سبق إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب عن اتفاقٍ وشيك بين الإمارات وإسرائيل تمهيداتٌ إماراتية على أكثر من صعيد؛ حملاتٌ إعلامية وزياراتٌ سياحية قام بها أفرادٌ إماراتيون إلى إسرائيل وجولاتٌ مكوكية لجاريد كوشنر من أجل وضع الخطوط العريضة للاتفاق. في المستوى الثاني، لا شكّ بأنّ مسؤولين من الإمارات وإسرائيل التقوا مراراً لصياغة التفاصيل الدقيقة للاتفاق. هنا، كان ثمة جهودٌ كبيرة على صعيد التنسيق استغرقت أعواماً، وقد تكفّل بها سفير الإمارات في واشنطن يوسف العتيبة، الذي مُنح بالتزامن مع ذلك مرتبة وزير.

إذاً، لم يأتِ توقيع الاتفاق بين الطرفين في واشنطن إلا بعد اكتمال معالمه وحساب نتائجه المباشرة وردود الفعل عليه. أما دونالد ترمب، فاختار لهذا الاتفاق التوقيت الانتخابي الأنسب، فقد مرّت عقودٌ على آخر اتفاقٍ عربيّ إسرائيلي ترعاه واشنطن. ترمب كان يحلم بأكثر من ذلك، حيث كان الهدف الرئيس الذي عملت عليه إدارته هو المضي قدماً في صفقة القرن، إلا أنّ هذه المساعي ارتطمت بأكثر من جدار، أبرزها الرفض الفلسطيني، فكان لا بدّ من إنجازاتٍ محققةٍ على هامش صفقة القرن المُتعثّرة، وذلك عبر أكثر من اتفاقٍ أحادي بين إسرائيل ودولٍ عربية.

الإمارات لم ترغب الذهاب للتوقيع وحيدةً، بل ساقت معها البحرين، التي وقّع وزير خارجيتها الاتفاق في واشنطن دون أن تكتمل معالمه وترتيباته كما هو الحال بالنسبة الإمارات. لقد وُضعت الجهود جميعها في الحصول على اتفاقٍ إسرائيلي إماراتي، بينما تكفّلت أبو ظبي بإغراء المنامة وحثّها على فعل الأمر ذاته. كان السيناريو الأفضل لإسرائيل وترامب أن تنضمّ السعودية إلى المشهد، لكن يبدو أنها فضّلت التّريّث، فقد يحتاج ولي العهد السعودي، كثير الخصوم داخلياً، إلى هكذا اتفاق في وقتٍ لاحق لتثبيت حكمه والتخلّص من خصومه بعد موت أبيه.

مرّ توقيع الاتفاق بسلاسةٍ على الصعيد المحلي الإماراتي، فما من خصوم داخليين سيثيرون القلاقل في الدولة البوليسية التي تراقب أنفاس القاطنين فيها وتمنع عليهم استخدام تطبيقات التواصل الاجتماعي على نحوٍ يسمح بالتجمّع والتنسيق، وتراقبهم وتتنصّت عليهم من خلال تطبيق «توكتوك» المحلي، وهو الوحيد الذي يمكن من خلاله إجراء مكالمات مجانية في البلاد. هنا لا بدّ من استحضار عمليات السجن والترحيل التي طالت سوريين تظاهروا في الإمارات ضدّ نظام بشار الأسد. في الإمارات يُمنع التجمع والتواصل الآمن وتعاطي السياسة على الجميع؛ الوافدين وأهل البلد على حدٍّ سواء، وبغضّ النظر عن فحوى التجمع والهدف منه. يُعين الإمارات على ذلك أيضاً تقنيات تجسّسٍ ومراقبة حصلت عليها، للمصادفة، من إسرائيل نفسها قبل أعوامٍ من توقيع الاتفاق.

الثابت أنّ إسرائيل تريد علاقاتٍ مع جوارها القريب، ولكنّ ليس من أجل منافع تجارية وسياحية وإيجاد أسواقٍ لتصريف منتوجاتها، فليست إسرائيل الدولة الصناعية غزيرة الإنتاج، وكذلك ليس من أجل موضوع الاعتراف بها في حدّ ذاته، فهي تدرك بأنها صارت أمراً واقعاً في المنطقة. هي تريد أن تواجه الفلسطينيين بمفردهم، وتريد من يعينها على شقّ صفوفهم وجعلهم معزولين ومتناحرين أكثر من عزلتهم وتناحرهم الحاليين، وهو ما يعني مزيداً من الاستيطان والتهجير دون ضجيج، وتمريراً لصفقة القرن بوصفها الحلّ الذي لا بديل عنه للفلسطينيين، لأنّ رفضه، دون وجود ظهيرٍ مساند، سيؤدي إلى خسارة كل شيء.

أمّا الحاجة الإمارتية إلى إسرائيل، فهي اليوم ماسّة ولا بديل عنها في المنظور الإماراتي. دخلت الإمارات حرباً مباشرةً في اليمن صحبة جيرانها السعوديين، وهي تواجه من خلف الحوثيين إيران، التي تدرك أنها غير قادرةٍ على كسرها دون الولايات المتحدة وإسرائيل. وتورّطت أبو ظبي أيضاً في ليبيا في حقلٍ مليءٍ بألغام دولٍ كُبرى، وصارت على مواجهةٍ مباشرةٍ مع تركيا. قبل ذلك كانت قد رعت انقلاب الجيش المصري على جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وهي تقدّم للجنرال الصلف عبد الفتاح السيسي كل ما يحتاجه لقمع المصريين وتصفية الأصوات المُعارضة له. مع كلّ هذا العبث بملفاتٍ كبيرة، ومواجهاتٍ وتهديداتٍ تركيةٍ وإيرانية، صارت الإمارات بحاجةٍ إلى عونٍ مباشرٍ، وما من طرفٍ أقدر على تأمينه من الولايات المتحدة، فأرادته إدارة ترمب أن يأتي عبر القناة الإسرائيلية.

ما أوصل الإمارات إلى هذا الاتفاق مع إسرائيل هو مأزقٌ وضعها فيه المال الفائض عن حاجات التنمية وخدمة المجتمع الإماراتي. لدى الإمارات أموالٌ أكبر من حاجتها المباشرة، دفعتها للبحث عن نفوذٍ خارج حدودها، فتورّطت في صراعاتٍ وحروبٍ أكبر من أن تتحملها وحيدةً، وكذلك أكبر من أن تكون السعودية قادرةً على المشاركة فيها أو تقديم كامل المساعدات اللازمة على مواجهتها وتخطيها.

ولا شكّ بأنّ إسرائيل القوية عسكرياً وسياسياً والمرعية من واشنطن هي الطرف الأنسب، وربما الوحيد، لمواجهة جميع هذه التحديات، لا سيما بعد أن صار يجمع بين الدولتين هاجس التوسّع، فكما تستولي إسرائيل على أراضي الفلسطينيين وتحصل على اعتراف واشنطن بضمّ الجولان والقدس الشرقية، تمضي الإمارات في احتلالها جزراً يمنيةً والعبث بتركيبها السكاني بهدف ضمّها فيما بعد.

على الصعيد البحريني، تنظر إسرائيل إلى التطبيع مع المنامة بوصفه رقماً يُضاف إلى عدد الدول العربية التي تتبادل معها إسرائيل علاقاتٍ طبيعية، فالمصلحة البحرينية بالتقرب إلى إسرائيل أكبر من كل الآمال التي ترجوها إسرائيل من هكذا اتفاق. في الواقع، ماذا تحتاج إسرائيل من البحرين ومن النظام البحريني الذي لا يأمن على وجوده لولا فائض البطش الذي توفره السعودية والإمارات؟ أما البحرين فتريد الاستفادة من إسرائيل في مواجهة الواقع المحلي القلق والقابل للانفجار.

وثمة في البحرين أيضاً عوامل مساعِدة لتحركاتٍ إيرانية تقلق دول التحالف الخليجي جميعها، ولذا فإنّ اتفاقاً مع إسرائيل سيجعل نظام الحكم البحريني أكثر قدرةً على تطويق محكوميه، وعلى تأمين غطاء أميركي لعمليات القمع اللازمة في هذا الإطار. والاتفاق أيضاً هو ضريبةٌ واجبة للإماراتيين كان لا بدّ لمملكة البحرين أن تبذلها، لا سيما أنّ الإمارات رفقة السعودية كانتا قد انتشلتا النظام البحريني من سقوطٍ وشيكٍ منعته قوات درع الجزيرة. لقد وقعت حكومة البحرين بوصفها دولةً قلقةً من أوضاع داخلية قابلة للانفجار، ولكونها دولة تابعة لا بد من أن تلتحق بمشيئة الأطراف الحامية لها.

أما اليوم، فتتجه الأنظار نحو اتفاقٍ إسرائيلي سوداني وشيك برعاية واشنطن، وهذا الاتفاق، رغم ربطه بقدرٍ واضحٍ من الابتزاز السياسي والاقتصادي لدولة ما بعد عمر حسن البشير، وفرضه مساراً إلزامياً للانعتاق من العقوبات وللحصول على مساعداتٍ من صندوق النقد الدولي، إلا أنّه قد يضع البلاد في قبضةٍ مُحكمةٍ لديكتاتوريةٍ جديدة ومديدة، سيكون على رأس أولوياتها صون هذا الاتفاق وجعل البلاد الواسعة والفقيرة رهن النفوذين الأميركي والإسرائيلي سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، ولو كانت ضريبة ذلك قتل طموحات السودانيين وإعادتهم إلى الاستبداد الذي أزالوه بثورتهم.

واللافت أنّ المفاوضات الحالية بين واشنطن والخرطوم في الإمارات، التي يأتي التطبيع مع إسرائيل على سلم أولوياتها، أتت بعد شهورٍ من لقاءٍ جمع عبد الفتاح البرهان بنتنياهو في أوغندا. وكان اللقاء، الذي أفصح عنه نتنياهو، بمثابة جسّ نبضٍ للتعاطي الشعبي السوداني مع هذه الخطوة من جانب البرهان، وخطوة من جانب نتنياهو على طريق ترحيل 7700 لاجئ سوداني في إسرائيل، لم يكن بوسع حكومته ترحيلهم نظراً لعدم وجود علاقات ديبلوماسية بين البلدين.

ولعلّ ما يخشاه البرهان، الذي لا يمانع التطبيع كمخرجٍ من الأزمة الاقتصادية، هو أن تؤدّي المفاوضات إلى الاعتراف بإسرائيل مقابل أثمانٍ بخسة لا تكفل تحسين الأوضاع المعيشية في البلاد، وهو ما سيعني نقمةً شعبيةً مضاعفة، ولذا يتمثّل ما يفاوض عليه البرهان فعلياً في تحصيل أكبر قدر من المكاسب الاقتصادية لتسكين الوضع المحلي، غير أنّه يدرك أنّ التعنّت لن يطول، فعلى هذه المفاوضات أن تُثمر سريعاً ما سيحتاجه ترمب في حملته الانتخابية.

هنالك مركبٌ معلنٌ للتطبيع العربي الرسمي مع إسرائيل افتتحته الإمارات والبحرين، لكنه لن يقف عند هاتين الدولتين، بل سيمتدّ نحو دولٍ أخرى بسرعةٍ أكبر مما نتخيل، وصولاً إلى حدود قتل الأمل الفلسطيني بالحصول على مواقف سياسية مساندة لهم على الصعيد الرسمي. أما نحن، كأفرادٍ مقهورين وكشعوبٍ مقهورة، ما زال يعزينا أنّنا لن نقبل بطبيعية إسرائيل طالما أنّ فلسطينياً واحداً ما يزال مقتلعاً من أرضه، وأننا نتشارك مع الفلسطينيين معركةً آدميةً وحقوقية وأخلاقية ضدّ إسرائيل وضدّ الأنظمة المُطبّعة في نفس الوقت.