ليس من السهل أن يجد القارئ العربي، أو من يودُّ القراءة باللغة العربية، كتاباً ورقياً في برلين، أو في ألمانيا بشكلٍ عام. توجد الكثير من المكتبات العربية، لكنّ محتوياتها غالباً ما تكون مؤلفاتٍ ذات مضمون استهلاكي، أو يغلب عليها الطابع الديني، أو هي عناوين قديمة وباهتة لا تلبي رغبات القراء أو حاجاتهم. لذلك، كانت الوسائل المتاحة للحصول على الكتب عادةً إما تأمينها من خلال الأصدقاء، أو طلبها من متاجر إلكترونية خارج ألمانيا وتحمّل تكاليف الشحن المرتفعة جداً (والتي تفوق في كثير من الأحيان ثمن الكتب المطلوبة)، أو اللجوء إلى صفحات الانترنت التي تنشر نسخاً إلكترونية مقرصنة. وفي أحيان كثيرة، يرغب المرء باستذكار مقطع معين من كتابٍ محدد أو العودة إلى مرجعٍ ما، وإذا لم يكن متوفراً لا إلكترونياً ولاورقياً، يُضطر حينها إلى مراسلة العائلة أو المعارف في أنحاء العالم، ممن يعرف أن الكتاب الذي يبحث عنه متوفر لديهم، ويطلب منهم أن يرسلوا له صوراً من مقاطع أو صفحات محددة عبر الواتساب أو الماسنجر.
تعِدُنا مكتبة خان الجنوب، التي افتتحت الشهر الماضي في برلين، بتخفيف الصعوبات التي تواجهنا أثناء بحثنا عن الكتب باللغة العربية، وتأمين مختلف العناوين، سواء الكلاسيكية أو الحديثة، دون الحاجة إلى أن نسأل هنا وهناك أو الانتظار طويلاً لعل أحدهم يأتي إلى برلين ويحمل لنا الكتاب معه. خان الجنوب يزودنا بالكتب الورقية، التي يمكن شرائها من المكتبة مباشرة، أو من خلال المتجر الإلكتروني الذي يقدم خدمة توصيل الكتاب إلى كافة أنحاء العالم.
أثناء زياتي للمكتبة أُتيحت لي فرصة اللقاء بكلٍّ من فادي عبد النور، وهو مؤسس المكتبة وأحد الفاعلين الثقافيين في برلين، ومؤسس مشارك لمهرجان الفيلم العربي في برلين، والروائي المصري محمد ربيع، كاتب رواية عطارد (2014)، والتي كانت ضمن القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (2016). أتاح لنا هذا اللقاء فرصة الدردشة ومناقشة أمور عديدة، غير محصورة بمكتبة خان الجنوب فحسب، بل أيضاً حول صناعة الكتب في المنطقة العربية والتحديات التي تهدد السوق ودور النشر على حدٍّ سواء.
قبل سنتين أُقيم في برلين سوق الكتاب العربي، واستمر لمدة ثلاث أسابيع في المكان ذاته. لكن كيف بدأ التخطيط لمشروع المكتبة وكيف كانت الانطلاقة؟
-عبد النور: يمكننا القول إن فكرة مكتبة خان الجنوب بدأت أولاً من الحاجة الشخصية. جرت العادة من قبل، أن ننتظر مجيء أحد الأصدقاء من بيروت أو القاهرة، ممن لا يزال هناك فراغٌ صغيرٌ في حقائبه، حتى نوصي على بعض الكتب والعناوين الجديدة. في إحدى المرات وصلتنا هدية لابنتي، وكانت عبارة عن مجموعة كبيرة من كتب وقصص للأطفال باللغة العربية، ومن هنا بدأتُ أن أفكر؛ شخصياً يمكنني الانتظار سنة أو سنتين لقراءة كتاب باللغة العربية، أما بالنسبة للأطفال، خاصةً في أعمار مبكرة، فالحاجة فورية ومن الضروري جداً أن يبقوا على تواصل مع الكتب والقراءة باللغة العربية .
في السبعينات كان هناك مكتبة عربية صغيرة في برلين، إلا أنها أقفلت في الثمانينات. وكذلك أذكر أنه عندما وصلت إلى برلين في أوائل الألفينات، كان من الممكن أن يجد المرء بعض الصحف العربية في الأكشاك، لكن في السنوات السابقة الأخيرة كانت فرصة الحصول على كتاب باللغة العربية في برلين ضئيلةً جداً، مع العلم أنّ الوضع تغير كثيراً في ألمانيا في السنوات الخمس الأخيرة، وذلك مع ازدياد عدد اللاجئين والمهاجرين العرب.
لذلك، فكرنا في البداية بإجراء تجربةٍ تسمح لنا بفهم السوق وشكل الطلب من خلال إقامة السوق العربي للكتاب في أواخر عام 2018 لمدة ثلاثة أسابيع، كما حرصنا على المشاركة في مهرجانات مثل مهرجان الأدب العربي مع مكتبة بيناتنا والمشاركة في مؤتمر آفاق. من خلال هذه التجارب، كان التخطيط للمكتبة مستمراً، وبمساعدة المبادِرَين رشا حلوة من فلسطين ومحمد ربيع من مصر، استطعنا مؤخراً افتتاح المكتبة.
ماهي دور النشر التي تتعاونون معها من أجل تأمين الكتب والمؤلفات، وكيف يجري التواصل مع هذه الدور؛ هل بشكلٍ مباشر أم من خلال وسطاء ومكتبات في بيروت أو القاهرة؟
-عبد النور: بداية استطعنا تأمين كتب من دور النشر عن طريق لبنان، مثل: دار الساقي، الأهلية ، المتوسط ، المدى والفارابي. كما توسّع طلب الكتب من دور النشر المصرية.
-ربيع: استطعنا شحن مؤلفاتٍ من بعض دور النشر المصرية، مثل: الشروق، صفصافة، المحروسة ، تنمية، المرايا. هناك دور نشر تتوجّه للقارئ المصري بشكلٍ خاص، ومكتفية بالسوق المصري، لذلك فضّلنا تأجيل الطلب منها ريثما نفهم السوق العربي في برلين. عند التوصية وشحن الكتب يتم التواصل بشكلٍ مباشر مع الناشر، لكن للأسف بسبب انفجار المرفأ في بيروت، لم نستطع شحن جميع الكتب التي كان من المقرر أن تصل إلى برلين، ولذا اضطُررنا لاستيراد بعض الكتب من دور النشر اللبنانية عن طريق إحدى المكتبات المصرية.
قبل إنشاء مكتبة خان الجنوب، كان يمكن للقارئ باللغة العربية أن يجد مكتباتٍ عربية، لكن للأسف المشكلة تكمن في العناوين المتوفرة، والتي تكون في غالبها سياحية أو تجارية إن صح القول. هل يوجد آلية محددة لاختيار العناوين والمؤلفات، لاسيما في الكتب الخاصة بالأطفال واليافعين؟
-عبد النور: بالطبع توجد مكتبات عديدة في برلين، لكن كما ذكرتِ، أغلب العناوين سياحية واستشراقية، بالإضافة للتركيزبشكلٍ أساسيّ على الكتب الدينية. نحاول اختيار العناوين التي تهمّنا كأفراد وتتقاطع مع تجربتنا في العمل الثقافي والفني، وأن نكون حداثيين قدر الإمكان باختيار المواضيع والعناوين الجديدة. حاولنا تغطية مجالاتٍ مختلفةً؛ مثل الفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع والروايات العربية والروايات المترجمة. أما بخصوص أدب الأطفال، فقد جرى اختيارها بعنايةٍ كبيرة، وحاولنا اختيار مؤلفاتٍ مكتوبةً بلغةٍ جميلةٍ تجذب الطفل، كما أنّنا اخترنا عناوين تركز على ثيماتٍ ومواضيع آنيّة؛ مثل التنمر والتوعية الجنسية، وحاولنا الابتعاد عن المحتوى الديني الموجه للأطفال أو اليافعين.
-ربيع: افتتحنا المكتبة بداية بـ1500 عنوان. أعتقد أنّ المثالي هو البدء بـ3000 عنوان على الأقل، ولكن بسبب انفجار المرفأ في بيروت، لم يكن من الممكن شحن كامل المؤلفات المُقرّر استيرادها. حاولنا كما ذكر فادي تغطية أقسام مختلفة من التاريخ والفلسفة وعلم الاجتماع والأبحاث السياسية، وكنّا حريصين على وجود الروايات العربية الكلاسيكية، والتي، شخصياً، لا أعتقد أنّها ستكون مصدراً للربح مستقبلاً، إلا أنه لا يمكن تأسيس مكتبةٍ عربيةٍ دون وجودها. المجموعة الموجود في الوقت الحالي ليست موجهةً لقارئٍ مُحدّد، بل حاولنا تلبية حاجات جميع فئات القرّاء ومراعاة رغباتهم المتنوعة.
ماهي خططكم للاستدامة في ظلّ الصعوبات الاقتصادية وصعوبات شحن الكتب من المناطق العربية، وهي أساساً مناطق غير مستقرة؟
-ربيع: نلاحظ فعلاً أنّ دور النشر تعاني من تهديداتٍ اقتصادية صعبة، بسبب الظروف غير المستقرة وبسبب الجائحة العالمية، لاسيما أنّ مبيعات أغلب دور النشر تعتمد على معارض الكتب بشكلٍ أساسي. ويمكن القول إنّ الناشرين تنفسّوا الصعداء بعد قرار إقامة معرض الكتاب في الشارقة، لكن بالطبع أعرف عدداً من المكتبات ودور النشر المهددة بالإقفال، ومن الحلول التي بدأتْها بعض المكتبات، في القاهرة مثلاً، توصيل الكتب إلى البيوت. كذلك الأمر في خان الجنوب، أنشأنا بالتوازي مع المكتبة متجراً إلكترونياً مع إمكانية التوصيل إلى مختلف دول أوروبا وإلى كل أنحاء العالم، كما التزمنا بالأسعار التي حدّدها لنا الناشر، حتى أنّ تكلفة الشحن الجوي المرتفعة لم نقم بتحميلها بالكامل على أسعار الكتب.
-عبد النور: بالنهاية استدامة المشروع تعتمد على الإقبال، لكنّ هذا الإقبال قابلٌ للتنشيط، ومن خلال خبرتنا في العمل الثقافي نعرف أنّه يمكننا التخطيط لفعاليات ثقافية أو قراءات أدبية، وهذه خططٌ قائمةٌ ما أن تستقر المكتبة، فنحن أيضاً نسعى للتخطيط مع مختصين لإقامة نادي قراءة خاص بالأطفال مثلاً. من ناحيةٍ أخرى، نجد هذا النشاط في غاية الأهمية في الوقت الحالي، وذلك نظراً للصعوبات التي يعاني منها الأهل في تعليم اللغة العربية للأطفال.
أشار فادي سابقاً إلى وجود عددٍ كبيرٍ من الكتب المُزوّرة، وهذا يُحيلنا إلى مسألةٍ في غاية التعقيد، وهي الكتب المُقرصنة والكتب الإلكترونية التي تُهدد صناعة الكتاب ودور النشر. ما هي الآليات التي يمكن اتّباعها للتعامل مع عمليات القرصنة أو التزوير، وهل تعتقدان أنه يمكن أن يوجد جهدٌ توعوي للتقليل منها؟
-ربيع: الشراء الإلكتروني، حتى لو كان مقابل سعرٍ قليل، لا يبدو مشكلةً كبيرة، لأنّ نسبةً من المبلغ ستعود للكاتب ولدار النشر. لكنّ المشكلة الأكبر تكمن في الكتب المزورة والكتب المُقرصنة. على سبيل المثال، من الاستراتيجيات التي تتّبعها دور النشر تخفيض سعر النسخة الأصلية من أجل منع تزوير الكتاب، والذي تكون تكلفته مزوّراً منخفضةً جداً بالمقارنة مع النسخة الأصلية. لكنّ قرصنة الكتب تؤثر أيضاً على خيارات النشر، فهناك عددٌ كبيرٌ من الناشرين يُفضّلون نشر كتبٍ عربية واقتصار التكلفة على التحرير والتدقيق بدلاً من المخاطرة بنشر كتبٍ مترجمة ذاتٍ كلفةٍ عالية، وهذا بسبب تكلفة الترجمة وحقوق المؤلف والنشر، وذلك طالما أنّ الكتاب، في معظم الأحوال، سيتم تزويره أو قرصنته. وذلك خطيرٌ فعلاً لأنّ خيارات النشر صارت محكومةً بسلوك المزور والمُقرصن؛ ممّا يهدّد عمليات الترجمة أولاً، وفرص النشر ثانياً. يجب أن أنوه هنا إلى أنّ الحال ليس بهذا السوء في جميع الدول العربية، فالوضع مختلفٌ في الخليج مثلاً، وذلك لأنّ القوانين صارمةٌ جداً مع المزوّرين.
في ما يخص الجهود التوعوية، تحدث دائماً نقاشاتٌ على مستوياتٍ فردية بين الكُتّاب ودور النشر والقُرّاء. في الواقع، هذه ليس مهمتنا، فيوجد لدينا كثيرٌ من التفاصيل التي تملأ يوم العمل. هذه ليست مهمة المكتبات، كما أنها ليست مهمة فردية. ببساطة شديدة التزوير فعل غير قانوني، ومن المفترض أن يُصار إلى ملاحقة المزورين، وهذا ما يحدث فعلياً في ما يتعلّق بالصناعات الأخرى، إلا أنّه للأسف لا ينطبق على صناعة الكتب.
-عبد النور: في النهاية، حتى الأشخاص الذين يحبون القراءة ويتوجهون إلى الكتب المُقرصنة، يجب أن يعلموا أنه، مع استمرار هذه السلوكيات، حتى الكتب المقرصنة ستصبح مفقودة. أما المشكلة مع استيراد الكتب المزورة، فليس من السهل على السلطات الألمانية أن تكتشف حالات تزوير الكتب، كذلك، لا يوجد تمثيلٌ قانونيّ لدور النشر العربية في ألمانيا من أجل التبليغ والملاحقة القانونية. في مكتبة خان الجنوب حاولنا أن تكون الأسعار قريبة لأسعار الناشرين مع أخذ كلفة الشحن بعين الاعتبار، حتى أنّه يمكنني أن أتجرّأ وأقول إنّ الأسعار قريبةٌ من الأسعار التي تبيع بها المكتبات في بيروت أو عمان مثلاً، وذلك حتى لا يُضطر الناس لشراء شراء نسخٍ مزورة أو مقرصنة. مع ذلك، أجد أنّ الجهود التوعوية بحاجة إلى مؤسسات، كأن يقوم اتحاد الناشرين العرب، مثلاً، بحملةٍ أو خوض نقاش عام مع الجمهور ومعرفة أسباب القرصنة والتزوير. هناك بالطبع حالاتٌ خاصة، كما هو الوضع في سوريا مثلاً، بسبب الظرف العام والحرب، لكن في البلدان التي يمكن الحصول فيها على الكتاب بشكلٍ قانوني، فلا أرى مبرراً للقرصنة أو التزوير.
*****
في الحديقة الخلفية للمبنى رقم 151 في بوتسدامر شتراسه في برلين، يمكنكم زيارة المكتبة والاطلاع على مجموعة العناوين المتوفرة فيها، فربما ستجدون نسخةً ورقية من كتابٍ كنتم تبحثون عنه. أيضاً، يمكنكم الاستفادة من ترشيحات كلٍ من محمد ربيع وفادي عبد النور، المتواجدين هناك يومياً ما عدا يوم الأحد. كذلك، من الممكن طلب الكتب من المتجر الإلكتروني للمكتبة وتلقّيها بالبريد، والاستمتاع مجدداً بقراءة كتابٍ ورقي مطبوع باللغة العربية.