1
تقول القواميس العربية إنّ للفعل رَتَبَ اشتقاقاتٌ وتوظيفاتٌ ومعاني كثيرة، لعلّ أدناها إلى قلوبنا الراتب الذي نُنفق منه على احتياجاتنا ونشتكي من نفاده قبل تلبيتها جميعها.
ولكنّ ما يهمّني من هذا الجذر اللغوي أنّ الرجل الرتيب هو ذاك الذي ثبُت واستقرّ في المقام الصعب، وأنّ الجندي الرتيب هو صاحب الرتبة، وأنّنا قد نذمٌّ شخصاً بأن نصفه بالرتابة، بيد أنّ الرتابة ليست مذمومةً دائماً.
كذلك، نحن نمدح فلاناً بالقول إنّه مرتّب، ولساعات الحائط القديمة جَرْسٌ رتيب، وقد يرتّب أحدهم منزلاً فيجعله مُرتَّباً، وقد يترتّب على فعلٍ ما عواقب وخيمة، كما قد يترتّب على أحدنا ثمنٌ أو دين، وعندما يترتّب التمثال فهو قد انتصب، والترتيب هو النظام، ولا شكّ بأنّ أهم ترتيبات النظام الهمجي هو ترتيبه الأمني، أمّا التمرّد في أبهى صوره فكثيراً ما يكون لتحطيم الرتابة.
1
تقول حكايةٌ إنّ أباً قد استقرّ لعقودٍ رتيباً منتصباً فوق الجماجم، وما يزيد عليها رتيباً منتصباً في الساحات، وكان من ضمن ترتيبات موت الوالد أن رتّب لولَده منزلاً يحميه جنودٌ رتيبون. ويقول الرواة في ذلك إنّ المنزل قد يكون بلداً بأكملها؛ اسمه سوريا أو سوريا الشمالية. ثمّ، هل سمع أحدكم بساعة حائطٍ وبجنودٍ مُنحوا رُتباً بعد موتهم ضمن ترتيباتٍ معينةٍ تَرتَّبَ عنها أعمال إبادة!
1
أعرف شخصاً أو اثنين أو عشرةً قد غُيّب عنهم ذووهم في سجون الترتيبات الأمنية، وكان أحدهم قد قرّر البحث عن أخيه بين آلاف الصور التي سرّبها قيصر؛ علّه يرتاح بعد أن فشلت جميع جهوده والأموال التي أنفقها في سعيه المتواصل لإيجاد اسم أخيه في سجلات النظام.
كان صديقي قد قرّر رؤية مئة صورةٍ يومياً، وكان يفشل كل يومٍ في إنجاز مهمته عند الصورة الخامسة أو العاشرة، ثم كان يعيد الكرّة في اليوم التالي ليفشل الفشل نفسه. واظب الرجل على هذا المنوال الرتيب أياماً، ولكنه فَشِلَ في رؤية الصور جميعها، وفشل في إيجاد أخيه، وفشل في تحمّل هذه الرتابة المليئة بصور الموتى وأجسادهم المشوّهة المعالم.
1
تطوّرت الصناعات الحديثة بعد أن طُوّرت الآلات التي لا تتعب من فعل الشيء نفسه طوال الوقت، وبات من شروط نجاح العمل في أيامنا هو تقسيمه والإمعان في حشره ضمن تخصصاتٍ دقيقة، حتى بات إنسانٌ بكامل ملكاته يُخصِّصُ عدد الساعات نفسه من يومه في وضعٍ القشرة الإعلانية نفسها على القنينة البلاستيكية نفسها في المعمل نفسه، وذلك إلى أن يُصبح متقاعداً خارجاً عن هذا النوع من الرتابة المُنتجة، ومتفرّغاً لرتابة التفكير بما لا يستحقّ، ولملايين أفعال الأمر والنهي.
من الطبيعيّ أن يَضمُرَ الإنسان بعد أن يتحوّل إلى آلةٍ رتيبةٍ لا تتعب من فعل الشيء نفسه، وهذا الإنسان ليس بالضرورة أن يكون مقتصراً على صاحب القنينة، بل هو المهندس والطبيب ومحرّر الأخبار وماسح البلّور وعامل التنظيفات في أيامنا هذه. نجد أمثلة كثيرةً عن أولئك الرتيبين في كتاب الميديوقراطية لصاحبه آلان دونو.
1
يحكي لي أخي كيف كانوا صبيحة كلّ يومٍ، وعلى مدار شهورٍ أربعةٍ تقريباً، يستيقظون قبل الساعة السادسة، لأنّ طيارةً ستزورهم عند السادسة وعشر دقائق حتى تُلقي ببعض الصواريخ وتعود أدراجها. تعوّدَ بعض الناس أن يذهبوا إلى أشغالهم بعد رحيل الطائرة، وآخرون يعودون إلى نومهم، وقسمٌ فضوليٌّ يُسرِعُ إلى المشفى ليعرف إذا كان فعل الطيار الروتيني قد أسفر عن ضحايا.
في العموم، كانت الحياة تعود إلى رتابتها المعتادة بعد أن ينتهي الطيار الرتيب من عمله الرتيب في انتظار حلول اليوم التالي لإعادة الكرّة من جديد. قد تستيقظ طفلةٌ عند الخامسة صباحاً لتسأل أمّها: هل حان موعد الطيارة! وهنا لا بدّ بأنّ ساعتها البيولوجية قد خانتها في تقدير الوقت، فهي تُخطئ، ولكنّ الطيار ومرسليه لا ينسون أداء عملهم في التوقيت نفسه من كلّ صباح.
1
في الجامعة الفرنسية كانوا يمنحوننا مدة ربع ساعة كاستراحةٍ قبل الانتقال إلى محاضرةٍ جديدة، وكانت محاضراتنا في الطابق الخامس. قبيل موعد الاستراحة بدقائق دائماً ما كنتُ أحدّث نفسي بضرورة التوقف عن النزول مسرعاً لشراء فنجان قهوة وتدخين سيجارة والصعود مجدداً إلى القاعة، لأنّ ذلك قد يتطلب مني ربع ساعةٍ إضافيةٍ للتخلّص من صعوبة التنفس وتعب النزول والصعود وإعياء الأمعاء الخاوية من كثرة القهوة والتبغ، وأيضاً لا بدّ لي أن أكفّ وأتخلّص من هذه الرتابة المؤذية.
عندما ينتهي التفكير بكلّ ذلك أكون فعلياً قد أطفأت سيجارتي ورميتُ بفنجان القهوة في سلّة القمامة، ورحتُ أصعد السلالم مسرعاً بخطىً مزدوجة للحاق بالمحاضرة قبل بدئها. أَصِلُ القاعةَ لأُعاهد نفسي مجدداً أن أقضي على إحدى الرتابتين في المرة القادمة: إما التفكير غير المجدي في ضرورة عدم النزول للتدخين، أو النزول للتدخين كما كان الأمر ينتهي في كلّ مرة.
1
لكلّ منّا نمط حياته الخاص، قد يواظب عليه ردحاً من الزمن وقد يغيره، أمّا أنا فالرتابة هي نمط الحياة الخاص بي. أصحو كلّ يوم لأسمع أيّ شيءٍ يقترحه عليّ يوتيوب من أغاني فيروز رغم أنّي لا أستمتع بسماعها، وأحضّر فنجان قهوةٍ لا مقادير واضحة في حجم الماء والبن اللازمين لتحضيره. كذلك، قد آكلُ لشهرٍ كامل الصنف نفسه من الطعام، ولا أتذكّر آخر مرة ذهبت فيها إلى أحد المطاعم لآكل شيئاً مختلفاً عن صدر الدجاج بطرق تحضيره المختلفة.
حين كنت أنتهي من دوامي كانت تقودني خطواتي إلى المقهى المقابل للجامعة، أشرب فنجان قهوةٍ على الطاولة نفسها وعلى الكرسي نفسه، ويدور بيني وبين صاحب المقهى «ليو» الحوار نفسه: أخبره بأنّي أريد كأس ماء إلى جانب القهوة، ويجيبني بالقول حتماً من دون سكرٍ. لا أملُّ أنا ولا هو يملّ من تكرار الشيء نفسه كلّ يوم. مرّةً قرّر ليو كسر الرتابة المعتادة بأن أخبرني أنه لاحظ أننا نشترك في رتابتنا، ولا بدّ بأني مثله أشاهد الأفلام نفسها في كلّ مرة وأسمع الأغاني نفسها وأعيد قراءة الكتب نفسها. وافقته على كلّ ما قاله، ووعدته بأنّ أولى خطواتي للتخلّص من الرتابة ستكون عدم قدومي مجدداً إلى مقهاه.
بعد فترة، عدت إلى المقهى بصحبة صديقين لي، وذلك بعد أن أنهيت دراستي في الجامعة المقابلة وصرت غير مضطر للذهاب إلى مقهاه. أخبرني حينها أنّنا نحن الذين نفعل الأشياء نفسها في كلّ مرة أناسٌ أغبياء، وهذه ليست معلومةً من عقله، بل قرأها في أحد الكتب!
1
يواظب الأشخاص الذاتويون، أو من نُعرّفهم بالمتوحّدين، على قضاء أيامٍ أو شهورٍ في فعل الأمر ذاته، كأن يراقبوا لوحةً كثيرة الألوان، ممعنين في تفاصيلها الدقيقة بتركيزٍ عالٍ، ثمّ فجأةً ينسون الأمر كما لو أنه لا يعنيهم ولم يقضوا وقتاً طويلاً في النظر إليه. هم أيضاً يأكلون الأشياء نفسها ويتعلّقون بالثياب نفسها ويتذكّر العديد منهم نتيجة التركيز العالي والرتابة المُتقنة آلية تركيب بازل معقّد نسبياً.
ويستشهد بعض المختصين في علم النفس بإصابة ميسي بطيف التوحّد عندما كان صغيراً من أجل تفسير حركاته ومراوغاته وأهدافه المتكرّرة، وبذلك ربما تكون الرتابة قد ساهمت في صنع لاعبٍ فريدٍ من نوعه، لا شيء يعيبه سوى أنه يلعب لبرشلونة.
1
شرعت الجمهورية منذ قرابة عامٍ على نشر شطر موادها المطوّلة في مجلةٍ أسبوعية تصدر كلّ خميس، وهذه المجلة مرتّبة بالأرقام التسلسلية. القرّاء تعوّدوا بدورهم على انتظار العدد في كلّ خميس، والفريق العامل في تجهيز المجلة ينهمك أيام الأسبوع جميعها لإظهارها على أفضل نحوٍ ممكن بعد حلول الظهيرة.
جميع العاملين في المكان، وبغضّ النظر عن مساهمتهم في المجلة من عدمها، يكونون منشغلين بالعدد على صعيد العمل أو على الصعيد النفسي. قد أقضي ساعاتٍ أراقب ما يحدث ومَن راجع هذه المادة ومَن أعدّ هذه الصورة دون أن يكون لي شأنٌ بما يحدث، ولكنّي أراقب جميع التفاصيل بعناية. رتابة الخميس الذي يصدر فيه العدد هي التي حتّمت عليّ ذلك، لذا سأقترح على الرفاق أن يصدر عددٌ أو عددان في غير يوم الخميس؛ كسراً للرتابة التي حكموني وحكموا القرّاء بها. أحد الحلول هو أنّ عيد ميلادي على الأبواب، ولن يصادف في يوم الخميس، فلعلها تكون مناسبةً مواتيةً لعددٍ غير اعتيادي!
1
عندما كنت في الصفّ الثامن كانت قناةٌ عراقيةٌ قد بدأت بثّها التجريبي: صورةٌ ثابتةٌ لنصب الحرية في بغداد، وقائمة تشغيلٍ بأغانيها التي لم تتغير طوال أكثر من عامٍ كامل. كنت يومياً أسمع مع أمي صحبة فنجان القهوة قصيدة «يا دجلة الخير»، التي كتبها محمد مهدي الجواهري وغنّاها فؤاد سالم، وكان انتهاء الأغنية في الثامنة إلا ثلث تقريباً ميقات خروجي من البيت إلى المدرسة.
ما أجده فريداً اليوم هو أنّ أمي كانت تسمح لي بشرب القهوة في ذلك السن كما لا تفعل الأمهات، وتسايرني ربّما بشربها معي كما لو أنّنا صديقان، وكانت إذا ما امتنعتُ عن النهوض من فراشي تضغط عليّ بأن استيقظْ قبل أن يفوتك سماع الأغنية!
1
ثمة أنماطاً من الرتابة التي يعني كسرها خروجاً من الحياة، كأن يتوقف دماغ أحدنا أو قلبه عن ممارسة أفعالهما الرتيبة، وهذه الرتابة هي ما يَحرِصُ الأطباء والمرضى على إعادتها إلى شكلها الطبيعي. الأطباء هم حرّاس رتابة أجسادنا التي كلّما خرجت عن ضوابطها تألمنا وعانينا وربّما فارقنا الحياة. رتابة الجسد هي الصحة ورتابة الروح هي السقم، وهذه الجملة الأخيرة خطيرة وليست من أقوال القائد الخالد!
1
للكون الذي نعيش فيه حركاته الرتيبة، وكذلك الأمر بما يتعلّق بكوكبنا الأرضي والأجرام والكواكب التي نراها منه، ويقول العلم إنّ هذه الرتابة هي التي تكفل صلاح العيش فوقه. لطالما ربط الناس كسر رتابة السماء وقمرها وشمسها بما هو محال التخيّل والمستحيل غير الممكن، أمّا الأديان فقد اعتبرت كسر الرتابة صورةً من صور يوم القيامة، وفي ذلك أنّ من علائم يوم القيامة لدى المسلمين كسر رتابة الشمس اليومية، وذلك بأن تشرق على غير عادتها من المغرب. وفي الأديان الأخرى صورٌ مشابهةٌ لهذا.
1
لست متعوّداً على اتّباع الأنماط الصحية التي تملي على الإنسان منّا تنظيم مواقيت وجباته اليومية، ولذلك فإنّي أشرب القهوة طوال الوقت، وآكل فقط عندما أجوع. وفضلاً عن الطعام نفسه الذي أواظب عليه باختلاف الأوقات كما شرحتُ أعلاه، فإنني أتابع المسلسل ذاته مع كلّ وجبة طعام: «ضيعة ضايعة»، وأحياناً يكون أحد أصدقائي الذين لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة مدعوّاً لدي، فأصطنعُ الضحك كما لو أنني أشاهد المسلسل للمرة الأولى.
أصدقائي أيضاً حفظوا الدرس، وصاروا يسألونني أثناء تحضير الطاولة عن رقم الحلقة التي أريد مشاهدتها من المسلسل، وهنا أسمح لنفسي بالتمرّد في وجوههم قائلاً: شو رأيكن نحضر «الخربة»! ملّيت من «ضيعة ضايعة»! في الحقيقة أنا لا أمَلّ من أيّ شيءٍ أو أيّ أحدٍ لا يطالبني بأن أتفاعل معه وأشترك في تفاصيله، ولذا يكفيني الكلام نفسه من المسلسل نفسه ومن الحلقة نفسها طالما أنها تتيح لي أن أسمع أشياء سخيفة لا تهمّني ولا تحتاج مني أن أتفاعل معها أو أن أكون معنياً بها.
1
في أيّ كلامٍ رتيب، لا بدّ أننا سنقول مراتٍ كثيرةً الأمر نفسه ونفس الأمر، وكنت قد تعوّدت في الكتابة أن أستخدم جملة «نفس الأمر»، ليعود صادق عبد الرحمن في كلّ مرة فيضع عوضاً عنها جملة «الأمر نفسه»، وربّما قد تعوّدنا بشكلٍ ضمني على تكرار ذلك، وعلى أن يخبرني أنّه غَيّرَ الصيغة.
بدأ ذلك يحدث بعد أن وافقته على أن أكتب أميركا لا أمِريكا، وعندما سنجد صيغةً أخرى نمارس من خلالها رتابتنا التحريرية سنكتب الأمر نفسه.
1
تعوّدتُ أن أفصل بين مقاطع نصوصي المنشورة في الجمهورية بخمس نجوم، وسبب خياري المتكرّر ذلك هو فقط أنني فصلت بين المقاطع في المرة الأولى التي أفعل بها ذلك بخمس نجوم، ولذا اقترحتْ صديقتي أن يكون نصي الرتيب هذا، والذي يحكي عن الرتابة، خارج هذا القالب، واقترحتْ أيضاً أن يكون كل مقطعٍ مرقّماً بالرقم ذاته؛ لينسجم ذلك مع روح النص، ولا شكّ أنّكما، عزيزي وعزيزتي من القرّاء، سيسهل عليكما فهم أنّ هذا الشيء بمثابة فكرة خلاّقة يصعب على واحدٍ رتيبٍ من أضرابي الإتيان بها.
2
ختاماً، كان يمكنني أن أكتب كشكولاً لا ينتهي من الأشياء الرتيبة عن نفسي وعن كلّ شيءٍ حولي، لكنّ ذلك سيكون إمعاناً في رتابةٍ لا يحقّ لي أن أجرّ إليها أحداً معي، وهي لن تكون صالحةً للنشر في أيّ مكان، ولذا فإني أكتفي بالكلام الرتيب الوارد أعلاه، وعلى أملٍ أن تنتهي رتابة الدماء التي يريقها الجنود الرتيبون في بلادنا، فهذه أقسى رتاباتنا.