استطاعت روسيا عبر تحالفها الثلاثي مع إيران وتركيا، المُنبثق من اجتماعات أستانا خلال الأعوام الماضية، السماحَ لحليفها في دمشق بالسيطرة العسكرية على مساحاتٍ واسعة من سوريا، في حين أصبحت باقي المساحات، خصوصاً الواقعة تحت السيطرة التركية المباشرة، وبشكلٍ تدريجي، خارج أيّ إطارٍ يُهدّد نفوذ النظام أو استقرار قواته على الصعيد العسكري، لا سيما في شمال البلاد.

ويبدو أنّ اتفاق موسكو الذي وقّعه الرئيسان الروسي والتركي، في شهر آذار (مارس) الماضي، سيقود بطريقةٍ أو بأخرى إلى تحويل إدلب تدريجياً إلى منطقةٍ تقع ضمن النفوذ الكامل لتركيا؛ بحيث لا تُشكّل أيّ تهديدٍ لحدود سيطرة النظام وقواعد روسيا العسكرية في البلاد، وهو ما يمكن الاستدلال عليه بشكلٍ واضح من التفكيك غير المُعلن لتنظيم «حراس الدين»، بعد معارك مع «هيئة تحرير الشام»، وذلك عقاباً لتنظيم «حراس الدين» على فتحه معركةً مع قوات النظام في سهل الغاب، وتوجيهه ضرباتٍ بصواريخ الغراد نحو قاعدة حميميم الروسية على الساحل السوري.

بموازاة  تلك اللحظات التي عمّقت فيها روسيا هيمنتها المطلقة على البلاد، عبر استكمال الوصاية على النظام السوري والتحالف مع تركيا وإيران، كان من الواضح أنّ الولايات المتحدة لم تُظهر أيّ معارضةٍ علنيّةٍ للنفوذ الروسي في البلاد. وعلى العكس من ذلك، ذكرت واشنطن على لسان مسؤوليها، أكثر من مرّة، أنّها ترى الوجود الروسي في البلاد مقبولاً، وسيظلّ كذلك حتّى بعد الانسحاب العسكري لجميع القوى الدولية المتواجدة في البلاد.

لكنّ واشنطن لم تمنح الروس مفاتيح السلطة والنفوذ في سوريا بشكلٍ نهائي، بل اشترطت تطبيق حلّ سياسي يقود إلى تغييرٍ جذري في بنية النظام، وهو ما كان غير قابلٍ للتنفيذ من وجهة نظر موسكو السياسية؛ لاعتباراتٍ قد تكون مرتبطةً بقدرة موسكو على إجراء هذا التغيير الفعلي أو ربما برغبتها في إجرائه أصلاً. وكانت هذه الرؤية الأميركية واضحةً في إعلان البدء بتنفيذ قانون قيصر والشروط الواضحة لإيقاف هذا القانون، وكذلك في الإبقاء على ملف شرق البلاد (الجزيرة السورية) بيد واشنطن وتحت إدارتها المباشرة. يُضاف إلى ذلك أنّ دعم الولايات المتحدة، بالاشتراك مع فرنسا، للحوار بين المجلس الوطني الكردي وحزب الاتحاد الديمقراطي، كان مؤشّراً واضحاً على عملها الهادف إلى إجراء تغييراتٍ بنيوية في إدارة المنطقة بغية ضمان الاستقرار فيها، وكذلك حتى تبقى تحت قيادة نفس المظلة العسكرية والسياسية التي تأسّست منذ صيف عام 2014 بجهودٍ أميركية.

وبهذا تصبح ملفات إعادة الإعمار ورفع العقوبات، فضلاً عن إدارة منطقة الجزيرة السورية، المسرح الأهم للتنافس بين موسكو وواشنطن؛ باعتبارها آخر أوراق الضغط الأمريكية على موسكو لتحقيق مطالبها في تغيير شكل نظام الأسد بصورةٍ واسعة، وهو ما يمكن أن يكون عصيّاً على موسكو تنفيذه. أو لعلّ هذا ما توحي به تصرفاتها حتى اللحظة، لا سيّما عقب انقطاع أخبار مساعي روسيا السياسية مع شخصيات وأطراف من المعارضة السورية، والتي كانت قد بدأت الظهور بالتوازي مع الإعلان عن قانون قصير قبل أشهر قليلة من اليوم.

في هذا الاتجاه سيكون من المفيد لموسكو بالتأكيد الحصول على دورٍ هام في منطقة الجزيرة السورية، من بوابة حصول الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، ومن ورائها مجلس سوريا الديموقراطية وقوات سوريا الديموقراطية، على الشرعية القانونية من النظام في دمشق. وفي هذا الإطار، لن تُعطي مذكرة التفاهم المُوقّعة بين قدري جميل، رئيس منصة موسكو وحزب الإرادة الشعبية، والرئيسة المشتركة لمجلس سوريا الديموقراطية إلهام أحمد الشرعيةَ المطلوبة، لكنّ الصورة التذكارية التي التُقطت بعد توقيع المذكرة بين جميل وأحمد يتوسطهما وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، تعني أنّ موسكو ستدعم مطالب تلك المذكّرة، التي ضمّت مطالب مسد حول آلية حكمٍ تسمح للإدارة الذاتية بالإشراف على مناطق نفوذها الحالية شمال شرق البلاد.

توقيع المذكرة، بالإضافة إلى التسريبات الصحفية التي تحدثت عن إثارة موضوعها خلال زيارة لافروف إلى دمشق ولقائه برئيس النظام السوري بشار الأسد، تعني أنّ روسيا تحاول التغلغل مجدداً في ملفٍّ أميركي حيوي في سوريا، من أجل الحصول على نفوذٍ في منطقة جديدةٍ، علّه يسمح لها مستقبلاً بفرض أجندتها على واشنطن، والتي لم تمانع بدورها حتى اللحظة زيارة وفدٍ من مجلس سوريا الديمقراطية (مسد) إلى موسكو واتفاقها المُعلن مع قدري جميل.

في المقابل، جاء الاعتراض السريع للخارجية التركية، التي ذكّرتْ في بيان نُشِر عقب توقيع المذكرة بتفاهمات أستانا ورفضها القاطع لإعطاء أيّ دور لمسد، المحسوب تركياً ككيان مُرتبط بحزب العمّال الكردستاني. يدل الاعتراض التركي، العلني والسريع، على أنّ موسكو قد لا تكون قادرةً على إمساك العصا من المنتصف بين طرفين شديدي العداء؛ هما أنقرة من طرف، وحزب الاتحاد الديمقراطي ومجلس سوريا الديمقراطية من طرفٍ آخر.

في هذا الإطار، يعطي الحراك الأخير مؤشراً على اتجاه موسكو نحو محاولة تجاوز الشروط الأميركية من خلال السعي للسيطرة على ملف الجزيرة السورية. ما يعني عملياً إخراج واشنطن من سوريا وفقدانها أحد أهم أوراق الضغط والنفوذ، اللذين تمارِسهما على موسكو والنظام في سبيل تحقيق مسعاها لإجراءِ تغييرٍ في نظام الحكم، وهو المسعى الذي لا يبدو أنّ موسكو تُبدي أيّ إيجابيةٍ تجاهه، خصوصاً بعد أن صرّح وزير الخارجية الروسي من دمشق أنّ أعمال اللجنة الدستورية غير مرتبطة بجدولٍ زمنيٍّ مُحدد، وأنّ الانتخابات الرئاسية ستُجرى في موعدها العام القادم، وهي تصريحاتٌ تفضي عملياً إلى إفراغ المسار الدستوري من أيّ معنىً تبقّى له، وذلك بعد حلقاتٍ من مماطلة النظام وتمييعه لتلك المحادثات التي ترعاها الأمم المتحدة في جنيف.

يعتقد بوتين أنّ امتلاكه للنفوذ الأكبر في ملف شمال شرق سوريا، بالإضافة إلى سيطرة قواته وقوات النظام على المساحات الأوسع من البلاد، سيقود الدول الفاعلة في الملف السوري إلى تقديم تنازلاتٍ له في سبيل تثبيت نفوذه بشكلٍ نهائي في البلاد وفرض حلّه الخاص عليها. وإزاء غياب أيّ فاعليةٍ أميركيةٍ واضحة قبيل الانتخابات الرئاسية المُنتظرة في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، فإنّ الساحة أصبحت فارغةً أمام مناوراتٍ روسيّةٍ جديدة على درب تحقيق السطوة المطلقة والكاملة على البلاد ومصيرها.

بهذا، يكون التفاهم الذي وُقّع في موسكو، وبين طرفين سوريين، مناسبةً جديدةً للحديث عن النفوذ الدولي في البلاد؛ تفاهمٌ يُطلّ منه النفوذ الروسي نحو منطقةٍ لطالما اُعتبرت تحت حماية الولايات المتحدة من الناحيتين السياسية والعسكرية.