كان لبنان خلال السنوات السابقة معبراً أو ملجأً لمئات آلاف السوريين الساعين للنجاة بأنفسهم وعائلاتهم، أو اللاجئين والمغتربين السوريين الراغبين برؤية ذويهم المقيمين في سوريا، نظراً إلى قلة الأماكن التي يستطيع حامل الجواز السوري قصدها. وبينما يضيق لبنان بأهله أنفسهم أكثر فأكثر، كان يضيق أيضاً أكثر فأكثر بزواره واللاجئين إليه من السوريين.

تغيّرت مراراً القوانين الناظمة لحركة السوريين الراغبين بالدخول إلى لبنان أو الإقامة فيه، وبعد أن كان السوري يستطيع الدخول إليه بسهولة، صارت المسألة أكثر تعقيداً بكثير منذ العام 2014 مع فرض قيود وشروط عديدة. ثم جاء فيروس كورونا وبعده انفجار مرفأ بيروت الرهيب، ليؤدي ذلك إلى شطب لبنان من قائمة البلدان التي يستطيع أو يرغب السوري المُغترب أو اللاجئ بدخولها، فضلاً أن عن كثيراً من اللبنانيين أصلاً بدؤوا بالرحيل إلى وجهات أخرى، راسمين بذلك الصورة الأكثر قتامة لبلدهم المنكوب.

المعبر الأخير

يحتاج كثير من السوريين إلى دخول لبنان من أجل زيارة أقاربهم، أو السفر عبر مطار بيروت، أو بغرض مراجعة السفارات وقضاء الأعمال. وكان ينبغي على السوري الراغب بدخول لبنان من سوريا، قبل كورونا، أن يمتلك حجزاً فندقياً أو تذكرة طيران، وأن يحمل معه مبلغ ألفي دولار أميركي، إذا كان يرغب بالسياحة أو زيارة أحد الأقارب، وكانت هناك شروط مختلفة وفقاً لغرض الدخول، حددها وضعها الأمن العام اللبناني لتنظيم دخول السوريين إلى لبنان. فيما يحتاج السوري القادم من بلد آخر إلى إقامة سارية المفعول في البلد الذي يقيم فيه، علماً أن السوريين اللاجئين في دول أخرى، كالدول الأوروبية، لا يُمكنهم الدخول على وثيقة السفر التي تقدمها بلدان اللجوء في أوروبا أو كندا إلا بعد الحصول على فيزا يكاد يكون تحصيلها مستحيلاً، بل يحتاجون إلى استخدام جواز سفرهم السوري، وهو الأمر الذي قد يؤثّر على ملف اللجوء الخاص بهم حيث يقيمون. وعلى أي حال، لا يستطيع السوري الذي ذهب إلى أوروبا عبر طرق التهريب دخول لبنان على الإطلاق، وهي حالة أغلب اللاجئين السوريين في أوروبا.

لكن الأمور اختلفت بعد جائحة كورونا، إذ تم تعديل الشروط التي يستطيع السوري بموجبها الدخول إلى لبنان، ليقتصر ذلك على حاملي الإقامات الصالحة وذويهم، والراغبين بالعبور عبر لبنان قبل 24 ساعة من موعد رحلتهم، شريطة وجود اختبار يؤكد عدم إصابتهم بكورونا خلال مدة لا تتجاوز 48 ساعة، صادر عن مختبرات رسمية سورية. وطالبت المديرية العامة للطيران المدني عدم السماح للسوريين بالسفر إلى لبنان من بلدان أخرى دون وجود اختبار كورونا بنتيجة سلبية خلال مدة 96 قبل الرحلة. إضافة إلى اشتراط وجود موافقة من السلطات السورية لنقل الذاهبين إلى سوريا عبر لبنان، باستثناء اللاجئين الفلسطينيين في سوريا والعاملين في المنظمات الدولية والبعثات الدبلوماسية.

أدت كل هذه التشديدات إلى عزوف كثير من السوريين عن التوجه إلى لبنان لرؤية ذويهم، وبحسب سيدة من دمشق (رفضت ذكر اسمها)، فإن اختبار كورونا الضروري لدخول لبنان «يكلّف نحو 100 دولار، أي أكثر من 200 ألف ليرة سورية، وهذا مبلغ يكاد السواد الأعظم من السوريين يعجز عن تأمينه بسبب الأوضاع الاقتصادية المتردية وانهيار الليرة، فضلاً عن أن هناك مخاوف كبيرة من الإصابة بالفيروس في هذه المراكز التي قد تكون مزدحمة، خاصة في ظل تعتيم النظام على الأرقام الحقيقية للمصابين وضعف القطاع الطبي».

التضييق وفوضى الكارثة

وقد تحدثتُ إلى شاب سوري مقيم في تركيا، رفض ذكر اسمه خشية خسارة الأمل القليل في دخول لبنان لاحقاً، وهو يقول إنه عزف عن الالتقاء في لبنان بعائلته المقيمة في سوريا، بعد أن كان يخطط لهذا اللقاء منذ شهور، وذلك بسبب الفوضى في مطار بيروت والتضييق الذي واجهه مراراً في زياراته السابقة، ويخاف أن يكون مُضاعفاً بعد جائحة كورونا والتفجير الرهيب الذي حصل في المرفأ، مشيراً إلى أن «خسارة لبنان كمكان أخير للالتقاء بالعائلة قد تكون أمراً دائماً، لأن ذلك مقرون بالوضع السياسي السائر نحو الأسوأ».

يوضح الشاب: «عانيتُ كثيراً في السابق بسبب إجراءات الدخول إلى لبنان، حيث تم توقيفي في المطار لساعات أكثر من مرة بسبب ما قالوا إنه تشابه أسماء مع أحد آخر. وهذا، منطقياً، أمرٌ كان يجب حلّه من المرة الأولى بعد التأكد أنني لست ذلك الشخص، إلا أن توقيفي تكرر نحو خمس مرات مختلفة، ولساعات طويلة. والمشكلة أنه في كل مرة كان موظفو المطار يكتبون بالحبر وباللغة العربية على جواز سفري، وهي ملاحظات تثير حفيظة موظفي المطارات الأخرى لأنها غير مفهومة. لقد تكرر الأمر ذاته أكثر من مرة، ولا أعرف إن كانت هذه مجرد فوضى وسوء إدارة، أم أنها فوضى ممنهجة أو تضييق مقصود يتماشى مع السياسة الواضحة التي ينتهجها النظام اللبناني في التضييق على السوريين».

يقول إنه كان يخطط للذهاب إلى لبنان كي يلتقي بوالدته، التي كانت تخطط بدورها للقدوم إليه من سوريا، لكن تعقيد الإجراءات المتعلقة بفيروس كورونا وكلفتها، وحتى خطورتها المحتملة، كانت تدفعهما إلى التردد، ثم «جاء تفجير المرفأ الذي نسف هذا المخطط تماماً، لأننا لا نعرف تبعات هذه الحادثة والتشديد المصاحب لها والمشكلات التي قد تنشأ عنها، خاصة بعد فرض حالة الطورائ في بيروت»، متابعاً: «لبنان يغادره حتى أبناؤه اليوم. لقد احترقت المساحة الوحيدة التي كنّا نراهن عليها في المنطقة تاريخياً، واحترق بذلك أيضاً المكان الوحيد الذي يستطيع فيه السوري أن يرى أمّه».