يُلاحظ أن أغلب الجهات التي تقدمها رابطة عائلات قيصر كشريكة في وثائقها هي منظمات ضحايا/ ناجين (مبادرة تعافي، عائلات من أجل الحرية، رابطة معتقلي ومفقودي صيدنايا). هل يعني هذا أن هناك عملاً على توسيع مساحة العمل والنشاط من وجهة نظر الضحايا وذويهم؟

بالضبط، رابطة عائلات قيصر هي إحدى مجموعات الضحايا السوريّة، وقد انضم مؤخراً إلينا تحالف أسر الأشخاص المختطفين لدى تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، فصِرنا خمس مجموعات. نحن نُعرِّفُ عن أنفسنا كروابط ضحايا، لأننا فقدنا أحداً يخصنا، أو لدينا أحد في المعتقل، أو ناجٍ من الاعتقال. نحن أصحاب قضية، وسنبقى مستمرين فيها حتى النهاية إن شاء الله.

هناك منظمات، مثل المركز السوري للإعلام وحرية التعبير (وهو يشرف على رابطتنا)، والمركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية، والمركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، وغيرها، تعمل بشكل حقوقي ومختص، وعلى مستويات مختلفة. ونتعاون معهم ونعمل سويةً، لا سيما على مستوى رابطتنا، إذ لدينا طموح وهدف خاص في المحاسبة، ولذلك نعمل الآن على بناء ملف قضائي وإعداده بشكل متكامل، مبني على الدليل الواضح الذي تمثّله الصور التي سرّبها «قيصر» لأبنائنا وأحبائنا.

 

هل هناك سعي لمزيد من العمل المشترك ضمن مساحات النشاط الحقوقي من منطلق الضحايا وذويهم؟

على مستوانا نحن، المنظمات الخمسة الشريكة، نسعى لتكوين علاقات وشراكات مع جهات ذات نفوذ وقرار. نسعى مثلاً لأن نكون جزءاً من مجموعة العمل المعنية بالإفراج عن المعتقلين والمفقودين. ولكي نصل إلى هذا المستوى من التنسيق، لا بد من التواصل والتعاون والتلاقي مع تجمعات ضحايا أخرى.

 

هل لدى الرابطة علاقات وتواصل مع مجموعات ضحايا من سياقات ودول مختلفة؟

نعم، مع مجموعات من دول عديدة في أميركا الجنوبية وغيرها. على سبيل المثال، نظّم البرنامج السوري للتطوير القانوني ورشات للتواصل مع مجموعات ضحايا من عدة دول، مثل البيرو، والأرجنتين، وتشيلي. ومن جهتنا كرابطة، لدينا أيضاً علاقات مع مجموعات من كولومبيا ونيبال. نهتم بوجود هذا النوع من التواصل، ونسعى باهتمام للاستفادة من التجارب الأخرى.

 

كيف ترى الرابطة دورها في الشأن العام السوري، وأين تدخلاتها وتأثيراتها الممكنة في القضية السورية، وفي الجهود السياسية؟

في الوقت الحالي، وضمن الوضع الراهن ذي الملامح غير الواضحة، تركّز الرابطة على العمل على أهدافها فقط. في المستقبل، إن حصل تغيير سياسي ما، أو مرحلة انتقالية، فبالتأكيد سيكون للرابطة، ولكل مجموعات الضحايا، دور مساهم في العدالة الانتقالية، وفي المرافعة عن حقوق الضحايا وعائلاتهم. لكن هذا حديث مستقبلي. أما في المرحلة الحالية، فقد عملنا نحن مجموعات الضحايا على إعداد ميثاق يحوي رؤيتنا فيما يخص قضية المعتقلين، وقد تم العمل على هذا الميثاق على مستوىً عالٍ، واعتُمد في العمل عليه على آراء مختصين قانونيين ذوي خبرة بالقانون الدولي. وسيتم نشر الميثاق قريباً، إذ تأخر إطلاقه بسبب الظروف التي فرضتها جائحة كورونا.

 

الرابطة تضم الذين عرفوا مصير أبنائهم المعتقلين عبر صور قيصر، وهذا منبع رضّ وصدم. هل جرى تفكير حول كيف كان يجب أن يتم التعامل مع الصور حينها، عوضاً نشرها على العلن؟

كان لظهور صور قيصر إيجابية من حيث أنها فضحت ممارسة إجرامية، وسمحت لعدد كبير من الناس بأن يعرفوا مصير أبنائهم المعتقلين بعد غياب معلومات وغياب إمكانية الوصول إليها، لكن هذا حصل بطريقة سيئة، وفجّة للغاية. من المؤلم أن أفتح موبايلي في صباحات كثيرة وأجد صورة ابني لأن أحداً قد قرَّرَ وضعها. كان يمكن على الأقل وضع رابط يشير إلى فحواه ويدعو أصحاب الشأن للبحث فيه، كما فعلت الجمعية السورية للمفقودين ومعتقلي الرأي مؤخراً، لكن هذا الإجراء أتى متأخراً جداً، بعد أن كانت الصور منشورة ومنتشرة، وساهمت الجمعية ذاتها بنشر الصور، حينها عام 2015، ومؤخراً قبل فترة وجيزة.

أفهم لهفة الأهل للبحث. من المؤلم والمُحطِّم أن تعيش على أمل غير واقعي. أرى ذلك في نفسي بالمقارنة مع صديقة لي، زوجها وابنها معتقلون. بالطبع لا أقول إنني أشعر أنني مرتاحة؛ لكنني على الأقل أعرف مصير ابني، في حين تنتظر صديقتي هذه كل يوم، وكل لحظة. هكذا حال يوقف الحياة. كأم لا يمكن لابنها أن يغيب عن بالها، لكن ماذا كزوجة؟ كم تنتظر؟ تسع سنوات؟ عشر سنوات؟ أليس من حقها أن تفكر بمستقبلها؟ هناك آلاف الحالات لشابات حياتهنّ مجمّدة، أبناء ينتظرون، أملاك ومصالح… إلخ. أمور كثيرة واقفة، وقد تسير نحو وضع أفضل لو عُرِفَ مصير المعتقل المفقود. طبعاً نتمنى أن يكون الكلّ أحياء. حتى أنا، ورغم كل شيء، ورغم أنني رأيت صورة ابني، ورغم أن لدي معلومات أخرى تؤكد أنه قُتل، إلا أني  أحمل أملاً دائماً، ولو واحد بالمليون، ألا يكون ما أعرفه صحيحاً. لكن بغض النظر عن ذلك، أن تمتلك معلومة ما وتتصرف على أساسها وتتحرك باتجاه وضع جديد هو ضرورة حياتية، سواء كنت أباً أم أماً أم زوجاً أو زوجة أو ابناً، أياً يكن.

لذلك، لهفة الأهالي وسعيهم للبحث ومعرفة مصير أبنائهم مفهومة بالطبع. لكن طريقة نشر الصور كانت مزعجة، مزعجة جداً. كرابطة، طلبنا مِراراً من الناس ألا يُساهموا في نشر الصور، بل سعينا لأن تكون الصور مجموعة في مكانٍ، أن يكون هناك رابط يلجأ إليه الناس، وأن تكون في متناول من يُساعد الأهالي على البحث عن أبنائهم. نحن نعمل، ويعمل آخرون على ذلك، وقد تلقينا مؤخراً حوالي 250 طلب للمساعدة، ونسعى للعمل على مساعدة الأهالي على التوثّق من مصير أبنائهم وفق ما هو موجود من صور ومن معلومات، في حالتنا عبر شخص له خبرة في التعامل مع هكذا وثائق، وليس لديه علاقة شخصية مباشرة ولا لديه مفقودون يبحث عنهم. ينبغي أن يحصل هذا دون أن يضطر أب أو أم لمشاهدة الصور والبحث فيها عن أبنائهم، ولا أن تظهر أمامهم بهذا الشكل.

 

كيف ترى الرابطة التعاطي الإعلامي المستمر مع صور الضحايا، لا سيما مع إعادة نشرها كل فترة وأخرى تبعاً لأخبار أو أحداث معينة، مثلما حصل قبل نحو أسبوعين؟ 

في الحقيقة كان التعامل الإعلامي مع الصور سيئاً، وتعاطي السوشيال ميديا خصوصاً كان بالغ السوء، وخصوصاً في موضوعين، عدم احترام مشاعر ذوي الضحايا عند تعريضهم لرؤية هكذا صور مؤلمة وقاسية في كل وقت، وفي التعاطي غير المسؤول مع تعرّفات غير دقيقة أو متعجلة على أشخاص، دون إمكانية التأكد. حصل منذ فترة أن سيدة عضوة في الرابطة وجدت أنه تم عرض الصورة الموثّق أنها لأخيها على أنها صورة لشخص آخر على وسائل التواصل الاجتماعي، ما سبب لها أذيّة نفسية كبيرة.

لقد آذى هذا التعامل المتعجل والانفعالي مصداقية ما يجب أن يتم التعامل معه احترافياً كأدلة. رأينا كيف أُعلن عن إيجاد صورة عدنان الزراعي ثم نفيها، ثم صورة حسين الهرموش ثم نفيها… هذه الغوغائية خطيرة، وتؤذي مصداقية ووضوحاً مهمّين، و تُسيء لقدسية الصور، ولخصوصية هؤلاء الضحايا، شهدائنا.

مريم الحلاق

هل هناك رسالة تحبين توجيهها بخصوص التعاطي مع صور الضحايا التي سرّبها «قيصر»؟

أجل. أود أن أطلب من الناس ألا يتعاملوا مع الصور على أنها مادة للنشر بهذا الشكل المتّبع حالياً. بل أن يتعاونوا مع جهات ذات مصداقية وخبرة. أن يكون لهذه الجهات روابط ووسائل اتصال تسمح للأهالي بأن يتواصلوا معها وأن تساعدهم على البحث ضمن المعلومات الموجودة دون أن يتعرّضوا لأذية البحث بأنفسهم بين الصور. هناك عوامل عديدة يمكن للناس أن يساعدوا فيها، مثل تقديم معلومات أو التعاون مع جهود التعرّف أو مطابقة البيانات.

أرجو من الأهالي أن يتواصلوا مع الجهات والجمعيات المتخصصة، وألا يبحثوا بأنفسهم ضمن هذه الصور.

 

عدا الأهالي، ماذا عن الناس الذين ينشرون الصور ويتداولونها على أنها مادة إعلامية؟

جيد. حصل منذ فترة سجال مع أحد الأصدقاء، إذ وجهت إليه ملاحظة بأن يتوقف عن نشر الصور، وعن أن يؤكد من عنده أن هذا فلان وهذا فلان، فهذا مؤذي. فدافع هذا الصديق عن نفسه بأنه لا ينشر للسوريين، بل كي يرى الألمان الصور ويعرفوا إجرام النظام. طيب. أرسل لهم على الخاص إن كان لا يوجد لديك غير هذه الطريقة، ودون أن تؤكد من عندك هويات الضحايا. وسبق أن حصل معي أن تظهر أمامي على السوشيال ميديا صورة ابني مراراً وتكراراً، ينشرها أشخاص يعرفونني، بدون أي اعتبارات. أعرف أن صورة ابني تظهر في تقارير حقوقية، لكن ما هو مبرر أن أراها على فيسبوك هكذا فجأة؟ هذا خطأ، وهذا مؤلم جداً للأهالي. ربما نحن في الرابطة قادرون على التعاطي بشكل أكثر تماسكاً كوننا نعمل في المجال، لكن ثمة أهالي آخرين لا يحتملون هذا الألم المتواصل.

 

إذاً يمكننا أن نقول إن هناك حاجة للتعامل مع الصور كقرائن حقوقية بحتة، وأن نقول إن الأهالي وأصحاب الشأن في موضوع المعتقلين المفقودين يُتاح لهم أن يتواصلوا مع الجهات القادرة على التعاون معهم في عملية كشف المصير، ضمن أسس إنسانية وكريمة قدر الإمكان.

بالضبط.

 

وغير أصحاب الشأن المباشر، وغير الأهالي. الجمهور العام، بخصوص هذه الصور..

يرتاحوا. يا ليت يرتاحوا.

 

الرابطة مسجلة في برلين، كيف تتعامل مع الانتشار الجغرافي الكبير للسوريين اليوم؟

لدينا مجموعات في هولندا والسويد وسويسرا، وهنا في ألمانيا طبعاً. هناك أيضاً عائلات في لبنان والأردن بطبيعة الحال، لكن التواصل معهم أكثر صعوبة. في تركيا لدينا تواجد، خصوصاً في غازي عنتاب والريحانية واسطنبول. ونحن نسعى لتشكيل مجموعات ولتمدد وجودنا، ولذلك نخطط في الفترة المقبلة لعقد لقاء في لبنان أو الأردن وفي تركيا إن أمكن، لمحاولة التواصل مع عائلات المعتقلين المفقودين والعمل على تقديم المعلومات والأدوات التي تساعدهم على معرفة حقوقهم أكثر، ولنرى كيف يمكننا أن نساعد، مادياً أم معنوياً… أن نتعرف على عائلات أكثر، وأن نعرف أكثر عن أوضاعهم.

هذا بحاجة لأن نكون موجودين على الأرض. التواصل على الانترنت لا يكفي، ولا يحقق الاستمرارية والقرب المطلوبين للتعامل مع هكذا قضايا.

 

ما هي البرامج التي تعمل عليها الرابطة الآن مع كل التعقيدات التي جلبتها أزمة كورونا؟ وما هي خططها على المدى المنظور؟

تم تأجيل العديد من المشاريع خلال هذه السنة. كنا قد خططنا لورشة دعم نفسي لأعضاء الرابطة الذين يعملون على تماس متواصل مع أهالي الضحايا، لمساعدتنا على الحديث مع الأهالي والتمكّن من الاستماع إليهم بشكل آمن قدر الإمكان نفسياً لهم، وكان من المقرر أن تُعقد في باريس برعاية الصليب الأحمر، لكنها تأجلت. لكننا عانينا مؤخراً الكثير من الضغط النفسي مع إعادة نشر صور قيصر، فكل يوم نتلقى اتصالات من أشخاص يخبروننا عن اعتقادهم أنهم وجدوا أحبابهم في الصور المنشورة، وحالات من هذا القبيل.. لذلك رأينا أن عقد هذه الورشة هو حاجة أساسية لنا، وسنحاول عقدها في أوائل الخريف في باريس إن جرت الأمور على ما يُرام، وإذا لم نتمكن من السفر، سنعقدها ولو كان بشكل افتراضي.

نود المشاركة في مؤتمر حقوق الإنسان في جنيف إن عُقد بشكل فيزيائي، ولا معلومات لدينا حتى الآن إن كان ذلك سيحصل.

في الفترة الماضية أسسنا المكتب في برلين، وقد صار هناك عضوة في الجمعية راكمت خبرة جيدة في تقنيات الدعم النفسي، ونسعى لأن يكون هناك تواجد في المكتب من هذا النوع لمساندة الأعضاء المحتاجين للدعم النفسي. وأيضاً نستكمل العمل على الملف القضائي الذي ذكرناه سابقاً بالتعاون مع المتخصصين في المجال.

برنامجنا حافل بالحقيقة. نحن الآن ننطلق. صحيح أن الرابطة تأسست منذ سنتين، لكن أعمالنا تبدأ الآن بالانتظام. الموضوع كبير، ونحن منتشرون في دول العالم -دول الشتات السوري-.

 

نواة الرابطة هي اجتماع أولئك الذين أصيبوا بفقد أقربائهم وأحبابهم على يد الآلة الوحشية للنظام، وعملهم، انطلاقاً من مصابهم الذاتي، للتأثير في الشأن العام. أي ترجمة أخرى، مختلفة، لشعار «الشخصي هو سياسي» في هذه الحالة. لا يمكن لأي أحد أن يتوقع أن هذا ليس صعباً أو مجهداً على المدى الطويل. كيف تعيشونه في الرابطة؟ كيف تعيشينه؟

يجب أن تنظر إلى هذا الموضوع من زاوية أخرى، وهي أن هذه قد أصبحت رسالتنا. متابعة قضية الضحايا وعائلاتهم، ومتابعة أوضاع المعتقلين -الذين أرى أن أولويتنا تكمن في السعي للإفراج عنهم ومساندتهم للعودة إلى الحياة، قبل أن نبحث لهم عن قبور جماعية-. شخصياً أعتبر أن هذه رسالتي، التي يجب أن أتمسك بها، وسأستمر في العمل عليها للحصول على حقّ ابني، ولكن ليس فقط ابني.

في سوريا، قضيت فترة سنة وخمسة أشهر وأنا أسعى بشكل يومي عند القضاء العسكري لتبيان إن كان ابني على قيد الحياة أم لا. كان قد وصلنا خبر استشهاده بعد ثلاثة أشهر من اعتقاله -عرفنا لاحقاً أنه استشهد بعد خمسة أيام-، وبعد أن تلقينا العزاء فيه، أتى من يكذّب الخبر ويقول لنا إن ابني موجود وحي. بقيت سنة وخمسة أشهر وأنا فقط أحاول تبيان هذه المعلومة، لدى اللجنة المركزية للمصالحة، وزارة المصالحة، القضاء العسكري، الشرطة العسكرية، الفروع الأمنية. لقد كان ذلك عملاً يومياً لي، ويومياً كنت ألتقي عند هذه الجهات بخمسين أو ستين أمّ. كان هناك زوجات وآباء أحياناً، لكن الأغلبية الساحقة كنّ أمهات دوماً. كلهم كانوا يبحثون عن مصير أبنائهم، وفي الوقت نفسه كان الخوف يستهلكهم. حاولت حينها اقتراح أن نتجمع بشكل ما، أن نُسمِعَ صوتنا بشكل جماعي، فرفضوا بشكل قاطع، «الله يخليكي، راحلنا واحد ما بدنا يروح تاني» أو «ضل عنا بيت وما بدنا يروح».. بهذا المعنى. سمعنا في هذه اللقاءات قصصاً مؤلمة جداً. كان هناك أم فقدت خمس شباب، وأخرى شهدت وزوجها اغتصاب ابنتهم، وحين صرخ الزوج رموه من البلكون. شيء مؤلم للغاية.

حين خرجتُ من سوريا، قرّرتُ أنني وقد أصبحت خارج دائرة الخطر أن أحمل صوت أولئك الأمهات اللواتي كنّ يبحثن عن أبنائهن، أن أمثّلهن بشكل ما. أغلبهنَّ عُرف أن أبناءهنّ قد استشهدوا. عرفت ذلك حين استطعت، بعد سنة وخمسة أشهر، أن أحصل على شهادة وفاة ابني من مشفى تشرين العسكري. يومها، وجدت هناك حوالي خمسين امرأة وثلاثة رجال ينتظرون، وقالت إحدى النساء: «الحمد لله العدد مو كبير اليوم». سمعت هذا الكلام وأرعبني. كل يوم يُصرّح عن مقتل هذا العدد من شبابنا، وأقول شبابنا نحن. شباب النظام الموتى كانوا هناك، كنا نرى كيف يكفنون جثثهم ويجهزونهم كي تأتي السيارات لنقلهم. لكن جثامين شبابنا كانت مجهولة المكان، وكنا ممنوعين من معرفة مكان دفن أبنائنا. ذهبت إلى فرع 248 (فرع التحقيق العسكري) وسألت ضابطاً هناك إن كان من الممكن أن أعرف أين دُفن ابني، فأجابني غاضباً: «لولا إنك ست مقدّرة كان ما طلعتي بعد فوتتك عالفرع» وأمرني بالخروج.

أشعرُ أنني أحمل معاناة الناس الذين رأيتهم وسمعت قصصهم أثناء البحث عن مصير ابني، وحين بدأت بالعمل شعرت حقاً أنني أعمل بأصواتهم هم، بقلوب أولئك الأمهات. حين أتحدث عن أيهم لا أتحدث عن ابني أنا فقط، بل أتحدث عنهم جميعاً. كنت في السابق مديرة مدرسة، وأعرف شعور أن يكون هناك محبة تجاه مجموعة كبيرة لها عمر ابني. كلهم أبنائي.

في عزاء أيهم، الذي اعتُقل من الجامعة، أتى زملاؤه ليُعَزّوني، وكانوا قد اقترحوا محاولة تنظيم وقفة احتجاجية في الجامعة، فطلبت منهم ألا يفعلوا، وقلت لهم: «ابني قد استشهد، ولا أريد لأي منكم أن يُصاب بمكروه. كلكم أولادي، وحين تحافظون على حياتكم فإنكم بشكل ما تحافظون على حياة أيهم».

حين تمتلك هذا الشعور، بأنك تحمل رسالة كبيرة، فإنك قادر على أن تندفع بالعمل. هذا شعوري، وأعتقد أنه شعور عام بين أعضاء الرابطة: كيف نوصل معاناة آلاف الأسر السورية، كيف نُري العالم أجمع بشاعة هذا النظام المجرم. هذا دافعنا، وهذا أساس عملنا. كلنا متطوعون هنا، ولا نتلقى مقابلاً مادياً لنا كأفراد عن عملنا. دافعنا الأول والأوحد هو رسالتنا، أن نصون حقوق أولادنا الضحايا. بالتأكيد، للأسف، أننا لا نستطيع المطالبة بأن يكونوا على قيد الحياة، لكن أن نحاسب من أجرم بحقهم وبحق كل السوريين، وأن نصون ذاكرتهم. قبل أيام، قلت في مؤتمر للرابطة أنني أتمنى أن يُبنى في دمشق يوماً ما متحف للفظاعات التي ارتكبها النظام، ومنها صور قيصر، ليزوره الزوار الرسميون للبلد، ويعرفوا ما عشناه على يد النظام الذي سُكت عن إجرامه بحقنا.

 

مثل جهود صون الذاكرة التاريخية التي بُذلت في سياقات عديدة، ومنها الألماني؟

بالضبط. كثيراً ما أقف عند فكرة أن يكون القبر حلماً. حضرتُ منذ فترة معرضاً حول ضحايا الهولوكوست، وشُرِحَ لنا أن الجهود الأساسية لصون الذاكرة قام بها المجتمع المدني. وزرنا مقبرة رمزية للضحايا ورأينا متطوعين يرعونها ويزورونها ويضعون الورود عليها. وسألتُ نفسي، يا ترى متى سيكون لدينا هكذا في سوريا، متى سيكون هناك قبر ولو رمزي يمكن لي، لنا، أن نزوره.

 

كيف يمكن لمناصري قضية الرابطة، سوريين كانوا أم غير سوريين، وسواء كانوا مقيمين في برلين أم لا، أن يساهموا في عمل الرابطة أو أن يساعدوا على عملها واستمراريتها؟

نحن نرحب بشدة بكل عروض المساعدة والتطوّع، وأرجو لمن يجد نفسه راغباً بالمساهمة أن يتواصل معنا. نحتاج لعون على عدة مستويات، في مساعدة أعضاء الرابطة على تحسين مهاراتهم التقنية والمعلوماتية، الترجمة من وإلى الإنكليزية والألمانية، المساعدة في تقنيات النشر والترويج على وسائل التواصل الاجتماعي. ليس لدينا متخصصون في هذه الشؤون، وكثيراً ما نحتاج لعون حتى على مستوى الأشياء البسيطة، ورأينا ذلك مؤخراً مع أزمة كورونا حين تحولت كل الاجتماعات واللقاءات إلى العالم الافتراضي، وكل اجتماع كان ينبغي أن تتعامل فيه مع برنامج جديد للمكالمات والتواصل، وبعضنا كان يُعاني فعلاً مع ذلك لأن خبرته التقنية ضعيفة. نرحب بشدة بكل عروض المساعدة والتطوع، ونرجو ممن يستطيع ويود المساعدة أن يتواصل معنا عبر الموقع.