«بين تشرين وتشرين صيف تاني»، يقول أبو كرم لنفسه وهو ينظر من شرفة منزله خريف عام 1973، من الطابق الثالث في حي العزيزية في حلب. تطلُّ أمامه الحديقة العامة فاتحة صدرها للعيون، ولصبية صناديق «البويا». يقف مبنى الدفاع المدني، الذي بناه صبحي كبابة ليتلو عراقة الحجر الحلبي. تأتي أم كرم حاملة معها القهوة في فناجين عسلية مزهّرة جلبتها لها جارتها البخيلة هدية زواجها قبل عام. يتمدد كرم منبطحًا على بطنه في تخته الصغير الخشبي الغليظ، لم يتجاوز عمره ثلاثة أشهر، يتأفف من الطقس الحار المفاجئ ولا يدري أنه مقبل على طقس العمادة يوم الأحد القادم 7 تشرين الأول (أكتوبر). سيسبح في الماء، كما سبح المسيح في نهر الأردن، وستتم تلاوة الصلوات على كرم وهو لا يفهم إلا صدر أمه دينًا.

المهم أن الكنيسة تم حجزها، وتم التنسيق مع الأب بطرس جحا (رحمه الله) لإتمام المراسم. كان الأب بطرس وقتها نائب المطران وخوري كنيسة الملاك مار ميخائيل حيث ستتم طقوس العمادة. بدأ بعض أفراد العائلة «عبطة السفر» من دمشق إلى حلب. فالعائلة مقسومة بين العاصمتين عدا فرع صغير سيذهب في نهاية السبعينات إلى حماة، وسيندم. أما الجيل الثاني فسيسافر لاحقًا في التسعينات إلى دول الخليج وكندا، ويقضي أيامه متراوحاً بين الشكوى من الغربة، وبين شكر الله على هذه الغربة في الوقت نفسه. أما كرم (بطل هذه العمادة) فهو سيرفض السفر لاحقاً في التسعينات رغم كل التسهيلات التي تم تقديمها له، وذلك بحجة الوطن والوطنية (عقدة أوديب؛ محبته المرضية لوالدته الوطن الأول) إلى أن تم إرغامه على هذه الفعلة بعد ذلك بعشرين سنة عندما تحولت الثورة السورية إلى حرب.

على كل حال بدأت صبايا العائلة غزو «سوق الجديدة» لشراء أقمشة فساتين العمادة اللائقة، فزوجة عم كرم «تانت جورجيت» خياطة ماهرة على مستوى حلب، بشهادة جميع النساء والرجال، وهي ستتكفل بفساتين الصبايا. أما الرجال فسيرتدون في يوم العمادة كالعادة الطقم نفسه الذي ارتدوه ليلة زفاف أبو كرم وأم كرم قبل عام تمامًا، في 7 تشرين الأول عام 1972. الزفاف الذي أسفر بطبيعة الحال عن مجيء كرم المبارك بعد تسعة أشهر على ليلة الدخلة، والذي أسفر أيضاً عن مجيء حضرتي (الولد المدلل بحسب رواية كرم لاحقًا) بعد عشرين عاماً على ليلة الدخلة!

الحديقة العامة في حلب

التحق أبو كرم بالخدمة العسكرية في نهايات عام سبعة وستين. كان اختصاصه م ط (مضاد طيران)، وعايش عند التحاقه بالجيش نكسة حزيران، وتشرَّبَ الهزيمة الساحقة والسريعة لأعظم الجيوش العربية مجتمعة، ثم انتقال الصراع مع إسرائيل إلى أن يصبح شماعةً سياسيةً لأغلب القادة العرب لاحقًا. كما شارك أبو كرم، اللطيف عاشق المخلل، بعدها عدة حروب كحرب الاستنزاف وأيلول الأسود، طبعًا (بالصرماية). ليتم تسريحه بعد أن قام ورفاقه من الملازمين بما يشبه العصيان العسكري؛ أزالوا رتبهم العسكرية عن أكتافهم اعتراضًا على الاحتفاظ بهم لمدة أربعة أعوام ونيف. لحسن الحظ تم التجاوب معهم من قبل قائد السَريّة ومسؤوليه، وتم تسريحهم تسريحاً غير مشروط عام واحد وسبعين. بذلك سَلِموا من سجن المزة العسكري الذي كان ينتظرهم، وذلك بفضل عبثية ضباط الجيش التي وقفت إلى جانب أبو كرم وأصدقاءه يومها.

تَعِبت آذاننا نحن أفراد العائلة من سماع قصص أبو كرم المكررة؛ المكررة للآذان نفسها حتى، حول خدمته العسكرية وبطولاته. ورغم أننا نعلم يقينًا بأنه لا يستطيع أن يقتل بعوضة تزعجه في نومه لأنه يشفق عليها، لكننا كنا نستمتع لاستمتاعه بسرد تلك القصص والحكايات ونسهى في شاربه الكث الذي يداعبه أثناء احتدام أحداث قصصه. على كل حال تشرَّبَ عاشق المخلل أبو كرم القَلَق المرضيّ من تلك الأيام، (وأورثني إياه بعد عشرين عاماً).

منذ تسريحه، كان أبو كرم يتنبأ بأنه من المحتمل أن تقع حرب جديدة مع إسرائيل، يحاول فيها العرب استرجاع ماء الوجه والأراضي التي خسروها بعد هزيمة حزيران، وذلك بناءً على سماعه الأخبار المتداولة عن نية السادات دخول حرب جديدة أعلن عنها في مناسبات عدة تباعًا منذ توليه رئاسة مصر بعد وفاة عبد الناصر عام سبعين.

من حرب الاستنزاف

صدَقَ أبو كرم، واشتدت التوترات السياسية بالتزامن مع فترة تحضير تجهيزات عمادة ابنه البكر (أقسمُ بأنه المدلل الحقيقي) والحفيد الذكر الأول لعائلة أم كرم. بدأ رجال الحارة (خبراء السياسة بالفطرة) وقتها بالكلام عن احتمالية وقوع حرب تفتك بالعدو الإسرائيلي، وتعيد لنا الجولان المسلوب، أو الذي تم تسليمه دون قتال تقريباً للدقة؛ حتى قطة الجيران روز رحمها الله تعلم أن «قيادتنا» سلّمته دون قتال.

كان أغلب رجال الحارة يجلسون أمام دكاكينهم يلعبون الطاولة ويتبادلون أحاديث السياسة. يشربون الشاي الحلو ويدخنون معه الدخان الوطني: «غرناطة» أو «حمراء» أو «شرق» في حال كانت الأرباح منحسرة والأرزاق قليلة. وينتقلون بسلاسة للدخان الأجنبي في أوقات الأعياد والمواسم، أو إن أرادوا التباهي أمام أحدهم أو أمام أنفسهم. لم تتغير معظم هذه العادات إلى الآن، ما تغيّر فقط هو أنواع الدخان.

المقطع السابق لا يعدو أن يكون مجرد تُرهاتٍ عند أم كرم، فأم كرم، «بنت الأصول» كما تلقبها نساء الحي، لم تبدِ أي اهتمام حربي أو جيوسياسي بالأوضاع الوطنية أو الإقليمية أو الدولية حينها. كما أنها لا تبالي بشخصيات الدول الاعتبارية. أم كرم ترى السياسة بين البشر العاديين حالة اجتماعية علاقاتية بسيطة، الكرم والطعام والشراب مفاتيحها. ربما في بساطتها حكمة وراحة بال. بالنسبة لها سيُعمَّد ابنها كرم بعد عدة أيام، ومسؤوليتها تقتضي أن تكون مستعدة لكي لا «يعيّبَ» عليها الأقرباء والأصدقاء، ولكي تحتفظ بمكانة «بنت الأصول» الرفيعة رغم عدم تحصيلها العلمي. فالقضية المركزية ما بين عائلتي أبي كرم وأم كرم أن الأخيرة عائلتها ميسورة الحال لعملها في البناء والتجارة، أما عائلة أبو كرم فهي فقيرة رغم التحصيل العلمي الجيد. اعتادت العائلتين أن تتباريا بسلاحي المال والأصول مقابل التحصيل العلمي والشهادات، رغم علاقتهما الممتازة حينها والممتدة إلى اليوم، والتي تدعو للدهشة حقيقةً.

انطلقت أم كرم بخفة محاربي إسبارتا، واضعةً نصب عينيها خطة التسوق لما سيتم تقديمه في حفلة العمادة. اختارت الشارع المقابل للحديقة العامة لتتمشى فيه وتستنشق هواء الأشجار الرطب الذي ينافس هواء حلب الجاف المعتاد. ليس طمعًا في الهواء المنعش فقط، وإنما لكي تمارس عادتها شبه اليومية  بالمرور أمام «فيلا روز» وتتأمل أحجارها الحلبية الزهرية الذي يطلق عليها أبناء حلب «أحجار بلون ماء الجَبَس» (حتى فن العمارة يتم تذوقه من كرش الكائن الحلبي)، والجَبَس هو البطيخ الأحمر باللهجة الحلبية.

فيلا روز في حلب

تتجاوز أم كرم هذا البناء الزهري، وتنعطف يسارًا إلى شارع «قسطاكي حمصي» لتمر أمام دير راهبات مار يوسف الظهور. أم كرم مدمنة على إلقاء التحية على خالتها الراهبة سامية رحمها الله (أغلب العائلات المسيحية المتوسطة والفقيرة كانت تُرسل أحد بناتها أو أبنائها إلى أحد الأديرة لتتخلص من مصروفه)، ومدمنة أيضاً على تناول شراب الورد أو التمر هندي معها (راهبات الدير تخفن على صحتهن ولا يشربن القهوة). أم كرم تفضّل المذاق الحلو على كل شيء. لم تكن تعلم المسكينة يومها بأنها ستصاب بالسكري بعد عدة سنوات وستحقن نفسها بإبر الأنسولين، فلم تأبه لكميات السكر المهولة التي استهلكتها في شبابها، ما بين مشبّك ولقُم وقطايف وزلابية دياب المنشية وبوظة طوني ستيك وكاتوهات سركيس وحلويات نوتوراكي الأشهى. باعت البنكرياس خاصتها للعدم مقابل السالف ذكره من السكريات.

تنهي أم كرم احتساء «الشرابات» عند خالتها الراهبة وتتابع رحلة التسوق. تتجاوز جامع العبّارة وهي تستمع إلى صراخ الباعة والبسطات، إلى أن تصل إلى «صقاق الصفية» أمام سينما أوغاريت وتدخل محل الأزرق. هنا تغرق أم كرم بين «المارصبان» والشوكولا و«المارينغا» وتتبضع بدقة أسلحتها المدججة بالزبدة، وتتوجه في طريق عودتها إلى محل الصباغ حيث تبتاع «اللاحة» لتكمل عتاد المعركة. تعود أدراجها من العبّارة متخذة شارع فارس الخوري طريقًا لتلقي السلام على كنيسة اللاتين، لتصل وهي محملة بالأكياس إلى كرم، الطفل المنسي الذي يبحث عن حليب صدرها عند جدته مارين ولا يجده.

تقطن مارين والدة أم كرم في منزل قريب من سينما الزهراء والمؤسسة الاستهلاكية، مما يدفع أم كرم لأخذ استراحة المحارب عندها والنزول مجددًا لشراء المشروبات الغازية من المؤسسة. أما المشروبات الكحولية فهي اختصاص أبي كرم. تنوعت مشترياتها من «كولا بابل أب» و«ستيم الحمراء» و«سينالكو»، فأولاد عم كرم بالوعات مشروبات غازية، وكذلك بعض امهاتهم اللواتي لم يعتدنَ الكحول كمشروب للأفراح، بالإضافة إلى بعض أصدقائها المسلمين المدعوين للاحتفال، والذين لا يشربون الكحول أيضًا. تتذكر وهي تلقي نظرات خاطفة على المواد الغذائية ومواد التنظيف التي ليست بحاجتها أنها بحاجة أيضًا إلى مناديل ورقية، لأنها ستصنع السندويشات وتلفهم فيها قبل أن تقدمهم في صواني.

تشتري ثلاث علب محارم «كنار» وتضيفهم إلى المشروبات الغازية، ثم تتصل بأبي كرم بعد عودتها لمنزل طفولتها، لتكسب غداءً شهيًا عند والدتها (لأنها كعروس جديدة لم تتعلم بعد كيف تسلق بيضتين). يأتي أبو كرم ليكسب غداءً شهياً هو الآخر، ويساعد أم كرم على حمل الأغراض على طريق العودة، ويكمل ما نقص من مشروبات كحولية، فيختار «عرق البطة» لأنه يحبه ولا يأبه للـ«ميماس» الذي يحتقر شاربيه الهواة. يأخذ صندوق «بيرة شرق» ويُقنِع طفلًا في الشارع بمساعدته في حمله مقابل ليرة. يخطط للنزول بعد الظهر إلى المنطقة الحرة في العزيزية أمام تمثال قسطاكي حمصي لشراء الدخان الأجنبي والويسكي. يصل كرم المنهك وأبوه وأمه «الطبوشة» أخيرًا إلى المنزل. يحسب أبو كرم ما أنفق من نقود حتى الآن؛ «17 ليرة!» يتمتم في سره ويقول بينه وبين نفسه«لازم نحسبا بباقي الغراض».

مع اقتراب موعد العمادة، تزداد شائعات وقوع حرب مشتركة، وتأتي أغلب هذه الشائعات من العاصمة ومدن الجنوب. ثم جاء يوم سبت الغفران 6 أكتوبر 1973 لنُفاجئ العدو الغاشم (لم يتفاجأ أحدٌ على الأرجح) ونسحق جيوشه الامبريالية (سحقونا هم بعد برهة)، ونشلّه في عقر داره بهجومٍ ثنائي مزدوج سوريّ ومصري. انطلق بواسل الجيش السوري ليستعيدوا هضبة الجولان، وانتفضت كتائب الجيش المصري متجهةً نحو صحراء سيناء لتعيد إليها الشرف والعزة.

«إذاعة الجمهورية العربية السورية في دمشق، صرح الناطق العسكري بما يلي في الساعة الرابعة عشرة من بعد ظهر هذا اليوم في السادس من شهر تشرين الأول عام ألفٍ وتسعمئة وثلاثة وسبعين بدأت قوات العدو الاعتداء على مواقعنا الأمامية على خط وقف إطلاق النار وتقوم قواتنا بالرد على مصادر النيران وإسكاتها…».

تم توزيع رشاشات «ساموبال» الخفيفة والبندقية التشيكية على بعض الموظفين في عدة قطاعات، وخاصة الحزبيين منهم. نزل الجيش الشعبي إلى الطرقات، بعضهم من موظفي الدولة الحزبيين بالطبع، وبعضهم من المتطوعين، حملوا الرشاشات السالف ذكرها، وبدؤوا بالتمختر في الشوارع التي بدأت تفرغ من ناسها.

فَتَحَ منزله لجيرانه ظُهر هذا اليوم كل من يملك تلفاز «سيرونيكس» أبيض وأسود لمشاهدة إطلالة حافظ الأسد السمجة على إذاعة الجمهورية العربية السورية في دمشق، ليقرأ كليشيه البلاغ رقم 1 في الحرب: «إن ضمير أمتنا ينادينا وأرواح شهدائنا تستحثنا أن نتمثل معاني اليرموك والقادسية وحطين وعين جالوت وإن جماهير أمتنا من المحيط إلى الخليج تشخص بعيونها وأفئدتها إلى صمودنا العظيم وكلها أملٌ وثقة بأننا إلى النصر سائرون…». لم يفهم أحدٌ ماذا قال، أو ماذا أراد، على الأقل أم كرم لم تفهم، لأن عقلها كله يتأرجح ما بين مأكولات وثياب طقس العمادة والمدعوين، ومابين كنيسة الملاك مار ميخائيل التي كانت تخاف أن تغلق بسبب الحرب التي لا تعنيها، وتُغلَقُ معها ترتيبات العمادة، وبالتالي لن يعتنق ابنها البكر المسيحية في الموعد المحدد جرّاء هذه تفاهة الدول وحروبها التي لا تنتهي.

بدل أن تُطلق أصوات «الشوفار» أو البوق إيذانًا بانتهاء الصيام في «يوم كيبور» المُقدَّس عند اليهود، والذي تتوقَّف فيه الحياة كليّة لمدّة أربع وعشرين ساعة، دوَّت صفَّارات الإنذار في تل أبيب مُعلنة بدء المعركة. خلال أيام قليلة، تغلغل الجيش السوري في عُمق مُرتفعات الجولان وصولاً إلى سهل الحولة وبحيرة طبريا، وحطمت القوات المصرية حصون خط بارليف وتوغلت 20 كم شرقاً داخل سيناء بعد أن عبرت قناة السويس. راحت تُطرح إمكانية القيام بانسحاب كلّي وإقامة خط جديد للدفاع، لا سيما وأن خسائر الإسرائيليين على الجبهتين كانت في تَزايُد، حتى قيل إن هذا الوضع دفع وزير الدفاع موشي دايان لتقديم استقالته التي قوبِلَت بالرفض من قِبَل رئيسة الوزراء.

توازى اقتحام الجيشين السوري والمصري، مع اقتحام المعازيم لبيتنا في العزيزية. الشوارع فارغة تمامًا بحسب الأقارب الذين أخبروا أمي بذلك عندما اقتحموا باب بيتنا. وجوههم مصفرة تمامًا من الخوف، يكفرون بربّ العمادة، وبالربّ الذي جعلهم يتركون بيوتهم ويأتون إلى حلب للمشاركة في هذا الطقس بينما تشتعل الجبهات. اتصلت أمي بالكنيسة لتتأكد بأن الحرب، أقصد، طقس العمادة ما زال قائمًا.

في اليوم التالي لبدء الحرب، في الساعة الرابعة من يوم الأحد السابع من تشرين الأول، انطلقت مواكب عائلة كرم وأصدقائهم إلى الكنيسة سيراً على الأقدام. في غضون أقل من عشرة دقائق أصبحوا بثيابهم الأنيقة ووجوههم الخائفة في عمق بيت الرب. يأتي الأب بطرس جحا، المسؤول عن إتمام العمادة، بشعره الأبيض وذقنه البيضاء كتمثيل فعلي لصورة الله في المخيلة الشعبية. يرمقه كرم بنظرة استعلاء وهو لا يدري ماذا يحصل.

عمادة تشرين – تصميم ياسمين فنري

يتوزع الحاضرون في الكنيسة على المقاعد الخشبية، وتلعب في أنوفهم رائحة البخور المرهفة. يجلس الأصدقاء المسلمون في المقاعد الخلفية، خجلًا وضياعًا أو ليتمكنوا من مراقبة الحاضرين وتقليد ما يفعلونه. يبدأ طقس العمادة، الذي هو باختصار السر الأول من أسرار الكنيسة السبعة، وهو رتبة يدخل من خلالها الإنسان ليصبح عضواً فاعلاً في الكنيسة. يقوم الطقس على التغسيل والتعميد في الماء القائم على رتبة الطهارة، التي بدورها كانت موجودة أيضاً عند اليهود وعند شعوب وأديان سابقة ولاحقة. ففي بعض أنثروبولوجيا الشعوب ،التغسيل بالماء يُطَهِّر من الخطيئة وغضب الآلهة، لكن الاختلاف الرمزي في الدين المسيحي هو الإشراك في سر المسيح، لأن الغمر في الماء يمثل رمزياً الموت، (موت المسيح محبةً/فداءً عن البشرية والخطيئة الأولى) والخروج من الماء يمثل القيامة مع المسيح (القيامة في اليوم الثالث بعد الموت بالصلب). فالمُعمد، أخي كرم المسكين في هذه الحالة، يشارك المسيح بموته وقيامته أمام مرأى ومسمع العائلة والأصدقاء، وتحت نيران الجبهات البعيدة في اليوم الثاني من الحرب.

كان كرم محمولاً بين ذراعي إشبينه/ عرّابه أنطون، الذي يكون عمه، وكان يردد مع أبونا جحا الصلوات المطلوبة. أُبلِغ َأنطون في صباح هذا اليوم بالالتحاق ببريد الجميلية بسبب الاستنفار العام. طلب الإشبين إذناً لمدة ساعة حتى يتمم المراسيم، وكي لا يخرُب العمادة. كان أنطون يفكر وهو يردد الصلوات كالببغاء بأنه لا يعلم كيف يفك ويركب البارودة التشيكية التي تنتظره على مكتبه. كل ما يعرفه هو أن يعمل في مقسم للهاتف لا أكثر. يبكي كرم فجأة فيستيقظ الإشبين من قلقه الداخلي على صوته. يسرقُ الأب جحا الطفل من يد عمه، ويغطسه في الماء، ويضع الزيت المقدس على رأسه، وعلى غير العادة يبدأ كرم بـ «التطبيش» في الماء فرحاً. تتمتم أمه لأبيه بأنها فرحة الروح القدس التي تم مسحه بها!

ينتهي الطقس الرمزي، ويدخل كرم المسيحية من أوسع أبوابها، ويبقى عليها مؤمنًا وورعًا إلى اليوم (كم أحسده على إيمانه). تعود جحافل العائلة والأصدقاء إلى المنزل القريب. على الطريق تصدح إذاعة دمشق من راديوهات «الفيليبس» و«الباناسونيك» التي تشبه صناديق العرائس، تَقذِفُ من شرفات البيوت بأناشيد وطنية مستوردة من حروب سابقة مع العدو، على شاكلة خلي السلاح صاحي لعبد الحليم حافظ، ونشيد الله أكبر فوق كيد المعتدي للمجموعة، ونشيد من قاسيون أطل يا وطني، الشوارع أكثر فراغًا ووحشةً من قبل. التحق أنطون ذو النظارات المربعة تمامًا ببريد الجميلية بعد إتمام مهامه كعرّاب لكرم. حزنت العائلة على عدم مشاركته في الحفلة التي ستقام في المنزل الآن. حَزِن هو بدوره، فهو «يُحب كرشه»، وما سيتم تقديمه هنا لا يتوفّر له في الأيام العادية.

دخلَ جيش العمادة البيت. كل شيءٍ مرتبٌ وحسب الأصول. طاولة كبيرة تتربع عليها صندويشات صغيرة «صمونات» محشوة بالمرتديلا الحلبية والبسطرما مع الزبدة. أطباق من السمبوسك المحشو باللحمة والجبنة مع البقدونس. شرائح من لحم الخنزير الملفوف الذي تخترقه أعواد خشبية. زيتون مكلس على ذات الشاكلة، تنتقم منه أعواد خشبية وتطعنه من خاصرته. أنواع مخلل وخضروات وحيدة في صحن وحيد. أنواع أجبان مستوردة – لا أفقهها إلى اليوم – تستلقي على صينية لم أرها إلّا في هذا اليوم (لم أكن موجودًا فأنا نطفة لم تتشكل بعد يومها، لا تنسَ عزيزي/عزيزتي القارئة). في زاوية الطاولة تتوضع المشاريب الغازية، وبقربها تقف «قنينة البطة» شامخة وبجانبها بضعة عبوات مثلجة من «بيرة الشرق»، ويتربع عرشَ الطاولة لتر من ويسكي «بلاك ليبل» (يتمنى والد كرم في قلبه أن ينساه الحاضرون).

يبدأ المعازيم بالانقضاض على المأكولات والمشروبات ناسين حرب الجبهات وجميع القضايا الإقليمية، تساعدهم والدة كرم على الانغماس وهي منتشية من الفرحة. يتفرغ أبو كرم لتقديم الكحول والدخان، يحمل صينية من الفضة عليها علب دخان «بولمول» و«مالبورو ذهبي» و«لوكي» و«كنت»، ويحمل بيده قدّاحة رونسون ليشعل بها السجائر في أفواه النساء والرجال. يذهب من يهتم بالسياسة إلى غرفة الجلوس بعد أن يملأ صحنه، حيث تلفاز «السيرونيكس» الذي كان هدية العرس من والدي أم كرم الميسورين. يبدأ الحاضرون متابعة مجريات الحرب، يتأملون الشاشة البيضاء والسوداء ويسمعون ما يذاع والطعام يملأ أفواههم، والكحول تلعب بحمرة وجناتهم.

لم تستطع العائلة والأصدقاء الرقص للأسف، رغم أن عمة كرم جانيت قد حضرت كاسيتات مصطفى ماهر وسميرة توفيق وصباح فخري، ووضعت بجانبهم ما تحب من الموسيقى الأجنبية كروسوس وأزنافور وميراي ماتيو وخوليو أغليسياس. التصقت العائلة بالتلفاز وبالبيانات العسكرية التي تذاع عبر شاشته، وتعبت آذانهم من أغنية فيروز؛ خبطة قدمكم على الأرض هدارة، التي كانت كلمة السر التي استخدمتها إذاعة دمشق لتذيع البيانات عن العمليات العسكرية أو عن اسقاط الطائرات. كانت هذه الأغنية تبث قبل البيانات. في البداية، لم يصدق الناس أسطورة صاروخ السام وإسقاطه للأعداد الكبيرة من الطائرات الإسرائيلية، فذاكرة الناس لم تتعاف بعد من أكاذيب حرب 67.

يصرخ كرم لكي يجذب انتباه أحدهم بأنه صاحب الحفلة. تركض باتجاهه بنات العائلة، تشتم رائحة غير محببة تخرج منه، لقد فعلها المسيحي الجديد في ثيابه البيضاء. تأتي أمه بحفوضات «الطفل السعيد» وتستبدل القديم الذي يحتوي اللغم العضوي، بجديد مطهر.

يأتي دور الحلويات فتقوم أم كرم بتوزيع مربى الكبّاد «البيتوتي» الموضوع في صحون صغيرة على شاكلة ورق عنب، ومغروسٌ في كل قطعة شوكة صغيرة لها سنّان فقط! تقدم إلى جانبه عنبرية الكرز البيتية بكؤوس مذهبة صغيرة، ومن ثم تتالى الحلويات من «اللاحة» والشوكولا و«المارينغا»، لتغلق بهم أي مساحة فارغة في بطون المدعوين.

صورة عائلية – تصميم أحمد عياد وياسمين فنري

رن هاتف «السيمنس» أبو قرص. أجاب أبو كرم، وإذ برفيق زوج عمة كرم في العمل يقول له بأنه عليه الالتحاق «بالرحبة» التي أصبحت في دمشق، مكان تصليح سيارات الجيش. يغلق أبي السماعة ويخبر زوج عمتي جورج بالنبأ، ويتقبله هذا الضخم العريض المنكبين بشرب كأس العرق دفعة واحدة وشتم حافظ الأسد علنًا!

تنتهي مراسم الحفلة، ينام أغلب المدعوين من دمشق في هذا اليوم في المنزل خوفًا من السفر، باستثناء جورج الذي طُلِبَ لأداء الخدمة. أبي مطمئن لأن تسريحه غير مشروط، أي لن يسحب مجددًا مهما حصل. يُرسل أبي أحد أولاد العموم الذين لم يتجاوز العاشرة من العمر لشراء دُهان كحلي من مكان قريب من المنزل، لكي يدهنوا الشبابيك كي لا تراهم طائرات العدو الشريرة.

بعد عدة أيام يتم تلحين أنشودة سورية يا حبيبتي من قبل محمد سلمان لتصبح أنشودة الحرب وتنخر في عظامنا إلى اليوم. تنتهي العمادة والمراسيم والملابس الجديدة والأطعمة والمشروبات والحلويات والدخان والأصول والدهان الكحلي وسفر الأقارب والأصدقاء. يبقى كرم لا يفهم ماذا حصل، وتبقى الكثير من الأطعمة والمشاريب الكحولية وغير الكحولية والمخللات كمخزون احتياطي يطمئن والد كرم لبرهة. تبدأ أم كرم بحفلة التنظيفات والترتيبات بعد خلو المنزل.

تنتهي الحرب بعد خمس عشرة يوماً تقريباً، بعد انكسار طرفي الكماشة السوري والمصري، ثم تقهقهر نسبي للطرف المصري وتقهقهر ساحق للطرف السوري. تنتهي المسألة على الجبهة المصرية بعد سنوات باتفاق سلام، وعلى الجبهة السورية بعد سنة واحدة باتفاق فكّ اشتباك لا يزال مستمراً حتى اليوم. تبقى بلادنا مرتعًا للخيانات والانكسارات والحروب في المستقبل، ويبقى بعض السوريين في الجولان تحت حكم الاحتلال الإسرائيلي، وربما يكونون أكثر حظاً من إخوانهم الذي يعيشون تحت «الحكم الوطني»، ويبقى كرم اللعوب (المدلل الحقيقي) يتمم أسرار الكنيسة الواحدة تلو الأخرى بعنفوان الحصّادين في مواسم الحصاد، ينشرُ بابتسامته اللطيفة وداعة الإيمان، ويبقى منزلنا حاضراً شاهدًا على كل تلك الأحداث والذكريات التي صنعت وتصنع عائلتنا البسيطة.