حلب، حلب الحقيقية، حلب المسلمة، القاسية والعصية على الفهم، والممتدة بين القلعة والصحراء، لا تسلم سرها.
– الروائي الفرنسي بيير لامازيير في كتابه مسافر إلى سوريا بعد زيارته المدينة في زمن الانتداب الفرنسي.
محاولةُ فهم مدينة حلب تصطَدِمُ على الدوام بضخامة كل ما يتعلق بها؛ من تاريخها الذي يقاس بآلاف السنين وجغرافيتها الشاسعة، وبشكلٍ خاص ديمغرافيتها والمجتمع الحلبي الذي يعيش ضمن أحيائها التي تشكل متاهةً يصعبُ فكّ أسرارها. مدنٌ داخل مدينة، أحياءٌ تضمّ أحياء أصغر وأزقة تتفرع إلى ما لا نهاية، هجراتٌ لا تتوقف من المحيط القريب والبعيد، وهجراتٌ بالاتجاه المعاكس، فرضتْ على الباحث عن أسرار المدينة تجميع أكبر قدرٍ ممكنٍ من قطع الأحجية المتناثرة حول قلعة حلب، في كل الجهات، في محاولة للوصول لأكبر قدر من الفهم لأسرار المدينة.
يمكننا تصنيف قطع هذه الأحجية الحلبية على عدّة أسس، أبرزها أصلُ سكان الحي فيما إذا كان من الريف أو من أبناء المدينة، أو على أساس الوضع الاقتصادي الذي يُفرُز المدينة إلى أحياء للأغنياء وأخرى للفقراء، وهناك أيضاً العامل الديني الذي يعطي صفة «الأحياء المسيحية» لبعضها، بينما لا حاجة لاستخدام أي وصف لأحياء الغالبية المسلمة. كما أن العامل العرقي يفرض تمييز ثلاثة أحياء في المدينة بأنها «أحياء الأكراد». وكذلك هناك تاريخ بناء هذه الأحياء بين القديمة والتي بنيت حديثاً على مراحل. لسنا هنا في صدد البحث في هذه العوامل، بل للحديث عن حيّ استطاع أن يتفرّد كحالة خاصة في المدينة اجتمعت فيه ميزات لم تجتمع في أي حي آخر، ومحاولة لالتقاط بعض الذكريات المتناثرة والملاحظات المدونة على عجل عن قطعة فريدة في الزاوية الغربية الجنوبية لهذه الأحجية.
الحمدانية أكبر حي في مدينة حلب من حيث المساحة بأكثر من 8 كيلومتر مربع، وأكبر من العديد من المدن السورية التي تعدّ مراكز لمحافظات. بدأ البناء في الحي الأول منه في سبعينيات القرن الماضي ليكون سكناً لضباط الجيش السوري، وفي وقتٍ لاحقٍ بُنيت الأحياء الثاني والثالث والرابع. والسكان في الحيين الثاني والثالث من مختلف فئات العاملين بالدولة ومن غير العاملين أيضاً، بينما كانت منازل الحي الرابع مخصصةً لضباط الجيش بشكلٍ مشابهٍ للحي الأول. مع مرور الزمن، وتوالي عمليات نقل ملكية المنازل، انخفض تركّز ضباط الجيش في الحيين الأول الرابع إلا أنها بقيت سمةً طاغيةً على سكانهما. الحيان الثاني والثالث بُنيا بواسطة مؤسسة الإسكان العسكري لصالح مشاريع الادخار السكني وغيرها من المشاريع التي غالباً ما تكون مخصصة لموظفي القطاع العام. وقد اشتكى أصحاب الأراضي الزراعية التي جرى استملاكها لبناء الحي بأنهم تلقوا تعويضاتٍ قليلةً جداً، لا تقترب من القيمة الحقيقية للأراضي. استمرّ حي الحمدانية في التوسع في الألفية الجديدة، ليمتدّ الحي الرابع ويضم إليه مشروعي 606 والـ 3000 شقة. وفي وقتٍ لاحقٍ بدأ بناءُ ما بات يعرف بالحمدانية الجديدة، التي تضم مشاريع الريادة الثلاث ومشروع 1070. كما يعتبر حي ضاحية الأسد جزءاً من الحمدانية، وهي عبارة عن فيلات باهظة الثمن، وبكل تأكيد لا يستطيع العاملون في الدولة اقتناءها، كما لا يفوتنا الإشارة إلى أكاديمية الأسد للهندسة العسكرية، والتي تقع ضمن حدود حي الحمدانية في القسم الغربي منه.
غالبية الشقق في الحمدانية صغيرة إلى متوسطة المساحة بين أقل من 100 متر والـ150 متر مربع، وتضمُّ ثلاث إلى خمس غرف؛ فيما عدا ضاحية الأسد وكذلك مشروع 606 اللذين قد تفوق مساحة الفيلا أو الشقة فيهما الـ200 متر بكثير. ارتفاع الأبنية في الغالب هو أربعة أو خمسة طوابق، ويمكن استثناء ضاحية الأسد التي لا تتبع نظام الشقق وبرجيّات الروس الستة في الحي الأول، والثلاثة في الحي الثالث -أحد المظاهر المميزة للحمدانية بطوابقها الاثني عشر- وكذلك أبنية الحي الثاني التي تمتد إلى سبعة طوابق. يتميز الحي بتنظيمٍ ممتاز وتوفّر المرافق العامة، ووفرة الحدائق ومواقف السيارات بين الأبنية. كما أنّ الخدمات المتوفرة فيه تعتبر من الأفضل على مستوى مدينة حلب.
يحيطُ بالحمدانية ثلاثة أوتوسترادات، تفصلُها بشكل كامل عن باقي أحياء المدينة؛ هي المتحلق الغربي وطريق المطار، والطريق الواصل بين دوار الموت ومركز مدينة حلب. الأمر الذي يعزِلُ الحيّ عن باقي أحياء المدينة، ويقلل بشكل كبير الاختلاط العرضي بين السكان. قد يفسرُ هذا الأمر بشكل رمزي قلة المعلومات عند سكان المدينة عن الحمدانية، وكأنها تقع في محافظة أخرى أو في الريف البعيد.
انتقلتُ إلى حي الحمدانية عام 1994 وسكنت في الحي الثالث ضمن شارع المروءة المواجه لمدرسةابن البيطار، بعد أن قرّر أبي أنّه لن يستطيع العيش في القرية التي يضمحلُّ فيها الفرد وتختفي شخصيته وخصوصياته في عموميات العائلة. بدأت الدراسة في الصف الثالث الابتدائي في مدرسة ابن البيطار قبل أن يتم نقلنا بعد أشهر قليلة إلى مدرسة عدنان المدني، النقل كان سيراً على الأقدام بين المدرستين وبلباسنا المدرسي البني تحت إشراف معلماتنا بعد أن تمّ الانتهاء من بناء الابتدائية وتخصيص ابن البيطار لطلاب الإعدادي والثانوي. أكملتُ دراستي الإعدادية والثانوية في مدرسة ابن البيطار إلى حين أنهيتُها عام 2004، ولأتعرّف بعد ذلك على فضاءٍ أوسع لمدينة حلب متمثلاً في الجامعة والبلد وغيرها. قبل ذلك بعام، كنا قد سكنّا في الحي الرابع، لأغادر الحي عام 2012 بعد أن أصبح ساحة صراعٍ واختفى هامش التساهل مع المعارضين من أبناء محافظة حلب، والذي كان النظام قد تركه بعد انطلاق الثورة.
أمضيتُ في الحي عمراً منذ السابعة وحتى الخامسة والعشرين، شكّل الكثير من هويتي وفرض عليّ احترام الآخر المختلف الذي كنت أعيش بالقرب منه، وعلمني الكثير عن الدولة السورية وأروقتها وكيف تسير وكيف يتم اتخاذ القرارات فيها، والمدى الذي توغّلَ فيه نظام الأسد في أصغر تفاصيل حياتنا. عن الأبواب التي لا تغلق بوجه أصدقائنا المدعومين، وعن قسائم البنزين والمازوت التي لا تنفد، وعن السيارات التي أعطاهم مفاتيحها الـ«بابا» ليذهبوا فيها إلى المدرسة ويتجولوا بها ذهاباً وإياباً على الخط. الخط الذي يعرفه جيداً كل من ارتدى بدلة الفتوة ولاحقاً البدلة الفضية في ذلك الحي، والذي كان عبارةً عن الطرقات الرئيسية التي تقود الطلاب إلى ثانوية ابن البيطار للبنين وثانوية أحمد فطيمي للبنات، أكبر مدرستين في الحي. يرتبط الخط بشكلٍ وثيقٍ بالنسبة لمن درس في هذا الحي بالغراميات الأولى والمشاكل التي لا تنتهي مع الأهل بسبب التأخر عن المنزل والتراجع في المستوى الدراسي.
في الحمدانية فتحت عيوني على الزيارات التي تلي أعياد الفطر والأضحى والفصح والميلاد، والتي كنا نتبادلها مع بيت جارنا المسيحي ابن مدينة صافيتا، الذين كان باب منزلهم مواجهاً لبابنا؛ وعلى النقاشات التي كان يجريها هو وأبي في شرح آيات القرآن والإنجيل. كان ذلك أمراً عميقاً في وجداني لن تستطيع الطريقة المبتذلة للمسلسلات ووسائل الإعلام السورية الاقتراب منه مهما أصرّت على وضع رجل الدين المسلم والمسيحي بجانب بعضهم في كل الأحداث اليومية.
كان الحي يضمُّ خليطاً سورياً مميزاً وفريداً من نوعه على مستوى مدينة حلب. أغلبية سكانه من الموظفين في الدولة السورية، وخصوصاً في قطاع الجيش. ينحدرُ قاطنو هذا الحي من مختلف المحافظات السورية الذين اجتمعوا هنا بعد أن شاءت الصدف أن يكون مكان وظائفهم مدينة حلب، الأمر الذي قلّل بشكلٍ كبيرٍ احتمالَ ارتباطهم فيما بينهم بروابط القرابة أو القومية أو الدين أو المناطقية، ما جعل منه مكاناً مناسباً للهاربين من تلك العلاقات في الأحياء التقليدية القديمة في المدن والقرى. حتى أعداد الحلبيين في هذا الحي كانت قليلةً مقارنةً بعدد سكان المدينة، ولا توحي بأنه يقع في مدينة حلب. سكان هذا الحي قاموا بالانفصال عن مجتمعاتهم قبل الانتقال للمكان الجديد، وربما هربوا منها إلى مجتمع المدينة. لم تطغ هنا المجتمعات التي قَدِمَ منها هذا الخليط على المشهد، بل بقيت هناك في المكان الذي قَدِموا منه.
لا يمكننا القول إنّ الانفصال بين المجتمع الأصلي والمجتمع الجديد لسكان حي الحمدانية قد تحقّق بشكلٍ نهائي، بل هو في الحقيقة خطوةٌ على طريق الانفصال كانت بحاجة لتعاقب أكثر من جيلٍ للوصول إليه. فسكان الحي بغالبيتهم العظمى يمتلكون منازل في قراهم أو مدنهم أو أحيائهم الأصلية، وإن لم يكن ذلك فعلى الأقل لدى أطفال الحي «بيت جد» في تلك المناطق. هذه الحالة الانتقالية بين مجتمعين مختلفين تظهر جلياً في عيدي الفطر والأضحى المُخصصين بشكلٍ شبه كاملٍ للموطن الأصلي، فمع بدء عطلة أحد العيدين يتحول الحي إلى مدينة أشباح بسبب سفر غالبية سكانه لقضاء العطلة وبقاء القليل منهم، قبل أن تعود الحياة إلى مجاريها في أول يوم دوامٍ رسميٍّ للدوائر الحكومية والمدارس والجامعات. كما أنّ المناسبات الكبرى التي تجمع العائلة تكون كذلك في الموطن الأصلي مثل اجتماعات الزفاف أو العزاء.
فيما عدا سكان ضاحية الأسد فاحشي الثراء، يشترك غالبية السكان بأنهم من ذوي الدخل المحدود والوضع الاقتصادي المتوسط المعتمد بشكلٍ رئيسيٍّ على المُرتّبات التي يتقاضونها كونهم عاملين في الدولة. ربّ الأسرة في الغالب بحاجة لموردٍ آخرٍ لسد حاجات أسرته. كما أنّ النسبة العظمى منهم متعلمون وحاصلون على شهادة الثانوية كحد أدنى مع نسبة كبيرة من الجامعيين، الأمر الذي انسحب بشكلٍ طبيعي على أبنائهم الذين تشكّل الدراسة، ولاحقاً الوظيفة في الدولة، الخطة الرئيسية لمستقبلهم. لذلك، كان المشهد اليومي في الحي مرتبطاً بشكلٍ وثيقٍ بمواعيد الطلاب والموظفين. فهو يبدأ في الصباح الباكر بازدحامٍ شديد، لدرجة أنك لن تستطيع صباحاً أن تحجز مكاناً في وسائل النقل العامة المزدحمة إلا بعد وقتٍ طويلٍ من الانتظار. هذه الحركة تتوقف تقريباً مع الساعة التاسعة، لتعود من جديد في الحادية عشرة والنصف عندما يبدأ دوام الفوج الثاني في المدارس وينتهي الأول.
إضافة إلى المواعيد اليومية المرتبطة بتوقيت المدارس والوظائف، كان هناك موعدٌ شهريٌّ مهمٌّ ساهم فيه الوضع الاقتصادي للحي، وهو رأس الشهر، موعد تسليم رواتب الموظفين، مما جعل كل شيء مؤجلاً في حياة سكان الحي إلى رأس الشهر. بالنسبة للمواعيد السنوية، كان شهر حزيران هو الشهر الذي يعيش فيه السكان على أعصابهم بسبب تزامن امتحانات شهادتي التاسع والبكلوريا معه، ولاحقاً اليومان اللذان تصدر فيهما نتائج الامتحانات وغالباً ما يكونان في شهر تموز. هذه المواعيد سوف تُحدّد بشكلٍ كبيرٍ مستقبلَ الفتاة والشاب الدراسي والوظيفي.
كما كان يوما الأول من كانون الثاني والأول من تموز من كل سنة شديدي الأهمية بالنسبة للضباط في الحي وعائلاتهم، ففي هذين اليومين تصدر قوائم الضباط الذين جرى ترفيعهم أو تسريحهم، مما يعني تغيّراً كبيراً في الوضع الاجتماعي وفي نوعية السيارات التي تكون تحت تصرفهم.
الانقسامات في الحي ترتبط بشكلٍ وثيقٍ بالمنصب الوظيفي، فهو منقسمٌ إلى عدة طبقات تتعلق بالوظيفة التي يشغلها ربُّ الأسرة. المستوى أو الطبقة يمكن تحديدها بسهولة من سيارة الأسرة، ففي حين كان هناك نسبة كبيرة لا تمتلك سيارة ولا تتنقل إلا بوسائل النقل العامة، وهم في أدنى هرم النفوذ، يليهم أصحاب السيارات الخاصة التي نادراً ما تكون غالية الثمن، مثل سيارات السكودا التشيكية أو السابا الإيرانية وبعض الأنواع الكورية المتدنّية مثل كيا ريو أو هيونداي أكسنت؛ بينما يمكننا رفع تصنيف السيارات الأعلى ثمناً إلى مستوى أرفع مع أصحاب السيارات العسكرية القديمة جداً وعلى رأسها السيارة الروسية المشهورة جيب واز، والتي يفوز بها الضباط عديمو الأهمية تقريباً في قطاع الجيش، والتي لم يكن مستغرباً أن يتشارك عليها أكثر من ضابط. الجيب واز، وإن كانت ذات هيبة في الحي، فإن أهميتها تأتي من كونها مورداً مهماً للبنزين، الذي يجري استخدامه كثيراً في السيارات الخاصة للضابط نفسه أو كهدايا لأقاربه وأحبابه، الأمر الذي جعل سحب البنزين من خزان الجيب واز وتعبئته في السيارة الخاصة مشهداً اعتيادياً في شوارع الحي.
في المستوى الأعلى نجد سيارات البيجو 405 و504 للضباط متوسطي الدعم الذي يؤثر في نفوذ الضابط أكثر من تأثير رتبته، وسيارة أوبل أوميغا ستيشن، والتي قد تشير إلى أن صاحبها يعمل مع المخابرات في الغالب؛ ليأتي بعدها في قمة الهرم سيارات المرسيدس والبي إم دبليو، التي كانت تخصّ الضباط والمسؤولين رفيعي المستوى في الحي. غالباً ما يتم تخصيص هذه الفئة بأكثر من سيارةٍ يتم استخدمها من كل أفراد العائلة.
بالطبع كان هناك انقسام طائفي لا يتم التصريح به غالباً، بل تتم توريته بالانقسام على النفوذ بالدولة، فالحي كان يعيش فيه الكثير من العلويين الضباط وغيرهم، ولا أعتقد أنهم كانوا يعيشون في حلب خارج هذا الحي. كنا نعرف جيراننا وأصدقاءنا العلويين، لكنهم كانوا بالنسبة لنا مدعومين وليسوا علويين فقط، فكل علوي في الحي هو «مدعوم» بالضرورة، وليس كل مدعوم علوي، فالدعم كان يفيض في الحي ليصل لباقي الطوائف.
أما من حيث اللهجة، فيمكنك سماع مختلف اللهجات في الحي ولاسيما اللهجة الحلبية ولهجة ريف حلب الشرقي، واللهجة التي يتميز فيها أبناء ريف حلب الغربي ومحافظة إدلب، ولهجة أبناء الساحل وحمص والسويداء، وأظن أن اللهجة الوحيدة التي كنا نفتقدها هناك هي اللهجة الشامية. حتى في الحديث الواحد يمكن سماع أكثر من لهجة، فلم يكن غريباً اتقان الشخص الواحد لأكثر من لهجة وتكلمه بها. كما أن هناك اللغة الكردية التي يتكلم بها السكان الأكراد في الحي.
مع انطلاق الثورة السورية أصابت الحي هزةٌ معنويةٌ عنيفة، شأنه في ذلك شأن كل القرى والمدن السورية. في عام 2011 لم تخرج في الحي إلا مظاهرات طيارة قليلة العدد، رغم أن الشباب في الحي كانوا من السباقين في المشاركة والتنظيم في مدينة حلب على الرغم من حراكها الضعيف ذلك الوقت، كان ذلك بسبب تعليمهم العالي ومعرفتهم الدقيقة بالدولة السورية وكيفية إدارة الأمور فيها، إضافةً إلى تأثّرهم بالحراك المُتقدّم في المناطق السورية الأخرى التي ينحدر منها عددٌ كبيرٌ من سكان الحي. غير أنّ ضعف العلاقات الاجتماعية في الحي كان عائقاً أمام التنظيم أو تأمين الحماية الكافية لكشف الوجه في حيٍّ لا يعرف الجار عن جاره، في الغالب، إلا أنه أبو محمد أو أبو علي، ولا يتبادلون فيه إلا عبارات صباح الخير والسلام عليكم. فكانت وجهة شباب الحي جامعة حلب، الوسط المناسب لتنظيم المظاهرات أو المشاركة بشكلٍ فرديٍّ في المظاهرات التي كانت تخرج في حي صلاح الدين المجاور أو في سيف الدولة.
عام 2012 وفي الوقت الذي كانت فيه المظاهرات تنتشر أفقياً وعمودياً في عموم سوريا، بدأ الحي يشهد مظاهراتٍ أكثر انتظاماً، خصوصاً أمام جامع الكاساني في الحي الرابع. كما أنّه شهد عدة محاولات ناجحة وفاشلة لاغتيال الضباط في الحي. تطوّرُ الأحداث دفع سكان الحمدانية من الأقليات، وخصوصاً العلويين منهم، إلى العودة إلى مناطقهم الأصلية بسبب التقدم المستمر لقوى الثورة على حساب قوات النظام وخشيتهم من حصول انهيارٍ مفاجئ. في تموز من ذلك العام تدهورت الأوضاع وحصل تمايزٌ كاملٌ بين مناطق الثوار ومناطق النظام، الأمر الذي أدّى إلى هجرة كل من اتخذ موقفاً صريحاً ضد نظام الأسد من الحي لصالح المؤيدين والشبيحة القادمين من المناطق التي سيطر عليها الجيش الحر. كان هذا التمايز في ذلك الوقت سبب خروجي من الحي دون أن أستطيع العودة إليه حتى الآن. شهِدَتْ هذه الفترة كذلك انشقاق العديد من الضباط من سكان الحي بعد أن وُضعوا على المحك، بينما انغمس الباقون منهم في حرب الأسد ضد السوريين. هل من داعٍ لذكر أن طائفة الضابط كانت أهم عامل في خيارات الانشقاق أو البقاء؟
المعارك كانت منذ عام 2012 على أطراف الحي، وخصوصاً معارك حي صلاح الدين. الأمر الذي جعل حي الحمدانية مكاناً يغصُّ بالشبيحة وقوات الأسد، ومركز انطلاقٍ للمدفعية التي كانت تقصف مختلف المناطق الخارجة عن سيطرة نظام الأسد، كما أنها جعلتها هدفاً لقذائف الجيش الحر، والتي أخذت مع الوقت تأخذ الشكل الممنهج، وكان غالبية ضحاياها من سكان الحي من المدنيين. خلال السنوات التالية شهد الحي مثل باقي أحياء حلب انهياراً في الوضع المعيشي والخدمي، جعلت الحياة غايةً في الصعوبة بمعزلٍ عن الحرب الدائرة حول سكانه.
في صيف عام 2016، ومع احتدام معارك حصار وفك الحصار عن أحياء حلب الشرقية، شهد حي الحمدانية انتقال المعارك من أطرافه إلى داخل حدوده، بعد أن سيطر الثوار على أكثر من قسمٍ منه لفتراتٍ متفاوتة، مثل مشروع 1070 وضاحية الأسد ومشروع الـ 3000 شقة، كما أنّ سيطرة الثوار على تجمع الكليات العسكرية في الراموسة جعلت المباني المحاذية لمتحلق حلب الجنوبي في الحي الرابع من جهة الجنوب مناطق عسكرية تنطلق منها قوات النظام في معاركها التي استمرّت شهراً تقريباً، قبل أن تنتهي باستعادتها من قبل قوات النظام، ولاحقاً السيطرة على كل أحياء حلب. في الواقع، عنى ذلك خلاصاً لسكان حي الحمدانية بعد انتهاء حالة الحرب المستمرة لسنوات، رغم أنه كان يعني امتداد سيطرة الأسد على مزيدٍ من الأراضي والسوريين وتهجير عشرات الآلاف غيرهم.
مزيجٌ من التنوع والتناقضات هو ما صنع حي الحمدانية، الذي أغلق أبوابه اليوم في وجوهنا، لكنّ قصة هذا الحي ستبقى جزءاً من قصتنا، نحن مَنْ كنا يوماً نمشي على الخط للوصول للمدرسة، ومن أجل تتبع لحظات حبٍّ صغيرة.. في الحمدانية، الحي العصي -مثل حلب- على الفهم، والحي الذي لا يبدو أنّه سيسلم سرّه الكامل إلى أحد.