«لا أود أن يذهب بالك إلى معتزلة الكوفة من أصحاب الحسن البصري، وإنما إلى معتزلتنا هؤلاء الذين اعتزلوا مقهى باب المنارة وجماعة شعراء الفصحى، ونزلوا إلى مقهى تحت السّور».علي الدوعاجي. تحت السور (إعداد عز الدين المدني)، تونس: الدار التونسية للنشر، 1983، ص: 27. هكذا أراد الأديب التونسي علي الدوعاجي إضفاء معنى «الاعتزال» على الحكاية، مزوّداً حدث الانتقال بدلالات فكرية واجتماعية تفوق مجرد استبدال مقهى بآخر. تعود جذور الحكاية إلى ثلاثينات القرن العشرين، عندما قرّرت زمرة من الأدباء والشعراء والصحافيين التونسيين الانتقال من مقهى محاذٍ للمدينة، يتردد إليه عِلية القوم ومُجالِسوهم من الشعراء والفنانين، إلى مقهى «تحت السور» في حي باب سويقة، أحد أقدم الأحياء الشعبية في العاصمة التونسية. سيُعير هذا المقهى اسمه ومزاجه وصخبه الشعبي إلى «جماعة تحت السور»، التي ستصبح علامة قوية وغامضة لجماعة أدبية غريبة عن أهلها، شبّهها الناقد التونسي توفيق بكّار بـ«إخوان الصفا». توفيق بكار. مقدمة الأعمال الكاملة لعلي الدوعاجي، تونس: دار الجنوب للنشر، 2010، ص: 20.

في إحدى زوايا مقهى تحت السور وحول «طاولة عليها لوح من رخام أثري، أو على الأصح أثري النقوش»،علي الدوعاجي. تحت السور، ص: 38. اختلطت أمواج الدخان بحماسة نظم الأشعار والأزجال وتبادل القصص والمواقف والأغنيات. وعلى هامش المدينة المتمسّكة بآخر ما تبقّى لها من وقار عتيق، كان المقهى القريب من حي البغاء (حي سيدي بن نعيم) يشهد ميلاد جماعة أدبية وفنية منشقة عن المألوف، تبحث عن صيغ جديدة للتعبير عن الذات المبدعة وامتداداتها في الحياة والمجتمع. ورغم أن معظم المنتسبين إلى الجماعة لم يمتلكوا الوضوح ذاته في الالتزام والتعبير عن مضامين الرفض التي تعاهدوا عليها في مجالسهم، إلا أن فيهم من تَماثَلت نصوصه وأفكاره ومسيرته الحياتية مع روحية الانشقاق والصعلكة إلى حدود الاحتراق الجسدي والروحي. وقد شكلّت مواقف وآثار الأديبين علي الدوعاجي ومحمد العريبي، على الأقل، ملمحاً لحياة إبداعية طافحة بالقلق والشك وتحطيم اليقينيات، وبرزت بهما خرائط غريبة للأدب التونسي، امتزجت داخلها الفُكاهة بالمرارات، وتجاورت فيها الحياة مع الخرابات الجميلة.

المعرفة خارج المدرسة والطريقة

الالتحاق بمساءات تحت السور كان فصلاً جديداً في مسارات معرفية «غير ممأسسة»، نأى أصحابها بأنفسهم عن حلقات التعليم الرسمي، سواء تلك التي يوفّرها جامع الزيتونة أو المدرسة الصادقية. يصف علي الدوعاجي الجانب الملفت للانتباه في شخصية محمد العريبي عندما التقاه أول مرة، قائلاً: «تعرّفنا إلى شاب جزائري الأصل، تونسي المولد، دون العشرين من العمر، يطلب العلم في الكلية الزيتونية ويطالع كل ما يقع تحت أصابعه الطويلة من كتب العرب والفرنجة إلا الكتب الدراسية المفروض عليه درسها، فهو لا يمسّها بخير ولا بسوء». المصدر نفسه، ص: 43. وعندما التحق العريبي بمجالس تحت السّور كره العودة إلى دروس «الجامع الأعظم»، فغادره مُثْقَلاً باعتراض كبير على الجانب التلقيني في التعليم المدرسي، مسترجعاً محنة الإنصات الطفولي للعادات دون قدرة كبيرة على تجاوزها، إذ يقول: «قبل السادسة من عمري علّموني كيف يجب أن أتديّن على طريقة الشيخ أحمد الأعمى، ثم أدخلوني مدرسة مختلطة، حيث جرّبت محنة الإصغاء غير الضروري، وحاولت إثبات وقاري الأخلاقي الزائف» فتحي لواتي. «قراءة في مذكرات كاتب منسي: محمد العريبي»، مجلة الحياة الثقافية، عدد 28-29، 1983، ص: 8. كان علي الدوعاجي يشارك العريبي فكرة ازدراء التعليم الرسمي بحدّة أكبر، وكان يعتبر ذلك مدخلاً عريضاً لبناء شخصيته الرافضة. كان يردد عن نفسه: «فإذا خالفتُ المعهود فلأنني أجد لذة في المخالفة، وسبب ذلك هو عدم تعلّمي التعليم المدرسي، فلم أتعود تتبّع المدارس». علي الدوعاجي. تحت السور، ص: 174.

عاش مجتمع تحت السور تقريباً على هامش المؤسسات التعليمية الرسمية، سواء لعدم انسجامه المعرفي مع المواد التعليمية الكلاسيكية التي كانت تُلقى في أروقة جامع الزيتونة، أو لعدم قدرته على توفير تكاليف المدارس العصرية على غرار المدرسة الصادقية التي كانت تجذب إليها أبناء الفئات الاجتماعية الميسورة. وهكذا، شكّلت جلسات مقهى باب سويقة إطاراً مفتوحاً على إمكانية التحصيل المعرفي الحر، وجعلت روّادها أكثر استعداداً للإبداع الفكري والأدبي والفني عبر كتابة القصة القصيرة والمقالة الصحفية، وتغيير مضامين الكتابة الشعرية وأساليبها، والمزج بين الفصحى والعامية. وكانت الترجمة أيضاً وسيلتهم للاطلاع على الإنتاجات الأدبية الأوروبية على غرار مسرحيات شكسبير وأشعار بودلير وفلسفة نيتشه.

النزول إلى قاع المدينة

الخروج عن المسالك الرسمية المَدِينيّة التي كانت تُنتج صورة معيارية نقية عن «أصحاب القلم»، جعل جماعة تحت السور تحفر في الهوامش والأرصفة الشعبية بحثاً عن هوية جديدة. ويظهر أن الجماعة عاشت سجالات داخلها ومع غيرها من نوادي المدينة حول مفهوم «المثقفين» وأدوارهم وتوتراتهم وانحيازاتهم. وقد حاول علي الدوعاجي ترسيم الحدود بين جماعة تحت السور وغيرها من المجالس والنوادي: «في تونس عدة صحف، واحدة اختصت بنشر ما يقع وسيقع في الشرق، وأخرى تنقل أخبار الغرب وثقافته، وثالثة تنتقد العمال والحكام وأصحاب المصانع والمتاجر، ورابعة نصّبت نفسها للوعظ والإرشاد. ليس بين هذه الجرائد إلا الجد، إذ يرون في الفكاهة غضاضة وحقارة وعملاً ينزل بهم إلى المستوى الشعبي الذي لا يلائم ثقافتهم الأرستقراطية. أما نحن فشيء آخر؛ نحن من الشعب، في مستواه ومستوى ثقافته و’لم نقطع سراويلنا على مقاعد الكليات‘، حسب تعبير الصيدلاني المشهور بكلمته هذه. ولا نختلف مع الشعب إلا في أن الشعب يعمل ونحن نغني له». المصدر نفسه، ص: 58.

ظل الدوعاجي هائماً بفكرة إقحام «العوام» في الخطابات الأدبية والفنية، وقد انعكس ذلك في مسرحياته ومجموعته القصصية سهرت منه الليالي (1969) وأشعاره الغنائية، مازجاً بين الفصحى والعامية بأسلوب لا يخلو من الفكاهة والسخرية، ومشيراً إلى أن «الإنسان عثر على الضحك قبل عثوره على الشمع والزيت والنفط والكهرباء». غاص الدوعاجي في عوالم «الحشيش» الشعبية، وتغنى بسحر مخدّر «التكروري»، التكروري مخدر خفيف يُستخرج من مادة القنب الهندي، تم حظره رسمياً في تونس منذ أواسط خمسينيات القرن الماضي. وصادَق ماسحي الأحذية والمغنيات وعاملات الجنس، وفي أوقات «الإفلاس» – التي على الأرجح كانت ملازمة لجماعة تحت السور – كان ينتظر أمام بائع تذاكر «صالة الجزائر» مرتقباً صديقته المطربة حتى تتوسّط له من أجل الدخول، لأنه لم يكن يملك ثمن التذكرة.علي الدوعاجي. تحت السور، ص: 49. وفي الأزقة الملتوية نفسها سار محمد العريبي مع صديقه علي الدوعاجي. إلا أن العريبي كان أكثر ولعاً بـ«نماذج الأرصفة والزوايا»، فقد احتفى في قصائده وقصصه القصيرة بشخصية المومس، باحثاً عن محددات ومعانٍ جديدة للأدب والشعر بشكل خاص: «الشعر ليس استراحة في محطة الانتظار، ولن يكون تذكرة للوصول إلى بوابة الأمان. الشعر لا ينمو إلا وسط المزابل والأوحال والحفر. الشعر سفر دائم دون جواز أو حقائب. والشاعر يبدأ ويبزغ وينفجر فجأة مع مواء قطة، أو لحظة يسقط في مزبلة، أو يوم تصفعه مومس عابرة».ابتسام الوسلاتي. الهامشية في الأدب التونسي: تجربة جماعة تحت السور، تونس: دار الجنوب، 2019، ص: 337.

البحث عن الذات وسط الركام

وسط الركام والصخب وأزقة «باب سويقة» و«الحلفاوين» و«باب الأقواس»، كانت جماعة تحت السور تبحث عن شعب أهمله الغزاة وفقهاء الباي،لباي هو لقب الوالي العثماني في تونس من 1705 وحتى 1956 مع تأسيس الحكم الجمهوري. فتُعيد ابتكار قسَماته وملامحه داخل النصوص والقصائد والأناشيد. ولكن الهوس بفكرة الشعب أنتج غيومه ومراراته الداخلية، فعندما يبحث الفنان والكاتب وسط الزحام عن ذاته، يتلبّسه شعور عميق بالغربة والضياع، ويصطدم بأسئلته الداخلية التي تبحث عن أجوبة مستحيلة. وعندما قيل لعلي الدوعاجي ذات مساء «من أنت؟»، شبّهَ نفسه بشجرة «الزبوس»، وهي زيتونة برية تنبت في الجبال مصادفة بسبب نواة زيتون قذفها عابر مجهول. ورغم أن الزبوس مدت جذورها وسط هذه الأرض وأوحالها، إلا أنها لم تصبح «زيتونة مباركة»، لأنها لا تنتج ثمراً صالحاً للاستهلاك. ولعلّ الدوعاجي لخّص بهذه الاستعارة المفارقة الوجودية التي عايشتها جماعة تحت السور، أي زمرة الكتاب والفنانين الملتصقين بالحياة الشعبية، والذين ظلوا منبوذين وتلاحقهم تهم الزندقة و«الشذوذ»، فيما ظل رجل الدين التقليدي، بجبّته التونسية وعمامته، يحتل مواقع الحظوة والهيمنة الرمزية. وما زالت الذاكرة الجمعية في تونس، إلى هذا اليوم، تنظر إلى جماعة تحت السور عبر التقليد الأخلاقي القديم، بوصفها حفنة من الصعاليك الذين لفظتهم المدينة. عندما أحس علي الدوعاجي بوطأة هذه المرارة، كتب إلى صديقه محمد العريبي يقول: «نعم، فأجنحتي تفوق سيري على أرض البشر، وهذا ما يُحزنني». علي الدوعاجي. تحت السور، ص: 185. وحين بدأ عقد الجماعة بالانفراط أواخر الأربعينيات، ازداد شعور الدوعاجي بالتلاشي، وكبُر لديه الإحساس بالتنكر الشعبي للكتّاب، خاصة وأنه شهد موت صديقه الطاهر الحداد وحيداً في أحد الحمامات العتيقة، ومن قبلها صديقه أبو القاسم الشابي، الذي لم يصمد طويلاً أمام مرض القلب ومواسم الجفاف.

كان محمد العريبي أيضاً يحارب خيباته الداخلية بالبحث عن خيط فلسفي يشدّه إلى الحياة ويُنجيه من «صدمة الخيبة»،محمد العريبي. الرماد (إعداد وتقديم محمد الهادي بن صالح) تونس: شركة فنون الرسم والنشر والصحافة، 1986، ص: 104. وكان يقول عن نفسه: «لست أكثر ولا أقل من مخربش صغير سيظل مصراً على التسلي بلعبة التعاطف الإنساني مع نماذج الأرصفة والزوايا». ابتسام الوسلاتي. الهامشية في الأدب التونسي: جماعة تحت السور، ص: 330. وعندما ضاق به مقهى تحت السور، وضاق هو بالمقهى، غادر العريبي إلى عاصمة الكونغو برازافيل، ثم إلى باريس، وهناك أنهكته ذاكرته وغربته إلى أن انطفأ مختنقاً في منزله بالغاز. وقد كتب في آخر سطور مذكراته التي ضاع معظمها لأنه دوّنها على علب السجائر وحواشي الكتب: «تونس، يا امرأة ولدتني في زمن التدني، وداعاً…». فتحي لواتي. قراءة في مذكرات كاتب منسي: محمد العريبي، ص: 9.