من الطبيعي بعد كل هذا الوقت أن تصبح أحداث وأخبار سوريا وما حولها في المنطقة كافيةً بالنسبة لي، لدرجة أنني لم أعد أرغب في معرفة أخبار بقية دول العالم. ولأنّ منطقتنا زاخرةٌ دوماً بالأخبار، ولأنني بدأت أرى نفسي في مقارنةٍ حية، وفي مكانٍ خارج التعاطف مع بقية العالم، صار جوابي الدائم عن أيّ شيء: «لماذا عليّ أن أهتم؟».
اقتصرت اهتماماتي بأخبار العالم على ما يؤثّر أو يتأثر بما يحدث في بلادنا؛ أي، وببساطة، تَحدَّدَ اهتمامي بالقضايا الأخرى في العالم من وجهة نظرٍ تبحث عن مقاربات. ولذلك فإنّ ما يحدث في بلاروسيا هو أمرٌ بعيدٌ تماماً عن كلّ ما سبق، إذ أنّ ما يحدث في بلدٍ صغيرٍ من أوروبا الشرقية هو في العادة خارج خارطتي ومعرفتي، إلا أن ذلك تَغيَّرَ تباعاً مع فيديو زعيمة المعارضة البيلاروسية، سفيتلانا تيخانوفسكايا (Sviatlana Tsikhanouskaya)، وهي تتكلم من منفاها في ليتوانيا. استوقفني الفيديو كثيراً، فهو فيديو قصير مقتضب، تعلن فيه أسباب لجوئها إلى ليتوانيا، وتقول فيه إنها كانت تظن نفسها أكثر جرأةً، لكنها لا تزال المرأة الضعيفة نفسها! المرأة التي تخاف على حياة أولادها فتنجو بهم وبنفسها، ثم توضح أنه لا يمكن تحمّل إزهاق روحٍ واحدةٍ فيما يحدث الآن.
كان حديثها غريباً وجديداً، ليس لأنها تعارض حكماً ديكتاتورياً لا يقبل المنافسة، ولا لأنها استطاعت تحقيق نجاحٍ نوعيٍّ في الانتخابات الرئاسية في البلاد دون أن يُسمَحَ للنتائج الحقيقية بالظهور إلى العلن، ولكن لأنها قادت حملةً معقّدةً جدّاً حينما ترشّحت بالنيابة عن زوجها، سيرجي تيخانوفسكايا (Siarhei Tsikhanouski)، القابع في السجون البيلاروسية، الأمر الذي جعلها تخرج إلى الحياة السياسية العامة في فترة قياسية، ثم تفوز بما يقارب من 60-70 بالمئة من الأصوات، حسب التقديرات.
حياة سفيتلانا، الجاهزة لأن تكون فيلماً روائياً طويلاً، تغيّرت جذرياً مع تقدّم زوجها للترشح في الانتخابات في بيلاروسيا عام 2020، فهي -كما تقول عن نفسها- معلمة لغةٍ إنكليزية وأمٌّ لطفلين، أصبحت فجأةً تحظى بجماهيريّةٍ عالية، وقد ساندتها في حملتها جميع أطياف المعارضة ضد الديكتاتور الحالي، ألكسندر لوكاشينكو (Alexander Lukashenko)، المدعوم من روسيا، والذي يتمسك بالسلطة منذ 1994. وقد شكّلت هذه الأحداث المتتالية صيرورة، لتصبح سفيتلانا صورة المعارضة البيلاروسية، والرئيسة المنتخبة ديموقراطياً.
بالطبع، لا بدّ من الإحاطة بشكل الحياة في بيلاروسيا لتقديم أفضل صورةٍ عما يحدث اليوم، إلا أنه من السهل علينا أن نفهم طبيعة العيش تحت حكمٍ ديكتاتوري، واستعمال الإعلام لتضليل الحقائق، وتقديم صورةٍ مخالفةٍ تماماً للواقع. ومع ذلك، من المهم متابعة حركة الصراع في هذه البلاد.
عنصرية مستهدفة للنساء!
من أكثر المفارقات المضحكة المبكية أن لوكاشينكو قرر الاستهانة بمعارضته في الانتخابات الأخيرة لأن قيادتها كانت بين أيدي النساء، وهو ما يمكن أن يشكّل مدخلاً للحديث عن الحياة السياسية في بيلاروسيا. فلوكاشينكو، الذي يُعرَفُ نظامه بعنفه وممارسته للاعتقالات وتلفيق التهم للمعارضين، هو أيضاً خارجٌ عن التاريخ في قياس الحالة التحررية والحداثية للشعوب، حيث أن تصريحات مثل «هنا، للرئيس سلطاتٌ هائلةٌ من الأمن الى الاقتصاد. وهذه السلطات لا يستطيع ان يتولاها شخصٌ يرتدي تنورة»، التي نقلت عن لسانه في انتخابات 2015، هي خير دليلٍ على أن أساليب المعركة السياسية التي يخوضها تعود إلى أفكار بدائية سطحية عن مفهوم دخول النساء عالم السياسة، ومن هنا ربما كان فوز سفيتلانا طعنةً لم يتوقّعها أبداً، ولم يكن قادراً على فهمها، وهي بشكلٍ من الأشكال نقطة قوّةٍ للمعارضة التي استطاعت أن تزيح خلافاتها جانباً وتتبنّى حركةً تقدميّةً جداً في دعم سفيتلانا.
يتطلب نظام الترشّح للانتخابات الرئاسية في بيلاروسيا من المرشحين جمع 100 ألف توقيع وتقديمها للجنة الانتخابات المركزية، التي تبتُّ في هذه التواقيع وتوافق أو ترفض ترشّح الأشخاص. وبالطبع، ولأن هذه اللجنة كما البلاد بأسرها تحت حكم لوكاشينكو، فإنها قامت هذا العام برفض ترشّح فيكتور بابرييكا (Viktar Babaryka)، الذي عُدَّ حتى وقتٍ قريب زعيم المعارضة البيلاروسية، وأيضاً رُفض ترشّح فيرلاج تسيبكالو (Valeryj Capkala)، السفير السابق لبيلاروسيا في واشنطن، والذي يحظى بتأييدٍ كبيرٍ من المعارضة. وقد ظنّ نظام لوكاشينكو أنه، بإطاحته بهذين الخصمين القويين بطرق «شرعية»، قد نجا كما في كلّ المرّات السابقة. وبالتالي، وبالإضافة إلى رفض ترشّح بعض المرشحين المستقلين واعتقال المئات من المتظاهرين، بدا أنه من الممكن تقبّل النساء كمنافساتٍ في هذه الانتخابات. «دستورنا ليس مخصصاً للمرأة» كما صرَّحَ لوكاشينكو مع إعلان الترشيحات. وفيما ظنّ النظام القائم أن حضور سفيتلانا، غير المعروفة في الأوساط العامة، وغير المحنّكة سياسياً، كان لصالح لوكاشينكو ونظامه، فاجأ «الثلاثي النسائي» الجميع، وأعاد إحياء المعارضة كأداة في يد الشعب.
معركة قلب الطاولة؛ الثلاثي النسائي!
الاحتجاجات في بيلاروسيا مستمرة منذ زمن، وهي منذ العام 1997 تتصاعد في الفترة الانتخابية وتعود للركود بعدها، ولهذا فإن معارضي نظام لوكاشينكو يتّكئون على زمنٍ طويلٍ من الحراك السياسي المعارض المُتراكم، وهذا يعني بشكلٍ أو بآخر أن جميع المدافعين عن الحياة الديمقراطية الحرة هم بشكلٍ من الأشكال على تماس مع الحياة السياسية في بيلاروسيا لأنها جزءٌ من الحراك العام، وبالتالي فلا يمكن نفي الوعي السياسي عن سفيتلانا رغم أنها ليست سياسيّةً بالمعنى الحرفي للكلمة.
ومع تغيّر مسارات الانتخابات عبر الاعتقالات المتتالية، تغيّرت الخارطة السياسية المعتادة في البلاد، إذ قامت ماريا كوليسنيكوفا (Maria Kolesnikova)، مديرة حملة فيكتور بابرييكا الانتخابية التي أُجهِضَت في مهدها، بالتحالف مع سفيتلانا، وذلك بعد اعتقال فيكتور وابنه دون وجه حق. المرأة الثالثة التي ظهرت في حملة سفيتلانا الانتخابية هي فيرونيكا تسيبكالو (Veronika Tsepkalo)، زوجة فاليرج سفير بيلاروسيا السابق في واشنطن، الذي، مع رفض ترشّحه، هرب إلى روسيا خوفاً على حياته.
الثلاثي النسائي قدّم صورةً مختلفةً عما يمكنها أن تكون المعارضة السياسية في بيلاروسيا، إذ خاطب الجميع بخطابٍ واضحٍ وصادق، وأعلنت سفيتلانا أنها ستتنحى بعد ستة أشهر من فوزها بالانتخابات؛ مهلة يتم فيها الإفراج عن كلّ المساجين السياسيين، وحينها ستُنظّم في البلاد انتخاباتٌ نزيهةٌ صادقة. «لم يكن بإمكان أيٍّ من العلماء والمحللين السياسيين أن يتخيل أنه في خطّ النهاية من هذه الانتخابات، ستواجه ربّة منزلٍ مثل هذا الزعيم القاسي غير المرن، هذا المستبد البيلاروسي» حسب توصيف المحلل السياسي ألكسندر كلاسكوفسكي. وبالتالي، كان شكل الحملة، التي أعلنت أنّها حملة ضد نظام لوكاشينكو وليست حملة انتخابية بالمعنى التقليدي للكلمة، أمراً جذب كل فئات الشعب في بيلاروسيا ليلتفّوا حول هذا الثلاثي النسائي.
ثلاث نساء، جميعهنّ تضرّرن بشكلٍ مباشرٍ من الاستبداد المُسيطر على البلاد، وجميعهنّ ظهرن على الساحة العامة بسبب غياب شركائهنّ الرجال الذين كانوا هم الفاعلين الأساسين. وهكذا قادت الظروف المختلفة هؤلاء النساء الثلاث ليكنّ في مواجهة الديكتاتور الأوحد في البلاد؛ ثلاث نساءٍ لم تؤخذ أيٌّ منهنّ على محمل الجد، قمنَ بتجسيدٍ واعٍ ومختلفٍ للفكر النسائي القيادي في الحياة العامة. صورة النساء الثلاث وهنَّ يرفعن أيديهنّ منتصرات، كانت هي الصورة الأيقونية للحملة الانتخابية التي أعادت إيمان أناس كثيرين بإمكانية التغيير. وكما صرحت سفيتلانا لاحقاً من منفاها في ليتوانيا: «لم ينتخبوني أنا، انتخبوا فكرة الحرية، انتخبوا شيئاً رمزياً أكبر مني شخصياً».
النساء في القيادة!
رغم شيوع وجود النساء في مناصب قيادية في العشرين سنة الأخيرة، ورغم أنهنَّ بدأنَ يتمكّنَّ من مزاولة العمل السياسي الاحترافي بالمقارنة مع التعقيدات والصعوبات في مراحل سابقة من التاريخ، إلا أن أرقام عدد النساء الممتهنات للسياسية لا تزال ضعيفةً ومحدودة. وقد قُدِّرَت نسبة تمثيل النساء في البرلمانات حول العالم لعام 2020 بـ 24.9 في المائة، وهي على ضآلتها تمثل ارتفاعاً ملحوظاً عن نسبة 11.3 عام 1995. في حين أن شبكة القيادات النسائية السياسية، في دراسة بحثية لها صادرة عام 2015، أوضحت أنّ العقبات ما تزال كبيرةً أمام التمثيل النسائي البرلماني، لأسبابٍ تتلخّص في الأدوار الجندرية المُحدّدة مُسبقاً لكلٍّ من المرأة والرجل، حيث «تميل السياسيات إلى بدء حياتهنّ المهنية في وقتٍ لاحق، وإنجاب عددٍ أقل من الأطفال، وقضاء وقتٍ أطول في رعاية أسرهنّ، وترتيب حياتهنّ لقضاء أوقات تنقّل وسفر أقصر من نظرائهنّ من الرجال. ويبدو أن النساء اللواتي يترشّحن للمناصب هنّ فقط من لديهنّ أسرٌ داعمة، في حين أنّ الرجال هم أكثر قابليةً للترشح على الرغم من تثبيط أسرهم». مع التأكيد على حوادث العنف ضد النساء القياديات، حيث أنه من 39 دولة، أفادت 44% من النساء العاملات في السياسة أنهنّ تلقّين تهديداتٍ بالقتل أو الاغتصاب أو الاعتداء أو الاختطاف، بينما خُمس هؤلاء النساء صرَّحنَ بأنهنَّ تعرضنَ للعنف الجنسي، فقط لأنهنّ نساء في مناصب قيادية.
ومن المعروف أيضاً أن كل هذه الأدوار تتكسّر مع النزاعات والحروب، والفوضى السياسية، وتحتلّ المرأة دائماً في تلك اللحظات المفصلية مواقع القيادة والفاعلية، كما تشير إحصائيات برلمان رواندا عام 2015، إذا تشير إلى وجود 64% من النساء القياديات في البرلمان، وهذا أثرٌ واضحٌ لما تركته الحرب في تلك البلاد من دمار وخسائر بشرية، اضطُرّت فيها النساء للتحوّل لقياديات من أجل النهوض بالبلاد.
وعليه، فإنّ ما حدث في بيلاروسيا هو أمرٌ متّسقٌ مع الحالة العامة التي تصبح فيها النساء قياديات كحالةٍ إنقاذية وكفعلٍ نابعٍ من احتواء الموقف. وفي حين يمكننا مناقشة جوانب هذه الفكرة السلبية والإيجابية بإسهاب، إلا أنّه يمكننا أيضاً مناقشتها من مبدأ التعامل مع الواقع، بمعنى أنه، وإذا كانت الظروف الاستثنائية السيئة هي إحدى عوامل خروج النساء من التصنيفات المفروضة عليهن، فإن ذلك لا يعني بأيّ شكل استمرار آليات التعاطي معهنّ كظروفٍ استثنائية، وعليه فإنّ ما يحدث اليوم مع سفيتلانا من اهتمامٍ أوروبيٍّ وعالميٍّ بقضية بلادها هو نوعٌ من العنصرية البيضاء الإيجابية نحو امرأةٍ تُذكَرُ دائماً كوجهٍ مؤقّتٍ للحراك البيلاروسي، وهذا ينعكس أيضاً على شخصيتها وقدرتها على التعبير عن نفسها. ربما فعلاً هي لا تريد الرئاسة، وربما فعلاً هي نتيجةٌ لفوضى عارمة في الحراك العام في البلاد، ولكنّها بالتأكيد تملك مقوماتٍ دفعت حوالي خمسة ملايين ناخب للتصويت لها.
يمكن إسقاط هذا الجانب من الحالة البيلاروسية على النساء في سوريا اليوم، طبعاً مع الانتباه لاختلاف البنية السياسية، أو حتى آليات العنف، إلا أن المشابه الأساسي، أو ما يثير اهتمامي هنا، هو الصورة النمطية التي تضع النساء القياديات كحالة طارئة، حين يصبح التركيز فقط على ظروف وصولهنّ إلى ما هنَّ عليه؛ حيث أنّ الكثير من المبادرات والحِراكات والمنظمات السورية المدنية الجديدة تلعب فيها النساء السوريات دوراً محوريّاً وفعّالاً. وربما يكون الظرف الحالي قد سرَّعَ من وتيرة هذا الدور، لكنّه ليس مسببه، ونسيان ذلك هو إجحاف بحقّ ما ينجزنه، لأن التحدّي الصعب في الحقيقة هو الحفاظ على هذه الأدوار الجديدة، وبالتالي فإنّ التفكير بالسياق كفاعل لإنجازاتهنّ، يسمح بسهولة بخسارة كل ما يحققنه في لحظة انتهاء مُسبّبات الظرف العام.
النسويات القياديات في العالم لسنَ لحظةً طارئةً وعابرةً ضمن ظروفٍ خاصة ومختلفة؛ هنَّ فاعلاتٌ حقيقياتٌ في تشكيل العالم اليوم، وعلى الرغم من الطرق الكارثية التي نراها في تعاطي بعض الأطراف معهنّ، إلا أنه من المهم دوماً دفع النسويات الاستثنائيات ليصبحنَ جزءاً من القاعدة، ولتصبح النساء كفاعلات قياديات حالةً عاديّةً في المجتمع، ما سيسمح لنا فيما بعد بمناقشة مضمون أفعالهنّ وأفكارهنّ عبر السؤال والتفاعل فيما يُرِدنَ القيام به، والتوافق أو الاعتراض بناءاً على ما يقدمنه من أفكار، وليس على أدوارهنّ الجندرية.