تقابلت كلمة هزيمة بعد حرب 1967 المذلة مع كلمة نكسة التي اعتمدتها السلطة الناصرية، أو مع التشخيص البعثي الذي رأى أن العدوان فشل في تحقيق أهدافه ما دامت الأنظمة التقدمية لم تسقط. كان في إصرار مثقفين، منهم في سورية صادق جلال العظم وياسين الحافظ، على كلمة الهزيمة سجالٌ ضمني مع الإنكار السلطوي، وشحنة درامية قوية ما دامت كلمة الهزيمة تعني الهرب أمام الخطر والتخاذل عن مواجهته، وكذلك حس بالنزاهة يشارف حد المزايدة على النفس. لم تدخل النقاش كلمات أخرى يمكن أن تسهم في تمثيل ما جرى.
كلمة خسارة تبدو أقل درامية، أقل تمركزاً حول العدو، لكنها يمكن أن تكون أكثر عمقاً إن فكرنا فيها كخسارة للنفس أو للروح. في السياقات الدينية هذا المعنى أكثر ظهوراً. في القرآن الخاسرون هم من «خسروا أنفسهم وأهليهم»، وذلك هو «الخسران المبين». وفي إنجيل مرقس يُنسب إلى المسيح القول: «ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟» وفي سياقنا هنا، المقصود هو خسارة النفس السياسية، تعريف سياسي للذات، مثلاً التعريف القومي العربي بخصوص هزيمة حزيران.
أقترح استخدام كلمة الخسارة لتسمية ما يعرض لأصحاب قضية من تآكل وانحلال تحت وطأة الفشل في تحقيق أهدافهم، فيما الهزيمة تسمي وجهاً آخر للفشل: الفشل في مواجهة عدو. نتكلم على هزيمة حين نُعرِّف صراعنا بدلالة العدو الذي نواجهه، وعلى خسارة حين يكون الصراع مُعرِّفاً لنا (وليس كل صراع مُعرِّف) ونفشل فيه تكراراً، فنخسر تعريفنا أو هويتنا. قد نهزم ولا نخسر، نلملم قوانا بعد الهزيمة، ونعاود الصراع بصور أخرى. في حزيران 1967 هزمنا أمام عدو، قبل أن نخسر تعريف النفس وتصور الهوية المهيمن وقتها: التعريف القومي العربي، دون أن يكون ذلك موضع تفكر أو نقاش. كان التصور القومي العربي للذات سجل اكتساب وتراكم، اقترن بمثل تحررية مثل الاشتراكية وبضرب ضمني من العلمانية، وبنازع للتقدم والاستقلال، وهو ما تبدد بتسارع في ربع القرن اللاحق لحزيران 67.
ولا يتحتم أن تقود الهزيمة في صراع مُعرِّف إلى انحلال تعريف الذات القائم على هذا الصراع. الخسارة لم تتولد عن الهزيمة بحد ذاتها، بل عن عدم ملاءمة الردود على الهزيمة في ذلك الصراع المعرف. التحدي الذي طرحته الهزيمة هو أنه إذا أردنا الاستمرار في تعريف أنفسنا بالصراع مع الكيان الإسرائيلي المحتل، أي تعريفاً قومياً عربياً، فيجب أن نغير نظمنا ومناهجنا في العمل، وإلا خسرنا تعريفنا. هذا ما حصل، وإن لم يكد يُلحظ لأن الانحلال فاقد للصفة الدرامية عكس الهزيمة. الهزيمة حجبت خسارة أكبر منها، وأكبر من أي إيديولوجية مهزومة على ما قال ياسين الحافظ.
كانت مشكلة النظامين القوميين، الناصري في مصر والبعثي في سورية، ضيق قاعدة التفكير والتقرير فيهما واقتصارها على قلة من الأفراد، وتغريب أكثرية «الشعب العربي» عن شأنه المشترك. التغيير الملائم للرد على الهزيمة هو توسع دوائر التفكير والتقرير، ووضع القضية في يد أصحابها، المواطنين المفترضين. بعد ثلاث سنوات مات عبد الناصر الذي ظل نظامه متلجلجاً في شأن هذا الرد الملائم، وقصره على إصلاح الجيش والمواجهة الحربية. في سورية تضيقت قاعدة التفكير الضيقة أكثر بعد استيلاء حافظ الأسد على السلطة. هذا الرد العكسي هو ما قاد إلى الانحلال أكثر من الهزيمة ذاتها. بعد الهزيمة بسنوات قليلة أخذت تظهر ملامح الانقلاب: إنتاج العلاقة الاستعمارية الماضية بأيد محلية، أو إنتاج إسرائيل الداخلية التي تجتهد في فلسطنة محكوميها. هذا في سورية. في مصر أخذ الانحلال طريقاً أقصر: مصالحة العدو.
والخلاصة أن أسوأ ما حصل لنا في نصف القرن المنقضي ليس الهزيمة أمام إسرائيل، بل خسارة ذاتية سياسية، لم يحل محلها سجل اكتساب وتراكم آخر. الهزيمة حدث وقع في الماضي، الخسارة بنية مستمرة.
التمركز حول إسرائيل عبر تصور الهزيمة حال دون التبصر في أوضاعنا، بما في ذلك كوراث تصمد للمقارنة مع هزيمة حزيران. منها بخصوص سورية العيش في ظل حرب أهلية مستمرة، هي بالفعل التجربة المكونة لأجيال السوريين التي ولدت خلال سنوات الحكم البعثي التي تقترب من الستين.
من موقعنا في العام العاشر بعد الثورة السورية يبدو أننا نجمع اليوم بين الهزيمة والخسارة، انتصار العدو علينا وانحلال الذات التي عرفت نفسها بالثورة، وهي ذات طيفية أصلاً، ضعيفة التماسك، تمتزح فيها الوطنية السورية بتطلع إلى «الحرية» و«العدالة». أطر العمل العام المتاحة لم تفشل في تطوير رد على الهزيمة يصون كرامة المهزومين، بل هي ذاتها مصدر مهانة. ما يحدث هنا هو مزيد من ضيق قاعدة التفكير والتقرير، وصولاً إلى رهن الذات لقوى إقليمية ودولية مؤثرة، أي إلى التبعية والتحلل.
هنا أيضاً تحجب الهزيمة الخسارة. من يتكلمون على هزيمة بخصوص الثورة يتمحور تفكيرهم حول النظام كعدو وحول الثورة كحرب، أكثر مما حول قضية ومصير ضحاياه. لكن بينما يمكن أن يهزمنا عدو فكر في الصراع كحرب منذ البداية، إلا أنه ليس هناك عدو يمكن أن يُخسِّرنا. الخسارة هي تفككنا بفعل فشلنا في تطوير رد ملائم على الهزيمة في صراع عرّفنا أنفسنا به. الرد الملائم ليس ما يحقق النصر حتماً، بل ما يصون كرامة المهزومين، ما يشركهم في التفكير والفعل، ما يصنع قضية يلتئمون حولها.
خسارتنا متعددة الطوابق، شاهقة ومشهودة، وكاملة لا ينقصها شيء. فوق تجارب لا تحصى من تعذيب وسجن، ومن فقد الأحبة والأصدقاء، ومن تحطم بيئة الحياة، ومن لجوء وخسارة الموطن، ثمة تحطم عام واسع النطاق يطال ذواتنا ومعنانا السياسي. كشخص وككاتب وناشط أنا شريك في الخسارة، لعلّي من أكبر الخاسرين. أقول ذلك تقريراً لواقع الحال، دون تفجع ورثاء للذات، لكن ليس دون كثير من الأسى.
ليست الخسارة الكاملة خسارة كبيرة، وطويلة بعد ذلك، تغطي حياة بأكملها ولا تعوض، ولكنها خسارة لا تترك للمرء غير شكل معقد لا يسهل التعرف عليه. يفر الناس من التعقيد كما من وباء، يديرون ظهورهم وينفضون أيديهم: الأمر معقد! يقوض التعقيد التماهي، مثلما تقوضه العنصرية، ومثلما هو يتقوض في التعذيب. يتبين المرء أكثر وأكثر قدراً من كف التعاطف مع السوريين وفيما بينهم، ليس رغم أنهم عانوا الكثير، بل لأنهم عانوا الكثير. هل يصيب كل هذا العذاب إلا مناكيد فاشلين؟ لا يعقل أن يخلو العالم من العدل والعقل إلى هذا الحد حتى يصيبهم كل ما أصابهم إلا إذا كانوا مستحقين بصورة ما. تستنتج جدارتنا بالخسارة الأكمل من المنطق.
قيلت أشياء كثيرة في أسباب خسارتنا، لن أدخل فيها. أسجل هنا فقط اعتراضاً على مسلمة ضمنية في التفكير في خساراتنا: يخسر أولئك الذين ما كانوا يستحقون أن يفوزوا، وهو ليس بعيداً عن القول أن من ينتصرون هم من يستحقون. هذا تفكير وحشي، يستبطن المسلّمة التي يقوم عليها تفكير المنتصرين: القوة هي الحق. لا أقول إن الخاسرين، نحن، لم يخطئوا (نخطئ) كثيراً، لكن ليس لهذا خسرنا هذه الخسارة الكاملة. ليس الأمر أننا أفضل مما جرى لنا (لا شك في ذلك)، أو أننا لسنا بدرجة سوء ما حدث لنا (وهذا أكيد في تصوري)، بل في أن ما جرى لنا لا يشبهنا، خلافاً لما يقول دوستويفسكي. هذا ممكن في أطر سياسة مدولة، لا تطابق فيها بين تعريف الذات السياسي والديناميكيات السياسية الفعلية. ولعل نقطة انطلاق التفكير في اللاتطابق تتمثل في أن ثورة السوريين كانت ثورة تابعين (Subaltern)، تراوحت بين نطاقات محلية متناثرة وبين نطاق سوري عام، هذا فيما كان النظام الذي ثاروا عليه شرق أوسطي وعالمي، له روابط تحالفية قوية، ونفاذ إلى ركائز هيمنة دولية مؤثرة، وشبكات داعمة منتشرة في كل مكان على ما ظهر بعد الثورة. بعبارة أخرى، الثورة محلية والنظام دولي. لذلك فإن ما وقع في سورية لا تحيط به أي أسباب سورية. ولذلك ما يحدث لنا لا يشبهنا بالضرورة.
يمكن أن يقنع بعضنا أنفسهم بأنهم خسروا أقل من خاسرين آخرين بغرض حماية النفس، يخصّون أنفسهم على هذا النحو بنصف خسارة فقط. ما تقترحه هذه المقالة هي قبول تام بتمام الخسارة، بالهزيمة أمام العدو وبتفكك الذات التي عرفت نفسها بالثورة، وببناء قضيتنا على كمال خسارتنا. القضية هي العمل على لملمة كيان الخاسرين وقيام ذاتية جديدة متحررة. ومن لوازم ذلك اليوم التفكير على نطاق شرقأوسطي وعالمي.
يبقى أن مدركات الهزيمة والخسارة يمكن أن تكون بكائيات أو عناصر في بكائيات، لكن لا يتحتم أن تكون كذلك. هي هنا محاولة لتسمية وضعنا في التاريخ والعالم اليوم، وضع نحتاج إلى بناء إدراكنا حوله إن كان لنا أن نخرج منه يوماً. مهما يكن كارثياً ما وقع لنا، فإنه قائم في تاريخ نحن فيه ومنه، ولا يزال لنا ما نفعله فيه.