لن تعلم عند مرورك بقرب مدرسة أو مؤسسة حكومية أنها مركز انتخابي، إلا حين ترى عناصر الشرطة مع سيارة أمن إلى جانب الرصيف. ولن تتذكر حتى أنه اليوم الموعود لـ «العرس الوطني» إلا عند رؤيتك العناصر الملولين عند بوابات المراكز الانتخابية، مع شخصين أو ثلاثة من المدنيين، وهم في الغالب مندوبو المرشحين أو مسوقوهم. كذلك لن يسألك أحدٌ إذا ما كنتَ قد انتخبت، حتى على سبيل السخرية، أو فتح حديث للمسايرة، أو إبداء الرأي، ولا حتى من أجل الاطمئنان بأن الحالة جمعية، وأنه ليس الوحيد الذي لا تعنيه الانتخابات، ولا يخيفه الامتناع عن المشاركة فيها.
هكذا كان مشهد انتخابات مجلس الشعب في مدينة طرطوس، التي جرت يوم الأحد الماضي، بعد أشهر من التفاقم الحاد في الأزمة الاقتصادية، والتدهور السريع والمرتفع في قيمة الليرة السورية، الذي يقف أمامه السوريون عاجزين، لا تنفعهم شتائمهم، ولا فهمهم الواضح لأسباب الأزمة الواقعة على نظامهم، الذي يحرر لهم فواتيرها ليدفعوها ثمناً لبقائه دون توضيحات. بل وحتى دون تمثيليات تُخمِدُ نيرانهم، مثل محاسبة فاسدين يصبون عليهم شتائمهم، وخاصة بعد صاعقة صور رئيس الوزراء السابق المُقال عماد الدين خميس، وهو يدلي بصوته في الانتخابات بعد إشاعات كبيرة عن محاسبته مع شلة غير قليلة من الفاسدين، تم تحميلهم أسباب التدهور الاقتصادي الحالي. كانت تلك الشائعات قد أثلجت صدور كثيرين، باعتبار أنها دليلٌ على أن هذه الدولة تعمل، ولو بشكل استعراضي، على معالجة أسباب هدر حقوقهم، وعلى محاسبة أولئك الذين يظلمون هذا الشعب، «الذي قدَّمَ ما استطاعه دفاعاً عن الوطن».
أمام هذا التدهور الاقتصادي الذي يسير بخطى حثيثة نحو الهاوية، وأمام الفروق المرعبة بين الدخل الشهري للسوريين وإنفاقهم، الذي يصل إلى أكثر من 400 ألف ليرة سوريا لتأمين المستلزمات الأساسية فقط لعائلة متوسطة، لا يستطيع «المواطن» المقيم هنا أن يتفوه بأكثر من الشتائم المتاحة «تحت سقف الوطن»، ولكن ليس خوفاً من النظام وأجهزته الأمنية، فهذا الأمر معلوم الحدود، لا بل إن بعضهم قد يكون جزءاً من جسد القمع أو يده، لكن الخوف هنا من تدهور أكبر يجعلهم يترحمون على هذه الأيام الصعبة.
لكن ذلك الخوف لم يمنع الأهالي من ممارسة حقهم في عدم المشاركة، ولكن دون كلام، دون شتائم، وكأنهم ينتظرون الإذن الذي يحدد سقف الشتائم والمحاججات الاجتماعية عن سوء الأوضاع، وخاصة فيما يحاول النظام تقديم نفسه على أنه دولة مؤسسات يُضعِفها فساد حكومتها، وتشوه صورتها حالات فردية من الفاسدين. هكذا يحاول أن يبعد النظام نفسه عن واجهة المجتمع، فهو مشغول بـ «التصدي للمؤامرة»، بينما الحكومة يجب أن تكون مشغولة بحل قضايا «المواطنين السوريين»، فيزيح عن نفسه مسؤولية العجز والتردي الكبير للمعيشة. والأهم هنا أن الأسئلة والمطالبات والمحاججات «لا تصل للقيادة العليا»، فلا يطالها السباب ولا تُكسَر رهبتها.
ورغم كل الاستقراءات الماضية الكثيرة حول أن أنصار النظام الأكثر ولاءً وانخراطاً في صفّه سيدفعون فواتير نظامهم، وسيدفعون ثمن غفلتهم عن اليوم الذي ستتنتهي فيه المناطق المتاحة للتعفيش والسرقة، وسيعودون بعدها للاتكال على رواتبهم الضعيفة، إلا أن الواقع دائماً ما يكون تراكمياً، أكثر منه نتيجة صرفة لحدث معين ومقدمات معينة، وهو ما يُبقي النظام دائماً حامل تلك الجزرة الممدودة أمام المعوزين. حتى الانتماء أصبح بعد كل ما يجري حالة عوز، يستخدمها النظام كغيره، ويبني على هويته أمجاداً وبطولات، ويعمل بشكل دائم على تجريم كل الأطراف المقابلة، لذا يصبح احتكار الحقوق البسيطة وتمريرها على شكل منح من كريم معطاء أمراً يضمن نتائج مقارنته مع غيره، ويساهم في تعزيز العصبية لدى الطرفين، التي يستفيد منها النظام، ويعززها عن طريق استثمار التوترات مع دول مجاورة بما يبعد انتباه الناس عن يومياتهم، وعن الممارسات الدائمة لقهرهم.
مع بداية هذا العام، أصدرت الحكومة السورية قراراً بمنع البيع والشراء للعقارات والسيارات إلا عبر تسديد ثمنها عن طريق البنوك، ثم جاء تفاقم تراجع قيمة الليرة أمام الدولار، وإغلاق أسواق العمل أثناء الحظر، مع غياب أي تعويض للأسر التي فقدت دخلها. ثم جاءت رواية الخلافات والصراعات التي ظهرت بين آل الأسد ورامي مخلوف على خلفية كانت بدأت الصيف الماضي، حين طلب النظام من رجال أعماله مبالغ كبيرة، لم تُؤكَّد تفاصيلها، إلا القول إنها تتعلق بضرورة دفع فاتورة مطلوبة من النظام لصالح روسيا.
يفصح هذا المشهد كلّه عن عجز كبير، يحاول النظام إخفائه، بخصوص الفواتير الكبيرة المطلوبة من جانب من الدول الداعمة له، والصامتة عنه. يتردد هذا الكلام على ألسنة كثيرين هنا في المدينة، حتى أن شخصاً قال في إحدى جلسات الشتائم والتعريض بحكومة النظام: «الخوف ياخدو كل شي من بشار، وبعدين يشيلوه، منكون أكلناها عالأخير». يعود ضمير الغائب في جملته تلك طبعاً على روسيا، بحكم أنها الضامن لبقاء النظام حالياً، وهو ما يعني أن احتمال تخلي روسيا عن الأسد حاضر في الأذهان، وحاضرٌ أيضاً في ذهن شخص آخر في الجلسة عندما قال بشأن انهيار قيمة العملة المتسارع: «ثبات الليرة وقوتها من ثبات آل الأسد في الحكم».
كل ذلك ليس بعيداً عن أعين السوريين الذي يشهدون ما يحصل بدقة أكبر نتيجة قلّة العمل، ونتيجة كثرة المنابر التي تتحدث عن التفاصيل التي أوصلتهم إلى هذا الوضع المزري، المفتوح على مجاعة قادمة إذا لم يقم النظام برفع رواتبهم كما رفع سعر صرف الدولار الرسمي إلى الضعف، حتى وإن بقي بعيداً عن سعره الحقيقي في السوق.
ويحاول إعلام النظام رمي المسؤولية على التجار، لكن الوقائع التي تكذّب هذه المزاعم واضحة. ولعلّ من أبرزها ارتفاع سعر البيض، وأسعار منتجات شركة الميماس التي تعد من أهم مؤسسات النظام، بالإضافة إلى أسعار زيوت السيارات التي تضاعفت، وهي مواد تنتجها مؤسسات حكومية، فكيف تبيع الدولة مواد تنتجها وفقاً لسعر صرف الدولار في السوق السوداء! هذه التفاصيل أوضحت للجميع، على نحو لا يمكن تجاهله، مدى ضعف الدولة التي كانت تروج لهذا العام على أنه عام الانتصار، وعام قطف ثمار الصمود.
كل هذه الظروف، جعلت من انتخابات مجلس الشعب الأخيرة مهزلة مفضوحة أمام الجميع. أما محاولات تسويقها كحدث ديمقراطي أسدي يدلّ على حيوية جمهور النظام، وعلى بقائه صامداً مقتنعاً بأحقية نظامه في الحكم، فهي لم تعد مجدية ولا ذات أهمية، حتى أن حملات المرشحين الانتخابية كانت لا تُذكر بالمقارنة مع الحملات الكبيرة في الانتخابات السابقة عام 2016. ذلك حتى في مدينة طرطوس، التي تعتبر الأكثر هدوءاً وولاءً للنظام.
على أي حال، لا يعني السياق السابق أنه بات هناك مساحة أوسع لمعارضي النظام هنا من أجل النشاط والتعبير عن أنفسهم، ولا يعني أن مناصري النظام قد تخلّوا عنه، أو أنهم قد يتمردون عليه، وذلك بالرغم من انتشار عبارات جديدة تنتقد النظام، وبالرغم من كسر حواجز عالية في النقد، بقيت ضمن المتاح الأمني دائماً.
تدور أحاديث كثيرة خلف الأبواب المغلقة في طرطوس عن أسباب الأزمة الاقتصادية، وعن وسائل الخروج منها، وربما يكون من أكثرها شيوعاً حديثٌ يقول إن هذه الأزمة لن تمر حتى تخرج إيران من سوريا، وإن خروجها هذا مطلبٌ روسي. يحمل هذا القول عزاءً لكثيرين، لأنهم يعتبرون أن النظام الإيراني لم يقدّم المساعدة الاقتصادية المتوقعة، كما يعتبرونه صاحب مشروع ديني تبشيري مرفوض من جانبهم، فيما يكثر الحديث عن شراء الإيرانيين لأراضٍ بهدف افتتاح جامعات ومراكز دينية، وهو الحديث الذي يحضر في طرطوس رغم المبالغات التي يحملها بخصوص ما يجري المدينة نفسها. يدفع هذا التحليل كثيرين، بعد إنهاء شتائمهم للنظام وحكومته وتوجهاته، إلى القول بضرورة الصبر على النظام، الذي إذا صح هذا التحليل، فإنه يكون قد وقع بين سيفين لا فكاك من أحدهما؛ السيف الإيراني والسيف الروسي، وهكذا يستنتجون أن عليهم تحمّل هذا الوضع حتى انجلاء هذه المحنة كما انجلى غيرها في رأيهم.
يَشيع هذا التحليل أكثر كلّما اشتدّ الوضع سوءاً، وإلى جانبه يتواصل إلقاء اللوم على «جشع التجار»، الذين يسلّط النظام إعلامه عليهم. وهكذا فإن من لم يستطع شتم النظام، يشتم التجار الكبار، ثم يشتم جاره صاحب الدكان الصغير الذي يخضع لسياسات التجار الكبار. هذا نموذجٌ إضافي صغير على سياسة النظام في تأليب الناس على بعضهم بعضاً، وهي السياسة التي ينتهجها في كل كبيرة وصغيرة، والتي تكفل استمرار ولاء شرائح واسعة له، رغم إدراك الجميع لوحشية سياساته وتفاهة مسرحياته الانتخابية وغير الانتخابية.