الذي يمنح الفرد كامل وقته أثناء تعبيره عن مشاعره وحاجاته؛ أي هو الاستماع دون القيام بأي إجراء أو تدخّل على الإطلاق. أما ما عدا هذا، وإذا بدأت هذه المعاناة بإعاقة حياة الشخص وممارسة عمله وروتينه اليومي، فلا بد هنا من تدخل تخصصي؛ سواءً كان من طبيب أو معالج نفسي.