أعلنت الحكومة الهولندية عن بدء إجراءات يُفترض أن تنتهي إلى إحالة قضية التعذيب في سوريا إلى محكمة العدل الدولية، ما الذي يعنيه التقاضي أمام محكمة العدل الدولية، وما هي الآفاق الأساسية لهذا الإجراء؟

قبل البدء بالحديث عن هذا الإجراء، سبق أن سمعت خلال الأيام الماضية بأنّ إرسال رسالة دبلوماسية من قبل الحكومة الهولندية لسفارة النظام في جنيف يعتبر اعترافاً بالنظام (المقطوعة علاقاته مع غالبية الدول الأوروبية). في الحقيقة لا أرى أبداً في هذه المراسلات أي اعترافٍ بالنظام، ويمكننا هنا الاستعانة بتصريح وزير الخارجية الهولندي عندما تحدّث عن هذا الإجراء، فقد استخدم الوزير في تصريحه مصطلح «النظام السوري»، وليس الحكومة السورية، كما انّه اتهمها بارتكاب انتهاكات «جسيمة» لحقوق الإنسان. لذلك فإن الإجراء الهولندي،، من الناحيتين الدبلوماسية والسياسية، يأتي على العكس تماماً مما قد توحي به الأحاديث عن اعتراف ما بالنظام السوري. لست بوارد الدفاع عنهم، قد يكون لدي تحفظات على بعض السياسات الهولندي تجاه المنطقة، لكن فيما يخص هذه النقطة كان الإجراء الهولندي المتمثل بالمراسلة الدبلوماسية بعيداً كل البعد عن أن يكون اعترافاً بالنظام السوري.

هولندا صدّقت على الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب، وسوريا صدقت عليها عام 2004، ويحق لأي دولة مصدّقة على الاتفاقية، أن تطالب الدول الأخرى المنضمة إليها بتنفيذ بنود هذه الاتفاقية؛ مثل الامتناع عن التعذيب ومحاسبة المسؤولين عن التعذيب على أراضيها.

واليوم لدينا تقارير صادرة عن منظمات حقوقية محلية ودولية ولجان تحقيق أممية تثبت ارتكاب النظام السوري للتعذيب. لدينا كم هائل من التقارير والإثباتات على ذلك، وهو ما يسمح لهولندا بالطلب من النظام السوري الالتزام بتعهداته في هذه الاتفاقية. في الثامن عشر من شهر أيلول (سبتمبر) الماضي، قامت الحكومة الهولندية عن طريق ممثليها الدبلوماسيين في جنيف بتسليم رسالة رسمية لسفارة النظام السوري تطالبه فيها بالالتزام باتفاقية مناهضة التعذيب الذي كان قد صدّق عليها منذ سنوات.

وفق الإجراءات المتبعة قانونياً، يجب أن تدار مفاوضات بين الحكومتين، وعندما تفشل هذه المفاوضات ويرفض النظام السوري الاحتكام إلى تحكيم، يمكن للحكومة التي قدّمت الشكوى اللجوء إلى محكمة العدل الدولية، وهي محكمة مختصة بالنظر في النزاعات بين الدول وقراراتها مُلزمة للدول.

يمكننا مراجعة عدة قضايا قُدّمت أمام هذه المحكمة لفهم آلية عملها؛ هناك قضيتان مرتبطتان بالاتفاقية الدولية ضد الإبادة الجماعية (الجينوسايد)؛ الأولى قدمتها جمهورية البوسنة والهرسك ضد صربيا عام 1993 وصدر قرار بخصوصها عام 2007، والقضية الثانية هي التي رفعتها غامبيا ضد ميانمار عام 2019 بما يخص الإبادة الجماعية لأقلية الروهينجا.

وقد أصدرت محكمة العدل قراراً قالت فيه إنّ صربيا لم تلتزم باتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع الإبادة وفرضتْ عليها دفع تعويضات، بينما في حالة ميانمار لم تنتظر حتى صدور الحكم النهائي، وأصدرت بداية العام الحالي قرار حماية يُلزم دولة ميانمار بالتوقف عن أي إجراءات تقود إلى انتهاك حقوق أقلية الروهينجا، لأنّها رأت ضرورة اتخاذ إجراءات سريعة في ظل الظروف المتفاقمة هناك.

هناك قضية ثالثة، رفعتها الحكومة البلجيكية ضد السنغال؛ بسبب حماية السنغال للدكتاتور التشادي السابق حسين حبري، وفي هذه الحالة كانت السنغال قد خرقت القانون الدولي باستضافتها أحد المتهمين بارتكاب التعذيب، وكان عليها وفق نصوص اتفاقية مناهضة التعذيب محاكمته على أراضيها أو تسليمه إلى دولة أخرى لمحاكمته هناك، وعندما رفضت السنغال قدمت بلجيكا دعوى أمام محكمة العدل الدولية، وصدر قرار يدعم الطلبات البلجيكية. نتيجة هذا الضغط الذي تسبّبت به المحاكمة، وقّعت السنغال على اتفاقية مع الاتحاد الأفريقي لإنشاء محكمة خاصة لمقاضاة حسين حبري على أراضيها.

ربما علينا التوضيح هنا أنّ محكمة العدل تنظر في إخلال الدول بواجباتها أمام القانون الدولي أو في النزاعات بين الدول، لكنّها لا تحاكم الأشخاص. لا يمنع ذلك من أن تكون إجراءات التقاضي فيها مماثلة للإجراءات في المحاكم الدولية الأخرى، إذ ستنظر المحكمة في الأدلة وربما تستمع للشهادات.

وفي حال وصلت الدعوى إلى محكمة العدل، ستكون المرة الأولى التي يُنظر فيها باتهام النظام السوري بارتكاب التعذيب أمام محكمة دولية. هناك اليوم دعاوى مقدمة أمام محاكم وطنية في ألمانيا استفادت من الولاية العالمية للقضاء الألماني بما يخص الجرائم ضد الإنسانية، وهو أمر مهم جداً بالطبع.

بالنسبة لكم كحقوقيّين، كيف تفهمون الإجراء الهولندي الأخير، وفي أي سياق تضعونه؟

بعد الإعلان الرسمي عن بدء هولندا بهذا الإجراء، أقامت الحكومة الهولندية فعاليةً على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، دعت إليه منظمات سورية، وشاركت أيضاً في هذا الاجتماع رئيسة الآلية الدولية المحايدة الخاصة بسوريا (IIIM). وقد صرّح وزير الخارجية الهولندي خلال هذا الاجتماع بأنهم يدعمون جهود الآلية الدولية المحايدة التي أنُشئت نهاية عام 2016، واعتبرَ خطوة حكومته الأخيرة استكمالاً لتلك الجهود، التي تمثلت بجمع أدلة حول الانتهاكات في سوريا.

الآن سيكون باستطاعة الهولنديين استخدام الملفات حول التعذيب في سوريا، التي بنتها الآلية خلال السنوات الماضية، أمام محكمة العدل الدولية. إذاً هناك تكامل بين الإجراء الهولندي والعمل الذي قامت به لجان التحقيق الدولية لإثبات وجود انتهاكات في سوريا.

وفي ظل عدم قدرتنا على تقديم دعاوى أمام محكمة الجنايات الدولية، التي يعرقل الفيتو الروسي إحالة أي ملف يخص سوريا إليها، فإنه لا توجد فرص كبيرة، لذلك كان من الجيد الاستفادة من هذه الفرصة والذهاب إلى محكمة العدل.

في حال صدر قرار من محكمة العدل الدولية يُجرّم النظام السوري بارتكاب التعذيب، ما طبيعة هذا القرار وما هي آثاره؟

علينا أن نفهم بدايةً أنّ هذه المحاكمة ستستغرق سنوات، مثلها مثل القضايا أمام محكمة الجنايات الدولية أو المحاكم الوطنية. على سبيل المثال، الدعوى في محكمة الجنايات الدولية ضد عمر البشير بدأت عام 2005، ولم يتم تسليمه للمحكمة حتى اليوم، وذلك رغم التغيير الحاصل في السودان.

بالنسبة للقرار، سيكون أولاً عاملاً شديد الأهمية في تصعيب أي محاولة لإعادة العلاقات مع النظام السوري. لن يمنع هذا القرار ذلك حتماً، لكنّه سيجعل مثل تلك المحاولات أصعب بكثير. هذا القرار في حال صدوره، وكل إجراءات التقاضي الحاصلة أمام المحاكم الأوربية الوطنية ضد النظام السوري، ستجعل التطبيع مع النظام أمراً صعباً للغاية، لكنّها لن تمنعه نهائياً؛ لأنّ مثل هذه التوجهات هي تنفيذ لقرارات سياسية في النهاية.

وفي حال أصدرت محكمة العدل قراراً يدين النظام السوري، فلن تكتفي بهذه الإدانة؛ إذ ستقوم بتفصيل وشرح الانتهاكات الحاصلة في سوريا، وهو ما سيشرح بصورة دقيقة تلك الجرائم المرتكبة، ويضعها أمام العالم بصفتها قراراً من أرفع محكمة دولية غير جنائية، وهو ما سيصعّب أي عملية تطبيع، ويكرّس حقيقة أنّ هذا النظام هو نظام منتهك. بالطبع كل الجهود التي تقوم بها منظمات سورية ودولية والآلية الدولية ولجنة التحقيق الدولية، وأخيراً هذه الخطوة الهولندية لرفع دعوى أمام محكمة العدل، تعتبر خطوات صغيرة تبني معاً مسار العدالة، خاصةً في ظل استعصاء التغيير السياسي في سوريا الآن.

ستساهم هذه الجهود أيضاً في مواجهة حملات الإنكار التي يتعرض لها الضحايا في سوريا، وتكرّس حقوق الضحايا على الصعيد الدولي، كما تكرّس أنّ النظام نظامٌ منتهك. خاصةً وأن قرارات محكمة العدل تتمتع بمصداقية عالية، وهو ما يجعل من إنكار قراراتها أمراً صعباً للغاية.

أي جهدٍ إذا ما نظرت إليه بشكل منفرد قد تراه ناقصاً وغير كافٍ، لكن كل الجهود المبذولة في هذا الإطار تستطيع تحقيق شيءٍ ما للضحايا. أما على أرض الواقع، حتى لو تمّ اتهام بشار الأسد أمام محكمة الجنايات الدولية، فلن يكون لذلك آثار تنهي تلك الانتهاكات إذا لم ترتبط بقرار سياسي دولي.

لا يمكننا فصل التغيير السياسي عن مسار العدالة، فحتى تستطيع التقدّم في مسار المحاسبة والعدالة في سوريا يجب أن يرتبط ذلك بتغيير على المسار السياسي، وإلا ستبقى أي خطوة ناقصة.