تتكرر بخصوص إعلان العلاقات بين الإمارات إسرائيل تعبيراتٌ منفعلةٌ عن الغضب والإدانة، سبق أن سُمِعَ ما يشبهها بخصوص الصلح المصري الإسرائيلي، وبقدرٍ ما بخصوص اتفاقَي أوسلو ووادي عربة. وتُعطي المواقفُ التي يُتاح للمرء متابعتها في وسائل الإعلام الانطباع بأن ما يتقابل مع المُرَاضَاة الإماراتية لإسرائيل هو رفضُ المُرَاضَاة أو ممانعتها، دون محتوىً إيجابي يمكن تبينه للرفض أو الممانعة. أكثر من أربعين عاماً من انحصار الخيارات في مواجهة القوة الإسرائيلية المتفوقة والعدوانية، بين «تطبيع» يُحصِّنُ مواقع أطقم حكم غير منتخبة عبر التقرب من «الغرب الصغير» في الشرق الأوسط؛ إسرائيل، وبين ممانعة لا تنتفع منها غير أطقم غير منتخبة بدورها، تكفي للقول بأن التراكيب السياسية القائمة في المجال العربي لا تقود إلا إلى أحد هذين الخيارين أو الآخر.
يُفوِّتُ الخياران على حد سواء جوهر المشكلة مع إسرائيل: كيانٌ مسلحٌ حتى الأسنان، معتدٍ وقائم على الإبادة السياسية، بؤرة للتمييز والامتياز والعنف، وقوة لم تُرِد يوماً أن تكون طبيعية كي يكون للكلام على تطبيع العلاقات معها أي معنى. لا تستطيع تشكيلات حاكمة تحكم بالإبادة السياسية، وتثابر على فلسطنة محكوميها، ولا تتوفر فيها أي آليات تغيير ذاتية، وتتطلع إلى حكم أبدي، إلا أن تتراوح بين مراضاة إسرائيل (ورضا أميركا)، أو موالاة قوة نافذة تحميها، إن لم تكن إسرائيل فهي إيران، وإن لم تكن إيران فهي روسيا.
ليس ما يَحولُ دون التسليم لإسرائيل هو ممانعة كاذبة سلّمت نفسها والقضية العربية لإيران، بل تحويل جوهري في البيئات السياسية في مجتمعاتنا، ينقل مركز السياسة والمداولات السياسية إلى داخل كل منها وإلى تفاعلاتها فيما بينها، بدل الدوران المستمر حول إسرائيل وحُماتها الأميركيين. كانت الثورات العربية جهداً في هذا الاتجاه؛ امتلاك السياسية وإقامة عمق اجتماعي داخلي لها، وتوسيع قاعدة التفكير والتقرير في الشؤون العامة. تحطمت الثورات بطرق متنوعة، كان من بينها همّة إيرانية قوية بخصوص سورية، ودعم إماراتي سعودي بخصوص مصر، وشراكة إيرانية إماراتية سعودية في تدمير اليمن.
المراضاة الإماراتية لإسرائيل جزءٌ من عملية تَحوّلٍ جاريةٍ في العالم العربي، من أبرز ملامحها المرئية تحول الثنائي الخليجي، المحافظ والمتحفظ، السعودية والإمارات، إلى قلاع هجومية للرجعية في العالم العربي، معادية للثورات والتغيير السياسي، وساعية إلى الاستقرار وتثبيت الأنظمة الأوليغاركية. تعرض الإمارات بالذات وجهاً إمبريالياً تابعاً إذا جاز التعبير، تضرب في اليمن وليبيا، وتدعم بشار الأسد والسيسي، ولعلّها تسند نفسها بإسرائيل لتحصين هذا الدور الإقليمي الضارب. ومنها سياسة محاور نشطة في الخليج والمجال العربي، تقودها السعودية والإمارات، وتتبعهما مصر، والكل في علاقة طيبة أو تطيب مع إسرائيل، وهذا مقابل محور قطري تركي يلتئم حوله إسلاميون وقوميون عرب ومعارضون سوريون. والمفارقة أن المحور الإماراتي السعودي يعرض وجهاً عدائياً للإسلاميين، ويعرض نفسه كمحور للحداثة والعلمانية في المجال العربي، وينال بالفعل الثناء على ذلك من قبل مثقفين شهود زور. ومن عناصر عملية التحول اختراقٌ عدوانيٌ واسع النطاق للدولة الإيرانية التي تجمع بين القومية الفارسية والمذهب الشيعي، وَصَلَ عبر سورية العراقَ الذي وقع بيد طهران بعد الاحتلال الأميركي بلبنان الذي يحكم حاكميه حزبٌ تابعٌ لدولة الملالي. ومنها اختراقٌ عدوانيٌ وعنيفٌ من قبل دولة عدوانية أخرى، روسيا، تجمع بين القومية الروسية والمسيحية الأرثوذكسية، وبين شراكة إيران في حماية حكم الأسديين وعلاقة حب مع إسرائيل. ومنها بالخصوص مصير سورية الذي يجمع بين تحطم واسع النطاق وبين وقوعها تحت خمسة محتلين، ومع استمرار حكم الكارثة الأسدي بعد كل ذلك.
الإمارات دولة غنية، خلافاً لمصر والأردن والسلطة الفلسطينية، وهجوميتها الراهنة يمكن أن تتسبب بكثير من الدمار في المجال العربي، دمار يصلح اليمن واجهة عرض له. والتحالف مع كل من السعودية ومصر، واليوم إسرائيل، ومع علاقات طيبة مع الحكم الأسدي، نذيرٌ بالمزيد من السيء نفسه. لا يستطيع هذا الحلف الفاسد أن ينتصر مهما فعل، ليس لديه ما يقدمه لأكثر من مئتي مليون من السكان في نطاق ضرباته، لكنه يستطيع أن يتسبب بكثير من الدمار. وهو لا يفعل غير ذلك اليوم، ولن يفعل غيره غداً.
ومثلما أن ما يتقابل مع التحالف الإماراتي الإسرائيلي ليس ممانعة فوقية، متمركزة حول إسرائيل بالقدر نفسه، فإنه لا يتقابل مع المحور السعودي الإماراتي محور قطري تركي ليس بين أولوياته ما يتصل بنقل مركز السياسة إلى دواخلنا الاجتماعية. وليس في هذا التقابل العقيم إلا ما يسهل الاختراق الإيراني الطائفي والعنيف، المعني بتثقيل وزن إيران في الإطار الشرق أوسطي والدولي.
مَرَّت علينا في المشرق العربي أيام سوداء كثيرة، تبدو الأيام الراهنة من أكثرها قتامة. إنه زمن هزيمة الثورات، وهجوم أقوياء أغنياء فاسدين حتى نقي عظمهم. هناك شيء واحد على الأقل نستطيع القيام به: ألا نندرج في استقطابات فاسدة، في سياسة محاور كيدية وقليلة العقل. ثم هناك غير ذلك مما هو أساسي: أن يكون كلٌّ منّا التغييرَ الذي يريد أن يراه في العالم، على ما نصح غاندي يوماً.