يبدو أن الاستراتيجيين السياسيين في الحزب الجمهوري من بين المجموعات التي يعتزم دونالد ترمب القضاء عليها، فقد تمت تنحية عددٍ من الأشخاص الذين ساهموا كثيراً في صعوده السياسي عام 2016 عبر الاتهام الجنائي (كما حدث مع ستيف بانون)، أو الملاحقة الجنائية (روجر ستون)، أو الاتهام بعدم الكفاءة (براد بارسكال)، أو نتيجة الخلافات الداخلية (كيليان كونواي). لا تضم حملة ترمب كثيراً من الاستراتيجيين، ويبدو في كثير من الأحيان أنها لا تتّبع أي استراتيجية. بقيت فكرة ولاية ترمب الثانية أمراً ضبابياً في المؤتمر الوطني الجمهوري، لدرجة أن الحزب لم يوفر لذلك منصة رسمية. ورداً على سؤال الصحفي بيتر بيكر من النيويورك تايمز حول ما ينوي ترمب فعله في الولاية الثانية، قال الأخير: «أعتقد أننا سنحظى بحملة قوية للغاية. سنواصل ما نفعله، وسنعمل على ترسيخ ما قمنا به، ولدينا أشياء أخرى نريد إنجازها». نجح الرئيس في خلق بيئة من الفوضى المستمرة لفترة طويلة، ويبدو أن حملته اليوم تغرق في هذه الفوضى.

قبل أقل من ستين يوماً على الانتخابات، تُمثّل الإحصائيات تحدياً للعاملين في حملة إعادة انتخاب ترمب، ذلك أن جو بايدن يتقدم منذ أشهر في استطلاعات الرأي الوطنية بـ7 بالمئة على الأقل. وسيحتاج ترمب إلى هزيمة بايدن في نحو نصف الولايات المتأرجحة الست – ميتشيغان وبنسلفانيا وويسكنسن ونورث كارولينا وفلوريدا وأريزونا – حتى يتمكن من الفوز بالمجمع الانتخابي. ويتخلف ترمب عن بايدن في كلٍّ من هذه الولايات رغم أن الهامش في نورث كارولينا وفلوريدا أقل من 2 بالمئة. نحو 42 بالمئة من الأميركيين راضون عن أداء ترمب كرئيس، وهو رقمٌ ظلّ ثابتاً إلى حدٍّ ما طيلة فترة حكمه، لكن 54 بالمئة غير راضين عن أدائه اليوم، ما يعطيه معدّلاتٍ أدنى من باراك أوباما وجورج دبليو بوش وبيل كلينتون ورونالد ريغان في لحظاتهم المماثلة خلال حملات إعادة انتخابهم، وإن كان متقدماً على جورج إتش دبليو بوش وجيمي كارتر. بعبارةٍ أخرى، سيكون ترمب إما أقل الفائزين بالانتخابات شعبيةً في تاريخ الاقتراع الحديث، أو أكثر الخاسرين شعبية.

لا تبدو هذه الأرقام بالغة السوء بالنسبة لجيل الشباب من المستشارين الجمهوريين، الذين بنوا حياتهم المهنية في قرنٍ مليءٍ بالأحقاد، بالتزامن مع حدة الانقسامات الحزبية وانحسار أعداد الناخبين المتأرجحين. وقد أشار المستشارون إلى أن الرئيس يحظى بتأييدٍ راسخٍ له بين الجمهوريين، حيث أكد نحو تسعين بالمئة منهم على دعمهم له. وأظهرت غالبية استطلاعات الرأي التي سألت الناخبين عمّن يثقون به لإدارة الاقتصاد –بما في ذلك الاستطلاعات التي أظهرت تقدم بايدن بعشر نقاط– تفضيلهم ترمب على بايدن، ما يشير إلى أن الجمهوريين أو المستقلين المتشكّكين قد يقتنعون بالتصويت لصالح ترمب حرصاً على مصالحهم. تجلّى كل تراجع ترمب تقريباً في أوساط الناخبين البيض، أما في أوساط اللاتينيين، الذين يشكّلون تجمعاً انتخابياً حاسماً في ولايتي فلوريدا وأريزونا المتأرجحتين، ظل وضع ترمب ثابتاً وربما تعزز، حيث قدّر استطلاع أجراه المعهد العام للأبحاث الدينية الشهر الماضي أن نسبة تأييده بين اللاتينيين بلغت 36 بالمئة عام 2020، أي بفارق 8 نقاط عن نسبة الناخبين اللاتينيين الذين صوتوا له وفق استطلاعات الرأي عام 2016. الأخطر بالنسبة للديمقراطيين هو استطلاع حديث للناخبين الهسبانيين في فلوريدا أظهر حصول بايدن على أقل مما حصدته هيلاري كلينتون عام 2016 بـ11 نقطة.

لكن حتى نقاط القوة هذه تبدو موضع شكّ عند التدقيق فيها، فهي لا تحتسب المعاناة الهائلة التي سببتها جائحة كورونا، إذ توفي أكثر من 190 ألف أميركي، بينهم مسنّون كثر، وبدأ نحو 30 مليون شخص بتلقي إعانات البطالة. فاز ترمب على كلينتون بنحو 20 نقطة في أوساط كبار السن عام 2016، وتُثبت الاستطلاعات اليوم أنه يتقدم على بايدن بين كبار السن بنقاط قليلة فقط. ربما تعزز موقف ترمب في ميدان الاقتصاد عبر إعانات البطالة المؤقتة التي طالب بها الديمقراطيون هذا الربيع، لكنّ هذه المزايا بدأت بالتلاشي بعد رفض الجمهوريين تجديدها. وقد أجرى مكتب الإحصاء مسحاً للعائلات هذا الصيف وسألها ما إذا كانت تتوقع سداد إيجار الشهر المقبل أو سداد الرهن العقاري، وكانت الأجوبة مأساوية. جاءت الأرقام الأشد سوءاً في منتصف الصيف، إذ قال 32 بالمئة من المُجيبين في فلوريدا، وهي ولاية يتحتم على الرئيس الفوز بها، إنهم لم يتمكنوا من سداد دفعة السكن الأخير، أو لا يثقون كثيراً في أنهم سيتمكنون من سداد الدفعة القادمة.

وبما أنّ هذه الأرقام قاتمةٌ لدرجةٍ لا يمكن تصورها، فاجأتني استطلاعاتٌ متلاحقة حول تعامل ترمب مع الفيروس تشي بأن آراء الناس ليست شديدة السوء، فهي تتقارب من معدلات القبول التي يحظى بها أداؤه بشكل عام وتزيد بفارق 5 أو 10 نقاط على رضا الناس عن أدائه إزاء احتجاجات «حياة السود مهمة» التي أعقبت مقتل جورج فلويد. يعتقد معظم الجمهوريين أن ترمب يُبلي بلاءً حسناً في التعامل مع الجائحة –وهي الأزمة العالمية التي أراد الحد من آثارها غالباً– لكنّ ملايين الجمهوريين لم تعجبهم استجابته لمطالب المساواة العرقية، وهي قضية سعى عمداً لتوظيفها كسلاح لاعتقاده أنها قد تعود عليه بالنفع.

ذكرتُ هذا التناقض لتشارلز فرانكلين، الذي يدير استطلاعاً للناخبين في ويسكونسن لصالح كلية الحقوق بجامعة ماركيت المرموقة. قال فرانكلين إنه كان يبحث في هذه القضية، مشيراً إلى أن «التقييم الأسوأ لترمب كان في القضية العرقية في بياناتنا، والأهم من ذلك في البيانات الوطنية، والأمر بقي على هذا النحو منذ سنوات». وجد فرانكلين أنّ معظم ناخبي ترمب في ولاية ويسكونسن لا يدعمون توجهه بشأن القضية العرقية، وليسوا قريبين منها حتى: «هذه ظاهرة ريفية وبعيدة عن الجامعات»، بحسب ما قال، مضيفاً أنه في ضواحي ميلووكي وفي المدن الأصغر مثل غرين باي وأبلتون «ثمة دائرة انتخابية جمهورية لم ترغب أبداً في تبني الرسائل السلبية التي يركّز عليها بشأن العرق، ويرفض الناس فيها أن يكونوا عنصريين». وثبتت صحة ذلك حتى بعد أعمال العنف في بورتلاند وكينوشا، إذ غرّد ترمب لأيامٍ متتالية حول «القانون والنظام»، مدّعياً أنه يجب السيطرة على المدن التي يحكمها الحزب الديمقراطي بيدٍ من حديد. لكنّ استطلاعات الرأي في الأسبوع اللاحق أشارت إلى فشل هذه المناورة، وبقي ترمب متخلّفاً في جميع الولايات المتأرجحة، حيث وجد استطلاع أجرته قناة ABC أنّ 55 بالمئة من الناخبين يعتقدون أنّ استجابة ترمب للاحتجاجات أججت الوضع، بينما 13 بالمئة فقط رأوا أنها حسّنته.

لا تبدو الإحصاءات الأولية مُبشّرة. لكن السياسة في مستواها الأعلى مجرد كلامٍ بكلام. هل يمكن لترمب أن يقول أشياءً تغيّر مسار الانتخابات؟ هل هناك طريقة تمكّنه من تحويل الخسارة المحتملة إلى فوز؟ قبل المؤتمرات الانتخابية التي عقدتها الأحزاب، اتصلتُ بمستشارين سياسيين من جميع الفئات –من جمهوريين مؤيدين ومعارضين، وديمقراطيين، وتقدميين، ومستقلين– لمعرفة ما إذا كانوا قادرين على تخيّل مسارٍ يُفضي إلى فوز الرئيس. اكتشفت أن عدداً مذهلاً منهم، بسبب الوباء، أمضى الربيع والصيف في منازل شتوية بعيداً عن واشنطن. («كفّ عن النباح يا سكاوت»، أمر مستشار رئاسي سابق كلبه حين وصلتُ إلى منزله في جبال روكي). لكنني وجدت أن العزلة، أو المناظر الخلابة، أو ربما الاحتمال الوشيك لقيام سياسة دون استراتيجيين، حصرت تركيزهم على سؤال محوري وحيد. «الاستدارة» مصطلح هزيل من القرن العشرين لا يناسب واقع القرن الحادي والعشرين العصيب [الكلمة الإنكليزية هي spin، وتعني في عالم الإعلام والعلاقات العامة خداع الجمهور عبر إعطاء تفسيرات منحازة ومضللة بقصد الالتفاف على وقائع سلبية ضارّة بالسمعة]. كيف يمكن –يتساءل المستشارون– الالتفاف الإعلامي على الجائحة التي قتلت أكثر من 190 ألفاً، وعلى البطالة الجماعية، والاضطرابات المستمرة، والكوارث المناخية، وحرائق الغابات التي طالت مركز الاقتصاد الأميركي في وادي السيليكون؟

حين زرتُه في قرية ستو بولاية فيرمونت، قال لي ستيوارت ستيفنز، الاستراتيجي الجمهوري الذي أدار حملة ميت رومني الرئاسية: «في الواقع لدي رأيٌ قويٌّ حول ذلك. إذا كنت تتساءل عما يحتاجه رجلٌ غير محبوب لرفع حظوظه والفوز مجدداً، ثمة حوادث تاريخية مهمة في هذا السياق. وعلى حد علمي لم يحدث أيّ شيءٍ شبيهٍ دون توبة أو اعتذار».

يُعدّ ستيفنز من أبرز الجمهوريين المناهضين لترمب، وهو مستشارٌ لمشروع لنكولن ومؤلف كتاب كل شيء كان كذبة، الذي يتناول الفراغ الأخلاقي المستشري لعقود داخل الحزب الجمهوري. بحسب ستيفنز، المشكلة الحقيقية التي تواجه ترمب هي ازدراء الشعب للرئيس. «كان لدى 48 بالمئة من المواطنين آراءً مناوئةً لترمب وفقاً لاستطلاع مونماوث. لم أرَ أمراً مشابهاً قط، باستثناء الكتلة الشيوعية». بحسب ستفينز فإن «أصعب ما في السياسة هو دفع من يراك بصورة غير مواتية بالمرة إلى التصويت لصالحك. هذا منطقي، أليس كذلك؟ من العسير أن يقول أحدهم ’أنا أكرهك لكنني سأصوت لك اليوم‘». وتابع ستيفنز أن فترة الصيف كانت كاشفة: «أكثر الفترات التي يمر بها أي منافس هشاشةً هي الممتدة بين حصوله على الترشيح وتجهيزه لحملته. ما الذي حدث في تلك الفترة؟ هوى ترمب وصعد بايدن، وهذا يوضح الأمور بشكل كبير».

يرى ستيفنز أن الصيف أثبت تهافت ما لدى ترمب ليقدمه. «ترمب مرشح كراهية، وحملات الكراهية مرهقة في نهاية المطاف». لكن مشاكل حملته لم تقتصر على المرشح، بل تعدّتها لتشمل الظروف التاريخية المتردّية على مستوى العالم. أصرّ الرئيس شهوراً على أن أزمة فيروس كورونا ستختفي قريباً، فيما تطالب حملته الناخبين اليوم بتكذيب أدلة يرونها رأي العين. وتابع ستيفنز: «إذا أيقظتُك في منتصف الليل وقلتُ لك: ’نعيش أسوأ وضع اقتصادي في تاريخ أميركا. في الشهور الأربعة الماضية توفي بسبب هذا المرض ما يتجاوز وفيات أي مرض في تاريخ الولايات المتحدة خلال الفترة ذاتها. كيف تقيم أداء المسؤول؟‘ حتماً لن تجيب بأنه أداء عظيم».

وتابع ستيفنز أن ترمب، لهذا السبب، يحتاج إلى معجزة: «سيبدو الأمر شبيهاً بما جرى في حروب شبه جزيرة القرم، وثمة مثال معروف في صفوف المستشارين السياسيين هو ما حدث مع تشارلز بيرسي». واجه بيرسي، السيناتور الجمهوري المعتدل من إلينوي، خصماً محافظاً متشدداً عام 1978، فوجد نفسه في المكان الخطأ حيال الموجة الثقافية التي أصبحت لاحقاً ثورة ريغان. ونظراً إلى ظروف حملته العصيبة، ظهر بيرسي في إعلانٍ مدته ثلاثون ثانية، وقالت مجلة التايم إنه «بدا شاحباً وعلى وشك البكاء». قال بيرسي في الإعلان: «فهمت الرسالة، وأنتم محقون. لقد تجاوزت واشنطن الحدود، وأنا متأكد أنني ارتكبت نصيبي من الأخطاء، لكن في الحقيقة أولوياتكم هي أولوياتي أيضاً: إيقاف الهدر، وتخفيض الإنفاق، وخفض الضرائب». وهكذا ظهر شخصٌ طرح اسمه كمرشح رئاسي جمهوري محتمل أمام الناخبين وهو يستجدي عطفهم. كان هذا أمراً مهيناً بالتأكيد، لكنه نجح في تحقيق هدفه.

هل يمكنك تخيل ترمب في موقف بيرسي؟ أيكون شاحباً؟ بالتأكيد. لكنه قد لا يكون على وشك البكاء. قال ستيفنز في محاكاة لما قد يقوله ترمب أو أي جمهوري تقليدي في مكانه: «اعتقدت أن مزيداً من الأميركيين سيعودون للعمل. كانت هذه الجائحة كارثية، ولو كنت أعرف ما سيحصل لتعاملت معها بطريقة أخرى. لكن لا يمكننا العودة بالزمن، وأرغب بالاعتذار لكل أميركي عانى. كانت فترة مروّعة على أميركا، لكن يمكننا تحسين أدائنا، ويمكنني شخصياً تحسين أدائي. أريد أن تمنحوني فرصة ثانية، وأريد منكم سماع ما أنوي فعله ومقارنته بما سيفعله جو بايدن». وأضاف معلّقاً على هذه الاستراتيجية: «سيمنحك الأميركيون دائماً فرصة ثانية، لكن عليك طلبها. عليه أن يطلب إذنهم بالتغيير».

ترمب

يشبه التحدي الذي تواجهه حملة ترمب – لإقناع الناس بأن الأزمة الشاملة ليست خطأ الرئيس الحالي – التحدي الذي واجهته حملة أوباما في بداية السباق الرئاسي عام 2012، فالأنباء الاقتصادية حينها كانت سيئة لدرجة أنها قد تسبب خسارة أوباما إذا حمّله الناخبون مسؤوليتها. لذا توجّب تحميل المنافس مسؤولية الأوضاع المتردّية. وفي العام السابق للانتخابات، طلب خبير استطلاعات الرأي والصحفي السياسي السابق جويل بيننسون من مئة ناخب لم يحسموا أمرهم في ثلاث ولايات متأرجحة كتابة إجابات مطوّلة على أسئلة مفتوحة تهدف إلى التحقق من مشاعرهم إزاء الاقتصاد. تضمنت الأسئلة التالي: «ما هي آخر مرة عوملت فيها بشكل غير منصف في مكان العمل؟ يرجى وصف ما حدث بالتفصيل. كيف كنت تودّ أن تتم معاملتك في موقفٍ كهذا؟».

نتج عن المشروع 1400 صفحة من السرد الشخصي، ولاحظ بيننسون وموظفوه ثيمةً بارزةً أثناء مراجعتها. أراد الناس الربح لشركاتهم، لكن ما أزعجهم كان مزاجية صاحب العمل، أي حين بدا أن الشركة تُعاملهم بشكل غير منصف. عندما اتصلتُ به مؤخراً، أوضح بيننسون أن حملة أوباما اتخذت قراراتٍ حاسمةً بناءً على هذه المعلومات. القرار الأول كان عدم تجنب الكارثة الاقتصادية، ومن هنا قررت الحملة، خلافاً للمتوقع، رفع المخاطر والإصرار على أن مصير الطبقة الوسطى سيتحدّد في انتخابات عام 2012. والثاني كان مقارنة أوباما، كممثل لاقتصاد عادل، برومني، الذي عملت الحملة حثيثاً على تصويره كرمز للاقتصاد غير العادل. والثالث هو ببساطة الاعتراف بسوء التوقيت وغياب الحلول السريعة، والاعتراف بعمق المعاناة. قال لي بيننسون: «الأزمة فرصة. هذا يدعو للتشاؤم، إلا أن الأزمة فرصة لإظهار قوتك وتعاطفك مع الشعب الأميركي وتجنيده لخدمة قضيتك».

وعلى غرار ستيفنز، أشار بيننسون إلى فكرة اعتراف المسؤول بخطئه: «لا أعرف ما إذا كان سينجح، وما إذا كانت طبيعته تسمح له. لكن كيف سيبدو ذلك الاعتراف؟». بدأ بيننسون بتخيّل ترمب وهو يقوم بذلك: «عليه أن يقول: ’لقد قلت وفعلت الكثير من الأشياء التي ندمتُ عليها بشأن لزوم ارتداء الكمامة. ربما لم أثق بمن ينبغي الوثوق به، ووثقت بمن لم يكن أهلاً للثقة. ليس ثمة كلام كافٍ لطمأنة العائلات التي فقدت أحبّاءها في جميع أنحاء الولايات المتحدة‘، وعليه تقديم خطة بعد ذلك». بيننسون، الذي عمل أيضاً كمستطلع رأي لهيلاري كلينتون في حملةٍ فشلت في قياس شدة التوجه المناهض لـ«المؤسسة الحاكمة»، توقف لدقيقة مفكراً بصورة ترمب وهو يلقي خطاباً يعبّر فيه عن ندمه، وقال: «هذا مثير!». ثم فكر قليلاً وأضاف: «لكنني لا أعتقد أنه قادرٌ على ذلك، فأكبر نقاط ضعفه هي رفضه الاعتراف بأنّ الأمور أقل من مثالية».

ثمة ما لم يذكره ستيفنز أو بيننسون، وهو أن هذه المقاربة تعتمد على نظرة تقليدية للناخبين الأميركيين تفترض وجود ناخبين متأرجحين يمكن إقناعهم، وهم من يمتلكون مفتاح الانتخابات: أي تفترض وجود أشخاص لم يتخذوا قرارهم بعد ويمكن مطالبتهم بفرصة ثانية. استندت حملة ترمب إلى هذه النظرية حتى هذا الربيع، عبر رسالةٍ انتخابيةٍ اعتمدت أولاً على قوة الاقتصاد ثم ركزت على خطر الاشتراكية الراديكالية في الحزب الديمقراطي. وقال المستشار الجمهوري لوك طومسون: «اعتقدتُ أننا في وضعٍ جيدٍ نسبياً مع حلول شهر آذار». تفاؤله استند جزئياً إلى قراءة استطلاعات الرأي التي تخلّف فيها ترمب عن بايدن بنحو أربع نقاط، وهي ثغرةٌ بدا أنها تضيق وقد يتم تجاوزها اعتماداً على قوة الاقتصاد. لكن نظرته كانت تستند أيضاً إلى قراءة الطرق التي نجح بها ترمب أو فشل في التأثير على جمهور الناخبين.

طومسون، المولود في كنساس، باشر عمله كمستشار خلال عصر حركة حزب الشاي، وهو يرى أن التحولات التي نجم عنها انتخاب ترمب بدأت قبل عقد من الزمن: «ما حدث في الحزب الجمهوري في 2010 و2012 و2014 لم يكن ببساطة على مبدأ ’قاعدة شعبية في وجه مؤسسة حاكمة‘، إذ كان ثمة مؤسستان تتحاربان وقاعدتان تتحاربان». نتج هذان الفصيلان عن ائتلاف ريغان القديم: جمهوريو الضواحي المهتمّون بالأعمال التجارية، والذين قادهم جون كاسيش في حملته الرئاسية لعام 2016، والمحافظون الثقافيون الذين يعيشون في البلدات البعيدة والأرياف ويدعمون حركة حزب الشاي عام 2010. وقال طومسون إن ما فعله ترمب عام 2016 هو تمكين جمهوريي البلدات والأرياف، وتحويل بعض الناخبين غير المنتظمين إلى مدافعين شرسين عن الثقافة المحافظة، وحتى قلب بعض الديمقراطيين على حزبهم.

بشكل عام، ابتعاد الجمهوريين عن مراكز المدن المتنامية وتركهم الضواحي مفتوحة للديمقراطيين ينطوي على احتمال الخسارة. لكن طومسون وجمهوريين آخرين يعملون على انتخابات الكونغرس لعام 2020 يعتقدون أن الرسالة الصحيحة والاقتصاد القوي بما يكفي قادران على إبطاء التحوّل الديموغرافي. قد يكون وارداً إقناع عدد كافٍ من الجمهوريين في الضواحي بالتصويت لمرشح حزبهم للمرة الأخيرة، حتى لو كانوا لا يحبون ترمب. وأشار طومسون إلى وجود بضع فرص ديموغرافية واضحة: المجموعة الأولى تتمثل في الرجال اللاتينيين غير الجامعيين تحت سن الخمسين، فلدى هؤلاء توجّه محافظ اجتماعياً غالباً ومستويات منخفضة من التعلق بمجتمعهم، وهي مشابهة جداً لخصائص الناخبين البيض الذين مالوا إلى جهة ائتلاف ترمب. وأوضح طومسون: «حين تسألهم في استطلاعات الرأي، يصف الكثير من الهسبانيين أنفسهم بأنهم من البيض، رغم اعتبار الأوساط السياسية لهم هسبانيين». المجموعة الثانية الأكبر هي الجمهوريون التقليديون في الضواحي الذين لا يترددون إلى الكنيسة بانتظام، وبينهم الكثير من النساء في أسر ترعى أعمالاً صغيرة، وساعدتهن المحافظة الاجتماعية على مقاومة الانتقال العام باتجاه التصويت للديمقراطيين.

«ألا يثير ترمب اشمئزازهم؟».

رد طومسون بأن الاستطلاعات لا يسألون عن الاشمئزاز. مع ذلك، هؤلاء الناخبين لا يحبونه كثيراً.

يتساءل المستشارون السياسيون الآن ما إذا كان عليهم التفكير في الموهبة السياسية بغير الطريقة التي كانوا يفكرون بها في الماضي. يشير صعود بايدن إلى أن الكثير لم يتغير، فما زال مهمّاً توجيه وسط البلاد لأنه يقرر نتيجة الانتخابات. لكن انتصارات ترمب تدعم الحجة المعاكسة، وهي أن الانتخابات الآن تقوم على مبدأ ’قاعدة مقابل قاعدة‘ –حرب خنادق– وهي تتطلب سياسياً يتمتع بأكبر قدر من مواهب التحريض. سرت السياسات الأميركية على هذا المنوال منذ صعود حركة حزب الشاي عام 2010، وينسحب ذلك على ترمب، وعلى أليكساندريا أوكاسيو كورتيز، وبيرني ساندرز، وإليزابيث وارين، وسكوت ووكر، وتيد كروز، فهؤلاء جميعاً يحظون بردود فعل شديدة الإيجابية داخل حزبهم، وشديدة السلبية لدى الطرف الآخر، كما أنهم لا يبذلون جهداً كبيراً في التنافس على الوسط الذي تتضاءل أهميته.

صدمة انتخابات 2016 جاءت من ثلاث ولايات متشابهة ديموغرافياً –ميشيغان وبنسلفانيا وويسكونسن– لكن ميشيغان على وجه الخصوص تبدو بعيدة المنال لترمب. اقترح استراتيجيون جمهوريون أن يتم التفكير في خريطة مختلفة قليلاً عن تلك التي فاز عبرها ترمب بالرئاسة عام 2016 –حين حوّل تركيزه إلى أريزونا وفلوريدا ونورث كارولينا وويسوكنسن– فهذا قد يسمح له بإدارة حملة أقل تقليدية. وتمتلك جميع هذه الولايات تاريخاً من الصراع الحزبي الحاد –حول التشريعات المناهضة للنقابات في ولاية ويسكنسن، وحقوق التصويت في نورث كارولينا، والهجرة في أريزونا، وفوز بوش على آل غور في فلوريدا– ما ساعد على ترسيخ الولاءات الحزبية. لقد كانت هذه الولايات شاهدةً على الضغينة التي اتّسمت بها سياسات القرن الحادي والعشرين، فلم يتبقّ الكثير من ناخبي الوسط ليتسابق أحدٌ على الفوز بأصواتهم. وميّز مستشارٌ جمهوري، يدعى جيف رو، بين الولايات المتأرجحة و«الولايات المنقسمة»، مقترحاً استراتيجية تقوم على نسبة المشاركة عوضاً عن القناعة السياسية، قائلاً إنه في الولايات المنقسمة «لا مجال للاعتدال: احصل على سبعين مليون صوت».

يعدّ رو أبرز المستشارين الذين ظهروا في حقبة ما بعد حزب الشاي. هو من تكساس، ومعروف بأسلوبه اللطيف وحملاته العدوانية. وقد كان كبير الاستراتيجيين في حملة كروز، ومستشاراً لسياسيين آخرين. أخبرني رو أنه تابع نتائج الانتخابات التمهيدية للديمقراطيين لعام 2020 التي جرت بعد انتهاء السباق فعلياً، ولاحظ إشاراتٍ على أنّ قاعدة بايدن قد تكون ضعيفة. يتركّز تصويت الديمقراطيين اليوم في المدن أكثر من أي وقت مضى، إلا أنّ نصيب بايدن من أصوات كبرى المدن كان في كل مرة أدنى من المستوى الإجمالي له في الولايات التي تقع فيها تلك المدن. قال رو: «كنت سأكتب مقالاً حول هذا الموضوع، لكنني أدركت عدم وجود من يهتمّ لذلك». على أي حال، كانت الأرقام في متناول يده. عُقدت الانتخابات التمهيدية في ولاية بنسلفانيا في الثاني من حزيران، بعد شهرين تقريباً من تنازل منافس بايدن الأخير، بيرني ساندرز. وقد حصل بايدن على 79 بالمئة من الأصوات على مستوى الولاية، ولكنه حصل على 69 بالمئة فقط في عاصمتها بيتسبرغ. يضيف رو أنه في ولاية رود آيلاد، حصل بايدن في اليوم ذاته «على 77 بالمئة من أصوات الولاية، لكنه حصل على 57 بالمئة في العاصمة بروفيدنس». ومجدداً، بعد أسبوع في جورجيا «حقق 85 بالمئة على مستوى الولاية و78 بالمئة في عاصمتها أتلانتا». جهدت حملة كلينتون لحث قاعدة الحزب من الناخبين السود على التصويت في المدن أثناء انتخابات عام 2016، ذلك أن التصويت تراجع في ديترويت وميلووكي وفيلادلفيا بشكلٍ كبيرٍ عن سنوات أوباما. يعتقد رو أن بايدن قد يواجه المشكلة ذاتها وأن ذلك قد يكلفه خسائر في الولايات الأرجوانية [المختلطة بين ناخبين «زرق» ديمقراطيين و«حمر» جمهوريين].

ما غاب عن استطلاعات الرأي عام 2016 –وحتى عن الاستطلاعات النهائية– هو عدد الناخبين البيض الذين لا يحملون شهاداتٍ جامعية، وعدد الذين سيدعمون ترمب منهم. أشارت استطلاعات الرأي إلى أن أعداد حاملي الشهادات الجامعية وأعداد من لا يحملونها متساوية تقريباً، لكن تحليلاً لمركز بيو عام 2018 وجد أن نسبة الناخبين البيض الذين لا يحملون شهادة جامعية 44 بالمئة من الناخبين، بينما يشكل الناخبون البيض الحاصلون على شهادة جامعية 30 بالمئة. كانت أعداد غير الحاصلين على شهادة أعلى بكثير في ولايات الغرب الأوسط المتأرجحة والشديدة الأهمية في الانتخابات: فقد شكلوا أكثر من نصف الناخبين عام 2016 في ميشيغان وويسكنسن. وعلى الصعيد الوطني، ربح ترمب أصوات هؤلاء الناخبين بهامش مذهل: 64 بالمئة مقابل 28 في المئة.

ستكون الاستراتيجية الأكثر منطقيةً لحملة ترمب عام 2020 هي تعميق هذا الانقسام، وإبقاء شمال الغرب الأوسط في صفّه. أخبرني بروك ماكليري، خبير استطلاعات الرأي الجمهوري في هاريسبرغ بولاية بنسلفانيا، أن «مهمة» الجمهوريين في ولاية بنسلفانيا ما تزال خفض نسبة تصويت الديمقراطيين المحافظين بنحو 15 بالمئة: «ما زال هناك الكثير منهم في جميع أنحاء الولاية. لقد تقدموا في السن، لكنهم ما زالوا موجودين ويدلون بأصواتهم». لكنّ استطلاعات الرأي هذا الصيف وجدت أن هوامش ترمب بين الناخبين البيض غير الحاصلين على شهاداتٍ جامعية تتقلّص بدل أن تتوسع. وقال لي شون ترند من موقع ريل كلير بولتكس، الذي توقع احتمال تصويت اليمين في الغرب الأوسط في وقت مبكر من عام 2012، إنّه يشكّ في إمكانية تحسن وضع ترمب بين ناخبي الطبقة العاملة البيض. وأضاف: «نتحدث الآن عن الناخبين البيض الباقين غير الحاصلين على شهادات جامعية لأنهم طلابٌ جامعيون، أو يعملون في المقاهي، أو يافعون يحتجّون في بورتلاند. ترمب لا يفهمهم».

لاحظتْ استطلاعاتُ الرأي عموماً تراجع دعم ترمب بين الناخبين البيض غير الجامعيين. وقد عاد إلى تناول ذلك الباحث الديمقراطي البارز ستانلي غرينبيرغ، الذي أدار جلساتٍ بحثيةً هذا الصيف مع ناخبين بيض غير جامعيين في المناطق الريفية في ولايات مين وميشيغان وأوهايو وويسكونسن، وقد صوّت ثلاثة أرباعهم لصالح ترمب عام 2016، فيما يخطط أقل من نصفهم للقيام بذلك مرة أخرى. كتب غرينبرغ أن العديد من الناخبين تحدثوا في الجلسات عن الإعاقة وأعربوا عن قلقهم بشأن الوصول إلى الرعاية الصحية: «لم أشهد في حياتي مثل هذا النقاش المؤثّر حول مشاكل الصحة والإعاقة التي تواجه العائلات وأطفالها، والمخاطر التي يواجهونها في العمل، واحتمال ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية والأدوية. القشة التي قصمت ظهر البعير كانت تجاهل الرئيس لـ’الأميركيين المنسيين‘، ودفاعه عن الأغنياء الذين يشكلون واحداً بالمئة والشركات الكبيرة الجشعة».

تمحور ائتلاف ترمب عام 2016 حول الناخبين البيض غير الحاصلين على شهادة جامعية، والناخبين الذين يراودهم شعورٌ عام بأنهم متروكون، والمناطق الصغيرة ذات الاقتصادات المتدهورة. ربما تكون هذه القصة ضيقة للغاية ولا تكفي لشرح كل شيء، لكن حتى لو كانت تنطبق على جمهور الناخبين عام 2016 فهي لم تعد تنطبق عليهم الآن. إن كان راغباً في الفوز عام 2020، سيتوجب على ترمب إعادة تفعيل مقومات ائتلافه وتحقيق ما حققه جورج دبليو بوش، أي الفوز بأصوات الناخبين البيض من الطبقة العاملة في شمال الغرب الأوسط والناخبين اللاتينيين ورجال الأعمال المحافظين في «حزام الشمس» [ولايات الجنوب الأقل برداً والأكثر تديناً]. وعبر إمضاء الأسابيع القليلة الماضية في تحذير ناخبي الضواحي الميسورين من الفوضى في المدن، كان يحثهم على إدراك وقوفهم في الجانب الخطأ من الموجة الديمغرافية –كما فعل مع ناخبي مدن المصانع في الغرب الأوسط قبل أربع سنوات- لا يُمكن للقوة هذه المرة أن تكون شعار ترمب، خاصةً بعد استجابته الضعيفة للجائحة. بيد أنه ما زالت أمامه فرصة التأسّف على الخسائر التي حدثت.

بالنسبة للاستراتيجيين الجمهوريين، كان من أهم ما تمخّض عن تجربة عهد ترمب معاينتهم تحوُّل حزبهم وتوافقه مع قاعدة الناخبين البيض الذين لم يذهبوا إلى الجامعات مطلقاً، وانتباههم إلى الغضب البدائي المميز لحملة لترمب وما حرّكه من قواعد جمهورية تجاوزت توقعاتهم المسبقة، بما شمل حتى معتدلين وناخبين غير بيض. بيل كريستول، الجمهوري البارز الذي كان يقول معظم السنوات الأربع الماضية إن ترمب تهديد استثنائي للديمقراطية، أشار إلى أن العبارات الغاضبة لم تكن تحرك الناخبين الجمهوريين وكان يرفضها الجمهوريون المنتخبون. بدا كريستول متفائلاً نسبياً حول انتخابات 2020 –فهو يعتقد أن موقف بايدن قوي جداً– ولكنه لم يكن مطمئناً تجاه المزاج المحافظ. وحين سألته عن خوفه من تفضيل المحافظين لرجل قوي وما إذا كان هذا الخوف تراجع أم ازداد مقارنة بعام 2017، قال: «ازداد كثيراً».

قبل أقل من ستين يوماً على الانتخابات، لا يبدو ترمب قلقاً بشأن موضوعات حملته الرسمية وما ستقوم عليه، وهو يسعى بطريقةٍ مفاجئةٍ إلى استمالة تحالف كبير ومتعدد الأطياف. ففي تجمع حاشد في فلوريدا يوم الثلاثاء، وصف ترمب نفسه بـ«الناشط البيئي العظيم»، هو الذي طالما شكّك علناً في علم تغير المناخ ودافع عن استخراج الفحم والتصديع المائي، داعياً الكونغرس إلى توسيع الحماية ضد التنقيب البحري. قال رو إن ترمب قد يكون أفضل من يراهن عليه الحزب الجمهوري للوصول إلى الناخبين اللاتينيين والسود المحافظين، مشيراً إلى أن ترمب أكثر من أي شخص منذ ريغان، نجح في جذب ناخبي الطبقة العاملة البيضاء إلى الحزب. ورغم الجائحة ما زالت حشود ترمب تملأ الملاعب وتتدفق إلى الساحات. «قد يكون ما سأقوله مروّعاً، لكنه أفضل سياسي جمهوري في كسب الناخبين غير الجمهوريين».