في مسلسل الكوميديا والخيال العلمي الرجل العناب، الذي قدمه ثلاثي الكوميديا المصرية أحمد فهمي وشيكو وهشام ماجد عام 2013 كأول مسلسل للأبطال الخارقين في العالم العربي، حاول الثلاثي تعزيز الكوميديا في المسلسل عبر إحداث تناقض كبير بين جانبي شخصية البطل الخارق، فهو «الرجل العناب» الذي يحلّق في سماء المدينة عندما يرتدي قناعه وبزّته العنابية، وهو المطرب الشعبي «عصفور الجنينة» عندما ينزع القناع.

هذه المفارقة الكوميدية لم تأتِ من فراغ، بل هي مستوحاة من طبيعة الأغنية الشعبية العربية، التي تبدو أبعد ما تكون عن أفكار الخيال العلمي وبطولاته. إذ لم يُنتج العرب عبر تاريخهم أغانٍ شبيهة بـ«روكيت مان» التي غناها إلتون جون عن رحلته الافتراضية إلى المريخ، وليس لدينا أغانٍ مستقبلية شبيهة بـ«راديو غاغا» لفرقة كوين، التي تحول الموسيقى الشعبية السائدة اليوم إلى جزء من الماضي السحيق وتتعاطى معها برومانسية. ولم يُنجب العالم العربي مغنّين من أمثال آلان بارسونز، الذي تطرق في الكثير من أغانيه إلى آلة الزمن. فالأغنية الشعبية العربية هي غالباً أغنية عاطفية، ينحصر فيها الخيال بلحظات عشق غير معاشة وتنحصر فيها البطولات بقدرات ذكورية خاصة، كتغني الرجل برجوليته وجاذبيته اللتين تجعلان النساء تتهافتن عليه؛ وهي بالضبط القدرات التي تغنى بها «عصفور الجنينة» في مسلسل الرجل العناب في أغنيته «ستات كتير تسهر لساعات تستناني» التي يكررها طيلة المسلسل.

ثيمات الخيال العلمي دائمة الحضور في أغاني الروك والبوب الشعبية في العالم الغربي، وإن كان حضورها محدوداً مقارنة بالأغاني العاطفية أو الأغاني التي تتطرق إلى المشكلات الاجتماعية أو التي تتحدث عن التمرد ورحلات الكفاح الذاتي. حضورها الدائم يعكس جزءاً من الثقافة الشعبية في تلك البلاد، فتلك الشعوب التي عايشت الثورات الصناعية والتي ولد من رحمها أدب الخيال العلمي في القرن التاسع عشر، لا تجد في الأفكار المستقبلية التي تستبصر تطورات علاقة الإنسان بالعلم والآلات أنها أفكار متعالية أو غريبة عنها.

أغنية محلية وخيال مستورد

في المقابل، تعكس الأغاني العربية الشعبية أيضاً علاقة الإنسان العربي بالعلم، وهي علاقة تتسم بالنبذ والقطيعة غالباً. يمكن استشفاف ذلك في العديد من الصور الشعرية التي استُخدمت في الأغاني العربية، مثل «جرحونا برمش عين» لجورج وسوف، التي يقول فيها: «قول احنا اللي القمر ما عرفش يذلنا/ الناس طلعوا القمر واحنا القمر نزل لنا»؛ فهذه العبارة التي تبدو وليدة للصدمة الحضارية التي عاشها العرب في عصر رحلات الفضاء الخارجي، هي تختزل ضمنياً علاقة العرب شعبياً مع العلم؛ فما يقوم به جورج وسوف هنا يبدو وكأنه شكلا نكوصياً من أشكال مقاومة الفتح الحضاري، المتمثل بهذه الأغنية بصعود الإنسان إلى القمر، إذ يعود جورج وسوف إلى ثيمة الفخر الأصيلة في الشعر العربي ليواجه انعكاسات التقدم العلمي فيصفها بأنها مذلة لن يخضع العرب لها. وهو وصف يتوافق مع الفكر العربي الاجتماعي السائد، الذي يقبل فيه الإنسان العربي أن يكون مستهلكاً للمنتجات العلمية الغربية دون أن يساهم في مسيرة التقدم، ويمكن الدلالة على ذلك في التفاعل العام مع أحداث معاصرة، مثل التقاط أول صورة للثقب الأسود العام الماضي، أو التعامل مع فيروس كورونا المستجد.

الجل العناب

كذلك، تعكس بعض الأغاني بشكل فاقع قطيعة الإنسان العربي مع كل التطورات والاكتشافات العلمية التي وصل إليها العالم في القرون الماضية، كما هو الحال في أغنية «إذا الأرض مدوّرة» لفيروز، التي تقول فيها: «إذا الأرض مدورة يا حبيبي / رح نرجع نتلاقى يا حبيبي». فهذه الأغنية تحمل في طياتها بذور شك باكتشافات علمية مضى عليها أكثر من خمسة قرون ويُفترض أنها تحولت إلى بديهيات، كما تعكس بعض الأفكار الغريبة السائدة في العالم العربي، وهو ما تؤكده صفحات العرب على مواقع التواصل الاجتماعي، التي ما زال بعضها يناقش حتى اليوم مسألة شكل الأرض، ويحتدم النقاش بين أشخاص يدركون أنها كروية وبين أشخاص يؤمنون بأنها مسطحة.

ولعل ثقافة العرب الاستهلاكية والتأثير الكبير للإنتاج الغربي على المحتوى الفني العربي، ساهما بنقل العديد من الأشكال والموضوعات الفنية الغربية إلى العالم العربي، ومن ضمنها الخيال العلمي، الذي بدأ يتسلل إلى السينما العربية منذ الخمسينيات، وإن كان الخيال العلمي لدى العرب له طابع خاص يميل للكوميديا وتنحسر فيه الهواجس والأفكار الوجودية لحساب السخرية والاستهزاء من عوالم المستقبل اللامعقولة. أما في الموسيقا، فإن التأثيرات الغربية تركزّت بصورة رئيسية على الأنماط الموسيقية التي استحضرها العرب والألحان التي قاموا باستنساخها. ولم يشمل هذا الأثر نقل موضوعات الأغاني الغربية وكلماتها بشكل فعلي. ذلك ما يجعل ثيمات الخيال العلمي نادرة الحضور في الأغنية الشعبية العربية، وهي إذا ما حضرت، فإنها بالغالب تحضر بصورة مشوهة وملطخة بنزعة نرجسية ضمن سياق الأغنية العاطفية. يمكن التماس ذلك في العديد من الأغاني العاطفية التي منح فيها العاشقان لأنفسهم قدرات خارقة ورسموا فيها عوالم طوباوية تتمحور حول قصص عشقهم، ومن أبرز الأمثلة على ذلك: أغنية «لون السما» لجهاد محفوظ، و«عم فتش ع شقفة كون» لوائل كفوري. يردد محفوظ: «مش عاجبك لون السما / بمحيها برجع برسمها / بتوقع نجوم بلملما / المهم إنتي تضحكي»، ويردد كفوري: «عم فتش ع شقفة كون مش ساكن فيها حدا / عجناحي بشيلك من هون وطير علي بهالمدى / ونسكن خلف حدود البعد / تصير الدنيا تشتي ورد / صف نجوم وأكتب هند».

ومن بين ثيمات الخيال العلمي، تعدّ ثيمة الزمن اللاخطّي الأكثر حضوراً في الأغاني العربية، ولكن حضورها يقتصر على بعض التشبيهات والأمنيات، التي تأخذ غالباً شكلاً واحداً، وهو العودة إلى لحظة من الماضي أو إيقاف الزمن عند لحظة معينة، وهي في الغالب لحظات عشق تعني الكثير للعاشقين. الأمثلة على ذلك كثيرة، منها «لو فيّي» لعايدة شلهوب، التي يرد فيها: «لو فيي رجع ماضي / أيام اللعبة المنسية». وفي بعض الأحيان يكون الحديث عن استرجاع الزمن مندمجاً بتقنيات افتراضية غير موجودة، كما هو الحال في «لو» لمحمد فؤاد، التي يرد فيها: «رجعت شريط حياتك / قلّبت بذكرياتك». لكن انتهاء هذه الأغاني بإدراك أن أمنيات العودة إلى الماضي مستحيلة، هو أمر يجعلها تتعارض بشكل واضح مع معايير الخيال العلمي.

وتبدو بعض الصور التي تمر في هوامش الأغاني العربية وكأنها امتداد لواحدة من أقدم الأفكار وأكثرها انتشاراً في أدب الخيال العلمي، وهي أنسنة الأشياء أو الآلات. لكن حضورها يبدو دائماً فجاً وضمن سياق هزلي مثير للسخرية، كما هو الحال في «باب عم يبكي» لعاصي الحلاني.

قد تكون أغنية «إنت أكيد من عالم ثاني» لخالد سليم أكثر الأغنيات التي تتطابق مع فرضيات الخيال العلمي من بين الأغاني الشعبية، فيرد بالأغنية: «جيت الدنيا إزاي؟ ومنين إنت جاي؟ أنت أكيد من عالم ثاني مالوش أثر». هذه الأغنية مبنية على تصور ضمني لوجود فكرة السفر عبر الفضاء، ووجود حياة أخرى في كواكب بعيدة نجهلها. لكن هذه التصورات لم يتم استحضارها سوى كتشبيه لغوي للكناية عن شدة الجمال.

الخيال العلمي في الكليبات العربية

يمكن القول إن ثيمات الخيال العلمي لم تحضر في الأغنية العربية الشعبية سوى في هوامش ضيقة جداً، بالكاد يمكن تلمّسها، وهي بالتأكيد لا تكفي لتشكيل نواة لأغانٍ تتناول هذه الموضوعات في المستقبل القريب.

في المقابل، حضرت ثيمات الخيال العلمي بشكل أكثر وضوحاً في الكليبات العربية. فالعديد من الكليبات العربية تم تصويرها ضمن رحلات في الفضاء الخارجي، كما في أغنية «سافر حبيبي» لأماندا، التي تسرق فيها لقطات كاملة من عدة أفلام أمريكية، لتكوّن بها كليب الأغنية، وهي أفلام كونتاكت (1997) وأرماجيدون (1998) وغرافيتي (2013). ولم تكن الاستعانة بلقطات جاهزة المشكلة الوحيدة في الأغنية، فالمشكلة الأكبر عدم ترابط كلمات الأغنية مع الفيديو.

وهناك كليبات أخرى تذهب إلى أماكن أبعد بكثير، مثل كليب «يا شوق» لمروان خوري، الذي يبدو أنه يجسد أفكاراً عن عوالم متوازية، وكليب هيثم الشوملي «شو عملتي فيي»، الذي يقوم فيه بصناعة أنثى ليعشقها عن طريق جهاز كومبيوتر غريب يتحكم فيه. هذا الكليب بالتحديد كارثي بكل المقاييس، فبالإضافة إلى المشكلة السابقة التي تتعلق بعدم الترابط بين الكلمات والفيديو، والذي يصل هنا إلى حد التناقض، فإن المشكلة الأكبر هي أن الاختراعات العلمية المتخيّلة يتم استحضارها في الكليب لخدمة فكر ذكوري متطرف.

فعلياً، لا يوجد سوى كليب واحد ينتمي لكليبات الخيال العلمي العربية ويستحق الوقوف عنده، وللمفارقة هو كليب أغنية «راجعين» لعمرو دياب الذي يعتبر أقدمها. ففي المشهد الافتتاحي لكليب الأغنية التي تم إصدارها عام 1995، يهبط عمرو دياب من الفضاء بسيارة حمراء طائرة ليقتحم مشهداً غنائياً عربياً كلاسيكياً ينتمي لعام 1942، تم تصويره بالأبيض والأسود. وبألوانه الزاهية، يتسلل دياب بين الجموع الباهتة نحو آلة البيانو، فيعزف في البداية اللحن الذي كان دائراً ليثبت قدرته على تقديم ذات اللون القديم، قبل أن يقوم بتغيير النغمة، وتقديم لون جديد قادم من المستقبل. تكمن أهمية هذا الكليب في أنه يبدو كصورة تختزل فكر عمرو دياب الموسيقي، فالمغني المصري كان يسعى إلى تحديث الموسيقى العربية وتجديدها، وقد تعرض لانتقادات من أصنام الموسيقى العربية لكونه حاد بمساره عن درب الأصالة. يتمكن عمرو دياب في هذا الكليب من إضفاء ألوان المستقبل على الماضي، ويعود إلى زمنه ليغلق صفحة من صفحات الإرث الموسيقي الذي يشكل عائقاً أمام التطوير. لكن تبقى مشكلة هذا الكليب أن موسيقى الأغنية كانت من الأقل تمرداً بين الأغاني التي قدمها عمرو دياب في التسعينات.

محاولات في الأغنية البديلة

لا تكتمل الصورة دون التطرق للحديث عن الأغاني العربية البديلة، التي يعود لها الفضل بإدخال العديد من الموضوعات المختلفة إلى الأغنية العربية. وعلى الرغم من أن الثيمة العاطفية هي الأكثر شيوعاً في الأغنية البديلة أيضاً، لكن فناني الموسيقى البديلة أدرجوا بإنتاجاتهم العديد من الموضوعات المختلفة، ليعطوا مساحة كبيرة للأغاني السياسية الثورية والأغاني التي تتناول قضايا اجتماعية شائكة. لكن الخيال العلمي لا يحتل سوى مساحة صغيرة جداً ضمنها، وذلك بسبب توجه معظم فناني الموسيقى البديلة إلى إنتاج أغانٍ تلامس الواقع. ومع ذلك، فإن هامش الخيال العلمي في الأغنية البديلة أكبر وأنضج من هامش الخيال العلمي في الأغنية الشعبية.

ثيمة الخيال العلمي الأكثر شيوعاً في الأغاني العربية البديلة هي مكننة الإنسان، وتعتبر فرقة مشروع ليلى اللبنانية أبرز من تناول هذا الموضوع. ويمكن التماس ذلك بشكل واضح في أغنيتي «رقّصوك» و«الحل رومانسي». ففي الأغنية الأولى يرد: «نبضه بيدق إيقاع كان يسمعله قبل ما استأصلوه / وركبوا عداد مصمم عمزاجهن بمحل قلبه / طاردوك وعذبوك / بالإيقاع استعبدوك / علموك تتحرك زيهم»، ليشير ذلك إلى علاقة الإنسان مع الأنظمة الحاكمة، التي تسعى إلى استعباد الناس وتحويلهم إلى ماكينات يسهل التحكم بها، وهذه الصورة تستثمرها فرقة مشروع ليلي بشكل جيد في ألبوم رقصوك كاملاً، الذي يحول الإيقاع والرقص إلى كناية عن الآليات التي تستخدمها السلطة للتحكم بالناس. أما في «الحل رومانسي» فترد العبارة التالية: «مش عارف إن كنت رجل أم مصرف آلي / بس الأجار يا خيي صاير سوبر غالي»، وهي أغنية سبقت ألبوم رقصوك بعامين، وكانت تحتوي البذور الأولى له، وفيها يتشكك الإنسان في ماهيته في ظل الواقع السياسي، ويتساءل عن إنسانيته المهدورة مع شكوك بكونه مجرد آلة.

وفي الأغنية البديلة الأردنية أيضاً، تم التطرق إلى موضوع مكننة الإنسان وذلك عبر نموذجين، هما: أغنية «الماكينة» لفرقة جدل،وأغنية «الرجل الآلي» لهاني متواسي. إلا أن الأغنيتين افتقدتا الحساسية والجدة التي تميزت بهما أغاني مشروع ليلى، وتم استخدام كلمتي «الرجل الآلي» و«الماكينة» كصورة شعرية للإشارة إلى الروتين اليومي الذي يُفقد الإنسان إنسانيته ويحوله إلى آلة.

هاتلنا بالباقي لبان

تبدو معظم الأغاني البديلة التي تناولت ثيمات الخيال العلمي عالقة في الزمن الحاضر، وفعلياً ليس هناك أغانٍ مستقبلية باستثناء أغنية طرحتها فرقة كايروكي المصرية العام الماضي، وحملت عنوان «هاتلنا بالباقي لبان»، والتي غردت بها خارج السرب تماماً لتتحدث عن فرضية خاصة جداً عن نهاية العالم. ويرد في الأغنية:

«لو بكرا نهاية العالم هنزل أفول عربيتي
وآخدها وأعدي عليكي
ننزل نتفسح.
مش عارف هنروح فين
هنسوق زي المجانين
وهنركن في الممنوع ونمشي حافيين.
ندخل عالسوبر ماركت، نسرق تفاحة ونهرب
نتريق عاللي يعدي، وممكن نشرب.
ونجيب بفلوسنا سجاير اللي بطعم النعناع
ونقوله واحنا مندفع:
هاتلنا بالباقي لبان، أنا عايز أكون فرحان.
هنمشي ومش هنفرمل ونسكر العداد
ونسجل فيديو أنا وأنتي، هنقول فيه أيه! مش عارفين!
ممكن نحكي عفوايد اللعب مع الدلفين
ونقف قدام السينما نتفرج عالأفيشات
وأحكيلك عن فيلم أنا شفته، بطله من أوله مات».

هذه الأغنية تبدو مغرقة بالعدمية، إذ تتحدث عن نهاية العالم من منظور فلسفي خاص جداً، يضيع فيه مفهوم النهاية مع التفاصيل الصغيرة، التي تسيطر على عقل الإنسان حتى عندما يدرك أنه وصل للنهاية. فعلياً هي الأغنية الوحيدة التي قد تشكل نواة لحركة جديدة للخيال العلمي في الموسيقى العربية.