قدمت ثلاث مؤسسات حقوقية صباح أمس ملفاً للمدعي الفدرالي الألماني، يتضمن شكوى جنائية تتهم النظام السوري بالمسؤولية عن ضربات السلاح الكيميائي على الغوطتين الشرقية والغربية في 21 آب (أغسطس) 2013، وخان شيخون في 4 نيسان (أبريل) 2017، والتي تسبّبت بمقتل أكثر من 1450 مدني بمجموعها.

وتعدّ هذه الشكوى المقدمة أمام المدّعي الألماني الأولى من نوعها، من حيث استهدافها استخدام النظام السوري السلاح الكيميائي ضد المدنيين في سوريا. وقد سلّم كل من المركز السوري للإعلام وحرية التعبير ومؤسسة المجتمع المفتوح (Open Society Foundations) والأرشيف السوري، الشكوى باسم ضحايا وناجين من تلك المجازر، من أجل تجريم شخصيات محدّدة في النظام السوري تتحمّل المسؤولية الجنائية عن تلك الجرائم.

وتستفيد الشكوى المقدمة من الاختصاص العالمي للقضاء الألماني في ملاحقة ومحاكمة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. المعتصم كيلاني، مدير برنامج التقاضي في المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، قال للجمهورية: «قمنا بإيداع شكوى بناء على ملف قضائي قام بإنشائه كل من المركز السوري للإعلام وحرية التعبير ومبادرة العدالة في مؤسسة المجتمع المفتوح والأرشيف السوري للاستفادة من الاختصاص العالمي للقضاء الألماني، من أجل محاكمة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في سوريا. وتعد جرائم الحرب محظورة بموجب القانون الجنائي الدولي، بما في ذلك جريمة الحرب المتمثلة في استخدام السموم أو الأسلحة المسممة، وجريمة الحرب المتمثلة في استعمال الغازات الخانقة أو السامة أو غيرها من الغازات».

وبالنسبة لنوع الشكوى المقدّمة، يقول محمد عبد الله، منسق حملات المناصرة في الأرشيف السوري للجمهورية: «هذه هي الشكوى الجنائية الأولى المقدمة في ألمانيا أو أي دولة أخرى بخصوص استخدام الحكومة السورية للأسلحة الكيماوية في سوريا، والتي تعد من أخطر الجرائم على المجتمع وبناء السلام والعدالة في سوريا».

وقد قامت الفرق الحقوقية في المنظمات الثلاث بعملية تحقيق شاملة لتجميع الأدلّة التي تشير إلى تورط النظام السوري في الحادثتين. فقد تمّ تقديم سيناريو متكامل للمجزرتين بناءً على الأدلة التي جمعتها فرق التحقيق الدولية التابعة للأمم المتحدة ومنظمة حظر الأسلحة الكيميائية؛ والأدلة التي تمّ توثيقها من خلال فرق المنظمات الحقوقية السورية على الأرض مباشرةً بعد تلك الحوادث. يتابع المعتصم كيلاني حديثه للجمهورية: «هذه الدعوى تمهد لمحاسبة المرتكبين على جرائمهم بناء على الأدلة التي تم تقديمها مرفقة بملف الدعوى، والتي جمعها مركز توثيق الانتهاكات في سوريا، الذي كان متواجداً في دوما من خلال فريق التوثيق التي عملت عليه الزميلة رزان زيتونة وباقي أعضاء المركز، وهذه الخطوة نعتبرها تتويجاً لعملهم في سبيل توثيق كل ما حدث من جرائم وانتهاكات في سوريا، ولدعم الضحايا و إبراز دورهم الأساسي في سيرورة عملية المحاسبة والعدالة».

وفي ظل عرقلة الفيتو الروسي والصيني لإرسال ملفات الجرائم المرتكبة في البلاد إلى المحكمة الجنائية الدولية، يعدّ خيار الذهاب إلى القضاء الألماني والاستفادة من الولاية العالمية لهذا القضاء فيما يخص جرائم الحرب الخيار المتاح للحقوقيين السوريين، ولبرامج التقاضي التي بدأت بالعمل منذ أعوام قليلة على ملاحقة مرتكبي تلك الانتهاكات في سوريا بعد انطلاق الثورة عام 2011.

وقد تمكّنت المنظمات القائمة على الشكوى المقدمة للمدعي العام الألماني من تحديد تسلسل كامل للمسؤولية الجنائية عن الضربات الكيميائية في الحادثتين المذكورتين، بناءً على الأدلة التي جمعتها فرق التحقيق الدولية والمحلية، وبناءً على أبحاث مفصلة، ساعد فيها ضباط منشقون على إظهار تسلسل القيادة الحقيقي في المراكز العسكرية والمدنية المسؤولة عن تلك الضربات.

وتذكر الشكوى رأس النظام السوري بشار الأسد كمسؤول عن هذه الجرائم، وإلى جانبه عدد من الضباط والشخصيات القيادية في النظام وأجهزته، مثل علي أيوب، وزير الدفاع الحالي ورئيس هيئة الأركان أثناء حدوث ضربة خان شيخون؛ واللواء أحمد بلّول؛ والعميد غسان عبّاس؛ وغيرهم من الضباط والمسؤولين المرتبطين بشكل مباشر بتلك الحوادث.

وسيقوم المدعي الفدرالي الألماني، في حال قبول الشكوى المقدمة، بإعطاء إيعاز لقضاة التحقيق بفتح تحقيق هيكلي عن الانتهاكات الحاصلة، وسيكون هنالك مذكرات توقيف دولية بحق المتهمين الرئيسيين في الدعوى، ما يشكل سابقة تاريخية في ملاحقة مجرمين حرب مسؤولين عن استخدام أسلحة الدمار الشامل من خلال القضاء الألماني.

تلعب هذه الشكوى دوراً هاماً في إطلاق عملية ملاحقة مرتكبي مجازر الكيماوي في سوريا، وسيكون لذلك دورٌ في مناهضة إنكار المجازر الكيماوية أيضاً، من خلال دفع القضاء الألماني للتحقيق في تلك الجرائم وتثبيتها في ملفاته، ما يعني وضع وثيقة تاريخية عن تلك المجازر وإشارة لحقوق ضحاياها.

كما أنّ هذه الجهود ستكون بمثابة تتويج لتضحيات عدد كبير من السوريات والسوريين الذي قاموا بالمخاطرة بحياتهم من أجل توثيق تلك الجرائم، سواءً عبر الصورة أو عبر توثيق الشهادات والأدلة. يقول محمد عبد الله للجمهورية: «اليوم، بعد تقديم الشكوى للمدعي العام، يجب أن نتذكر ونشكر زملاءنا الصحفيين والناشطين الإعلاميين في سوريا، الذين لولا جهودهم في توثيق جرائم النظام لم نكن لنستطيع بدء عملية ملاحقة مرتكبي تلك الجرائم أمام القضاء».

ورغم أنّ القضاء الألماني لا يمتلك صلاحيات بدء محاكمة غيابية للمتهمين في هذه القضية، إلّا أن ملف الدعوى هذه سيكون له آثار قانونية على الكثير من الشركاء الدوليين للنظام، الذين ساهموا بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في تكوين منظومة السلاح الكيميائي لديه. كما أنّ الأثر السياسي لهذه الدعوى على أي محاولات إعادة التطبيع مع النظام مهم للغاية، إذ ستكون الحكومات الأوربية الراغبة بذلك أمام عائق التطبيع مع نظام ملاحق بتهمة استخدام سلاح الدمار الشامل ضدّ المدنيين.

للمرة الأولى منذ قرابة الثماني سنوات على أولى الضربات التي استخدم فيها السلاح الكيميائي في سوريا بعد الثورة (الضربة على حي البياضة في حمص عام 2012)، تنطلق أمس جهود استثنائية تقوم بها المنظمات الحقوقية السوريّة، من أجل تحقيق العدالة للضحايا في سوريا. ورغم أنّ هذه الشكوى، أو ما قد ينتج عنها، لن تؤدي على الأغلب إلى سوق المجرمين إلى المحكمة بشكل مباشر طالما امتنعوا عن السفر إلى البلدان المُجبرة على تطبيق أي مذكرات توقيف قد تصدر، إلّا أن هذه الجهود المستمرة لها أثر تراكمي كبير الأهمية في سبيل تحقيق العدالة والمحاسبة في سوريا.