من المفيد النظر إلى العولمة بوصفها نظاماً يستند إلى عمليتين متمايزتين ومتداخلتين؛ عملية اقتصادية لإنشاء نظام اقتصادي معولم، وأخرى سياسية لإنشاء نظام سياسي معولم. وفيما يتعلق بالنظام الاقتصادي المعولم، يمكن استعادة الأطروحة التي قدمها الراحل صادق جلال العظم
وفيما يخص النظام السياسي المعولم، ظهرت المؤسسات السياسية عالميةُ الطابع وتَزايدَ دورها، سواء تلك الاقتصادية مثل صندوق النقد الدولي، أو سائر مؤسسات الأمم المتحدة المختلفة. كما ظهرت مؤسسات أخذت تنظر في شؤون اعتُبرت دوماً شؤوناً خاصةً بالدول وسيادتها، مثل المحكمة الجنائية الدولية والمحاكم الدولية الخاصة بالجرائم ضد الإنسانية. فسعى النظام السياسي الجديد لتطوير مؤسسات تقف فوق الدول القومية، ولها صلاحيات تُنازِعُ صلاحيات هذه الدول وتتقدمها. ولم يتوقف الأمر عند المؤسسات السياسية الدولية، بل امتدّ إلى القوانين نفسها، فاللوائح الدولية، مثل حقوق الإنسان، صارت تتقدم وتُنازع القوانين المحلية. ولم تَعُد الدول تخضع للمساءلة في حال اعتدائها على دولة أخرى فقط، بل أيضاً في حال انتهاكها الشرائع الدولية في تعاملها مع مواطنيها أنفسهم. وفي هذا السياق، ظهر مبدأ التدخل الإنساني باعتباره معياراً مؤسِّساً في النظام العالمي الجديد، وهو مبدأ يناقض فكرة السيادة الخاصة بالدول وينتهك عدم التدخل في الشأن الداخلي.
فالنظام السياسي الجديد للعولمة استهدفَ فكرة السيادة المطلقة والتامة التي تمتعت بها الدول القومية منذ ويستفاليا، وذلك لصالح سلطة مقيدة ومتراكبة مع مؤسسات دولية عابرة للدولة، لها بدورها صلاحيات سيادية تتعدى تلك الخاصة بالدول نفسها.
بالتأكيد ارتبط النظامان الاقتصادي والسياسي للعولمة بشكل وَشيج وتَدَاخَلا، فالنيوليبرالية التي رافقت صعود العولمة وتقدمها أضعفت بشكل منتظم من القدرات الاقتصادية للدولة، والدولة تخلصت عبر الخصخصة من الكثير من النشاطات الاقتصادية التي تقوم بها، وبهذا التخفّف من الضرائب وسياسات الرعاية تقلّصت قدرتها على التدخل في إعادة التوزيع، وترافقَ هذا مع تقييد ادعاءاتها السيادية لمصلحة أشكال للسيادة والسلطة، تتجاوز الدولة نفسها لصالح مؤسسات دولية أعلى منها.
على الرغم من كون العمليتين متداخلتين، فإن هذا لا ينفي تمايزهما. حتى العملية الاقتصادية نفسها للعولمة نشهد أنها لا تتماهي مع النيوليبرالية، فروسيا والصين أمثلة على الاندماج الكثيف بالعولمة الاقتصادية، دون أن يترافق هذا بالمقابل مع الاندماج بالنظام السياسي المعولم والمتجاوز للسيادة الوطنية. على العكس، يتحقق هذا الاندماج في العولمة الاقتصادية في سياق مواجهةٍ وتحدٍ مع النظام السياسي المعولم، فالصين ليست في وارد معارضة العولمة كنظام اقتصادي، مستفيدة منه ومندمجة فيه، لكنها تعارض نظاماً سياسياً معولماً ترى فيه استهدافاً لسلطتها وتقييداً لسيادة الدولة.
يطرح هذا، ضمن حدود معينة، سؤال العلاقة بين الإيديولوجية النيوليبرالية والعولمة، وفيما إذا كان الاقتران بينهما ضرورياً. فالدولة الصينية، وبرغم التوسع الهائل للرأسمالية الصينية، تبقى المراقب والمتحكم في الاقتصاد، حتى أن الشركات الصينية تبدو وكأنها الأذرع الطويلة للدولة التي تقدم نموذج رأسمالية دولة فعالة، أو رأسمالية خاضعة للدولة.
النظرُ إلى العولمة بوصفها نظاماً يستند إلى دعامتين متمايزتين، يسمح لنا بالتفكير في أشكال مختلفة من التركيب بينهما، وبالتالي في خيارات مختلفة ومتنوعة للاندماج في العولمة نفسها.
العولمة وسؤال السيادة
في مواجهة العولمة، اقتُرِحَت استراتيجيتان متباينتان من طرف اليسار للتعامل مع النظام السياسي للعولمة، وبالتحديد سؤال السيادة الخاص بالدولة القومية.
قامت الاستراتيجية الأولى على الدفاع عن الدولة القومية وسيادتها، معتبرة دولة الرفاه النموذج المثالي، وليس دول الاشتراكية الواقعية سابقاً. تقوم هذه الاستراتيجية على فكرة مركزية، حيث تفترض أن الدولة هي النظام السياسي الوحيد القادر على ضبط الاقتصاد والتحكم به وفرض سياسات تحقق العدالة التوزيعية، والتنمية في حالة دول العالم الثالث. ولهذا فإن أي انتقاص من قدرة الدولة وسيادتها عبر الخصخصة، أو عبر أشكال تنظيم سياسية تتجاوزها، يضعف مباشرة قدرة الدولة على القيام بهذه المهام.
يُضاف إلى ذلك، أن الدولة هي الشكل السياسي الذي تملك الجماهير والحركات السياسية القدرة على التدخل في خياراته وقراراته، بعكس البيروقراطيات الأممية الموجودة في المؤسسات السياسية المتجاوزة للدول القومية، والتي لا تخضع لمراقبة ولا يتم انتخابها. بالطبع، هذه الحجة محدودة فقط بالدول الديمقراطية وليس بغيرها، أما نقل هذه الاستراتيجية والمرافعة النظرية إلى العالم الثالث فهي مسألة عويصة وإشكالية، حيث تغيب الديمقراطية أو تضمر بشكل كبير، وتتمتع السلطات الحاكمة بامتيازات هائلة وقوة مرعبة تجعلها بعيدة عن أي مراقبة وغير خاضعة للانتخاب.
تَظهر هنا الإشكالية الضمنية التي تعانيها هذه الاستراتيجية، وهي سهولة أن تتحول إلى مجرد أداة في يد الأنظمة الحاكمة، التي لا تسعى إلّا إلى حفظ سيطرتها التامة على شعوبها دون تقييد وذلك بذريعة السيادة الوطنية، خاصة أن العديد من هذه الأنظمة ليست في مواجهة فعلية مع النظام الاقتصادي للعولمة، بل تسعى للانخراط الفعّال والجديّ فيه.
تواجه هذه الاستراتيجية عقبة جدية مع تركيزها على الدفاع عن الدولة (وهو ما يمثل بذاته طُرفة، كون الماركسية بشرت بانحلال الدولة وليس بوصفها موضوعاً للتبشير والدفاع عنه)، فهناك دوماً من هم أفضل من اليسار في الدفاع عن الدولة والأمة وسيادتها. الأمر الذي نراه مع صعود اليمين الشعبوي الذي يتبنى استراتيجية مشابهة إلى حدّ بعيد في مواجهة المؤسسات الدولية، وبيروقراطيتها التي تنتقص من سيادة الدول والأمم. بينما بقي اليسار الشعبوي مشروعاً نظرياً ذا نجاح محدود، فالدعوة إلى الشعب كمقولة أخلاقية وهوياتية تجد قبولاً أكبر عند طرحها في إطار يميني يعتمد العودة إلى التقاليد من طرحها في إطار يساري، والأمر نفسه ينطبق على الدعوة إلى الدولة.
الاستراتيجية الثانية اعتمدت العولمة البديلة، وقدمت أعمال مايكل هاردت وأنطونيو نيغري أحد أفضل النماذج النظرية لها، عندما قارنا في كتابهما الامبراطورية
ينحاز هاردت ونيغري إلى نموذج السيادة الخاص بالامبراطورية، وتتمثل استراتيجيتهما المقترحة في اعتماد هذا النموذج لاعطائه محتوى تحررياً في مواجهة اللامساواة الموجودة في الامبراطورية نفسها، وبهدف تجاوز الطبيعة السلطوية للنموذج الويستفالي في السيادة. وبهذا فإن دعوة هاردت ونيغري هي دعوة لعولمة مغايرة، وللنضال من داخل الأفق الذي تقدمه الامبراطورية، وليست دعوة للعودة إلى الدولة القومية والدفاع عنها.
اعتبر هاردت ونيغري أن الامبراطورية منتصرة لا محالة، وهذا الاعتبار استند على فرضية مركزية مشتركة كذلك مع أنصار الاستراتيجية الأولى، وهي أن العلاقة بين الجانبين الاقتصادي والسياسي للعولمة ضرورية، فلا يمكن للعولمة الاقتصادية أن تتحقق إلا مترافقة مع شكل ضروري مع العولمة السياسية. لكن وبرغم اشتراك الاستراتيجيتين في هذا الافتراض، إلا أنهما تباينتا في التأسيس عليه والتعامل معه.
بالنسبة لهاردت ونيغري، عنى هذا انتصاراً حتمياً للامبراطورية، وهو الأمر الجيد في ذاته نظراً إلى الطاقة التحررية لشكل السيادة الجديد، وبهذا يُطرح سؤال التحرر من داخل الأفق الذي تقدمه الامبراطورية. أما بالنسبة للآخرين، فقد عنى هذا وجوب عكس العملية السياسية، لأن الدولة السيدة القوية هي فقط القادرة على مواجهة العولمة الاقتصادية.
لكن يبدو أن هذه الفرضية المشتركة تحتاج للمراجعة؛ الصين مجدداً. فكما يظهر، فإن هناك أشكالاً أكثر تنوعاً للعلاقة بين الاقتصادي والسياسي، بحيث يمكن أن نشهد ترتيباً معيناً بين منطق السيادة المطلقة الاقليمية والعولمة الاقتصادية الذي تتولاه وترعاه هذه الدولة نفسها، كما يظهر في المثال الصيني.
تأسيساً على هذه الملاحظة، أي على وجود عمليتين متمايزيتين (سياسية واقتصادية) في تشكيل العولمة، يمكن تقديم نقد للربط الضروري بينهما، الذي تفترضه الاستراتيجيتان المقترحتان. لكن أيضاً وبفضل -وإحالة على- مقاربة نيغري وهاردت للسيادة المحايثة، يمكن نقد الاستراتيجية الأولى التي آلت عموماً إلى الدفاع عن أنظمة سلطوية بزعم مواجهة الامبريالية.
بناءً على كل ما سبق، يمكن لنا تقديم بعض التساؤلات والأفكار حول العولمة ومنطق السيادة واستخداماته بالإحالة إلى مسائل راهنة، كورونا والحرب الأهلية السورية.
كورونا
أثيرت العديد من النقاشات حول شتى المواضيع بالترافق مع وباء كورونا، لكني أفضل البدء بملاحظة أولى، وهي أن الوقائع المتوفرة حتى الآن، متضمنة أرقام الإصابات والوفيات، لا تقدم أنماطاً واضحة تسمح بمناقشات جدية حول السياسات الاقتصادية والصحية التي اعتمدت قبل وخلال ظهور كورونا، ولا حول استراتيجيات المواجهة والنظم الصحية. لهذا يظهر الجزء الأكبر من هذه النقاشات باعتباره مماحكات إيديولوجية غير متعلقة بكورونا، كانت ستُقال تحت أي ظرف آخر. فكورونا لم تكن سوى حجة للتصريح بمواقف متخذة مسبقاً.
هنا، سأهتم فقط بنقطتين من المواضيع العديدة المطروحة. تخص الأولى الإشادة العالية بنجاعة النموذج الصيني في مواجهة الوباء، إشادة من أطراف عديدة تتقدمهم منظمة الصحة العالمية، بالإضافة إلى المديح الذاتي للنظام الصيني. تُتابع هذه الإشادة تقليداً أخذ يظهر قبل كورونا، تقليد من الإشادة بالكفاءة الاقتصادية للنظام الصيني باعتباره نموذج مضاداً للديمقراطيات الغربية المتعثرة، سواء كانت تعثرات حقيقية أو متوهمة. دعونا نضع الأرقام والتقارير الصينية جانباً، خاصة أن هناك كذباً في كل تفصيل فيها تقريباً، من أعداد الإصابات إلى الأجهزة غير المطابقة للمواصفات. لكن بمعزل عن موضوع الأرقام والتقارير، فإن المسألة في ذاتها تستحق كل الاهتمام كونها تحيل إلى فكرتنا عن الحياة الجيدة، وما إذا كانت «الحياة الجيدة» تقتصر على مجرد التماهي مع النجاح الاقتصادي وحتى النجاح الصحي (لنقبل على سبيل الجدال فقط) للنظام الصيني، أم أن هناك معايير أخرى نحتاجها كي نَصِفَ حياةً ما أنها جيدة، حتى لو ارتبط بأداء اقتصادي أقل أو أكثر تعثراً أو كفاءة في مواجهة الوباء؟ بالطبع الكفاءة الأقل أو الأداء الأقل، هو أقل بحدود معينة وليس فشلاً بالضرورة. وبهذا فإن المقارنة المقدمة والمعنية هنا تكون مع الديمقراطيات الغربية أساساً، لأن النظام الصيني يُقدَّم كنموذج في مواجهتها وليس في مواجهة أنظمة أخرى.
اعتمدَ النظام الصيني مزيجاً من السلطوية المستندة إلى السيادة التامة للدولة مع اقتصاد متجه إلى السوق، اقتصاد يتضمن شراكة واسعة مع شركات متعددة الجنسيات في مدن حرة وشركات صينية خاصة هائلة، تحت إشراف الدولة ورعايتها؛ اجتماع الرأسمالية والسلطوية في توليفة خاصة. تقف سيادة الدولة في مواجهة مع الخارج والداخل (مثل فكرة وجود حقوق أساسية للأفراد غير قابلة للانتهاك وملزمة للدولة)، هنا، تتقدم سيادة الدولة، كحامية وممثلة للمجتمع/الجماعة، على أية ادعاءات أخرى. يقدم هذا النموذج الجماعاتي والسلطوي للسيادة المتعالية أوراق اعتماد متمثلة في مسيرة نجاح اقتصادي وتحسين فعلي لشروط الحياة لملايين البشر. في المقابل، هناك الجانب الآخر للصورة، دولة المراقبة الأوسع في التاريخ (الأولى عالمياً في عدد كاميرات المراقبة على سبيل المثال)، في عدد المسجونين، وحتى في الشروط شبه الاستعبادية للعمالة وغيرها. الفكرة المركزية هنا، حقوق الدولة والجماعة تتقدم حقوق الأفراد. ويمكن وضعها في صياغة أخرى، التخلي عن «حقوق» أساسية (تحيل إلى الحريات أساساً) في مقابل الكفاءة والأمن، في مفارقة تامة مع اليوتوبيا الشيوعية لتحقيق الإنسان لذاته التي اختزلت هنا في بعد استهلاكي محض.
بالمقابل، تبدو المعادلة المقترحة غربياً (الديمقراطية الليبرالية) مغايرة، حيث تتقدم الحرية حتى لو رافقها شيء من عدم الكفاءة. مثلاً، الحاجة إلى إقناع المواطنين بالاجراءات الصحية التي يجب اتخاذها، والحاجة إلى الوصول إلى تسويات بين جماعات لها مصالح مختلفة ومتنافسة، مما يعني وقتاً أطول للوصول إلى قرارات تكون هي نفسها ترجمة لتسويات. تقييدٌ على استخدام تقنيات مراقبة تبدو ضرورية لمواجهة وباء (أو إرهاب)، لأنها تتعارض مع «الحقوق الأساسية» للمواطنين (وطبعاً هذا لا ينفي أن الأجهزة الأمنية تخترق هذه القواعد عندما تشاء، لكن أيضاً تحت خطر الانكشاف والمحاسبة والفضيحة السياسية، وهو ما حصل مراراً).
سؤال الحياة الجيدة يطرح المسألة مباشرة وبوضوح، هل يكفي الكفاءة والأمن لضمان حياة جيدة، أم أن هناك عدداً من القيم والحقوق الأساسية اللازمة، ولو على حساب الكفاءة المفترضة؟ ما هي طبيعة التراتبية التي يمكن للحقوق أن تخضع لها، حقوق الجماعة أولاً أم حقوق الأفراد، بحيث تكون حقوق الأفراد مرجعية ولا يتم تعليقها إلا بشكل مقيد واستثنائي ومؤقت؟
يندرج النموذج الصيني تحت نموذج السيادة المتعالية في أكثر أشكاله تطرفاً، فالدولة تملك السيادة (وتمارسها باسم الشعب/الجماعة ككائن متعالٍ) في مواجهة المواطنين الذين تظهر حقوقهم بوصفها حقوقاً لاحقة وتالية على الحق الأصلي والأعلى للدولة. وباسم هذا الحق تتخذ الدولة قرارات خطيرة وصعبة بما يزيد من كفائتها الافتراضية (وهي افتراضية، لأني أشك في كونها حقيقية وقادرة لاحقاً على تقديم نموذج تطوري مستديم، لكن لا بأس بقبول هذا الافتراض حول الكفاءة لجعل المناقشة أكثر جذرية ووضوحاً).
بالمقابل، يبدو من الصعب قبول فكرة الحياة الجيدة بدون توفر عدد من المعايير والقيم التي تجعل منها حياة تستحق العيش. ما يجعل من الحياة جيدة هو قدرة المرء على تحقيق ذاته، أن يحياها كما يرغب. وبهذا فإنها تستلزم الحرية باعتبارها الشرط الموضوعي والضروري، غير أن صيانة هذه الحرية تفترض تقييداً للسلطة التي يمكن للدولة أو الجماعة ممارستها، وبالتالي تقييداً للسيادة المتعالية. ويمكن لهذا التقييد أن يتم انطلاقاً من فكرة الحق الطبيعي غير القابل للانتقاص، وفي الممارسة العملية يترافق مع توزيع السلطات التي تراقب كل منها الأخرى وتضبطها، فلا يكون هناك مركز واحد ونهائي يحتفظ بكل السلطة، وهو ما يمكن دفعه خطوة أكثر جذرية بفضل ما قدَّمَه هاردت ونيغري حول السيادة المحايثة المفتتة والمقيدة، النابعة مباشرة من الحوار والاتفاق بين البشر العيانيين.
انطلاقا من التوجس تجاه حالة الاستثناء المرتبطة بالسيادة المطلقة، هاجم جورجيو أغامبين
المُضمَر في محاججة أغامبين، أيضاً، هو نموذج السيادة المتعالي للدولة. فالدولة يحق لها تعليق شروط الحياة الطبيعية حينما تراه ضرورياً، وهي تفعل ذلك باسم كائن متخيل ومفارق (الشعب، الأمة). لا يكمن الإِشكال في وجود وضع استثنائي يفرض تعليق «شروط الحياة الطبيعية»، إنما في الإطار الذي نفكر فيه بهذا الحق في تعليق الحياة الطبيعية وممارسته. يمكن التفكير في إطار ينطلق من الحقوق الأساسية غير القابلة للانتقاص للبشر، وصولاً إلى نظام يقوم على سيادة مقيدة تتم مراجعتها والتوافق عليها باستمرار. فتكون لحظة الاستثناء مقيدة ومؤقتة لأجل محدد، موجودة لكي تزول بالضرورة في وقت قريب ومحدد. أو يمكن أن نمارسه انطلاقاً من نظام يُسلِّمُ أساساً للدولة بالحق في تحديد ما هو الطبيعي وما هو غير الطبيعي، أي تعريف الخطر والطارئ.
تقدم النقاشات القانونية التي رافقت هذه الإجراءات الاستثنائية في ألمانيا مثالاً مفيداً، فقد شدد العديد من القانونيين على استثنائية الإجراءات ووجوب تقييدها زمنياً ومراجعتها الدائمة (من طرفي البرلمان بوصفه السلطة التشريعية، والمحاكم الدستورية للاتحاد أو الولايات بوصفها السلطة القضائية)، سواء للنظر في الحاجة لها أو لما قد يكون تعسفاً أو سوءاً في استخدامها.
تقدم كورونا، كلحظة استثناء، مجالاً ممتازاً لكيفية التعامل مع لحظة الاستثناء والإطار الذي نفهم من خلاله السيادة وممارستها بوصفها استثناء. وهذه السيادة لن تكون بدورها منفصلة عن فكرتنا عن الحياة الجيدة. هذا هو الرهان الذي نجد اليوم أنفسنا أمامه، وهو لا يقتصر على كورونا، فالصين، كنموذج مضاد للكفاءة الاقتصادية وحماية السيادة الوطنية، تطرح علينا هذا الرهان بشدة.
الحرب الأهلية السورية
بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وعلى وقع الحروب الأهلية البلقانية، ظهر مبدأ التدخل الانساني لتبرير التدخل العسكري في الدول في حالة وقوع جرائم حرب، وإن تعارض هذا التدخل مع مبدأ السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول. بالطبع، مورس هذا التدخل الإنساني بشكل انتقائي إلى حد كبير، خاصة أن القائمين على هذا التدخل لم يكونوا جهة دولية حقاً، بل «الناتو»، الطرف المنتصر في الحرب الباردة. وهكذا بدا أن هذا المبدأ ليس إلا استمراراً للسياسات الخارجية للدول الغربية، مما أضعف شرعيته بشكل كبير.
هكذا تم تبرير احتلال أفغانستان والعراق، حيث انتهى الحال بها إلى حروب أهلية لا تبدو لها نهاية، وتطهيرات عرقية ودينية. أيضاً، عرفت ليبيا خلال الربيع العربي تدخلاً عسكرياً على أساس انساني ضد قوات معمر القذافي، وكان الهدف جعل هذا التدخل محدوداً لتفادي تكرار تجربتي العراق وأفغانستان، لكن الحال وصل بليبيا إلى مستنقع من الحرب الأهلية.
في السياق السوري، طُرح التدخل الإنساني دون نتيجة، وأحد الأسباب كان الخشية من تكرار ما حصل في ليبيا وقبلاً في العراق وأفغانستان. فالتدخل في مجتمعات تتراكب فيها النزاعات على انقسامات أهلية لم يؤد إلى نتائج جيدة، بل أصبح التدخل الأجنبي نفسه جزءاً من الحرب الأهلية فيها.
بالمقابل، قادت روسيا والصين المواجهة ضد احتمال التدخل في سوريا، وخاضتا هذه المواجهة باسم السيادة وعدم التدخل في الشأن الداخلي. ومما يستحق الالتفات هنا، أن مبدأ السيادة استُخدم بشكل أداتي وانتهازي، تماماً مثلما يؤخذ عادة على التدخل الإنساني. فالسيادة الوطنية السورية لم يعد لها معنى بوجود القوات الروسية والإيرانية وقوات الميلشيات الشيعية، وخضوع النظام التام للإرادة الروسية وتخليه عن كل شروط السيادة. السيادة التي رفع النظام لواءها لم تعد تعني سوى حقه في الحفاظ على سلطته بأية وسيلة، وهي لم تعنِ بالنسبة للروس سوى إخضاع سوريا لنفوذهم. فالسيادة، كما ظهرت في الحرب الأهلية السورية، كانت إيديولوجية خطيرة تم باسمها تحطيم بلد وشعب.
في مقابل التجارب السابقة، الحروب اليوغسلافية مثلاً، قدّمت سوريا مثالاً مضاداً يدلل على ضعف الأطر الامبراطورية التي يمكن لها التدخل، وعلى أن المساحة التي يفترض بمبدأ التدخل الإنساني تنظيمها، ما تزال ساحة منازعة مع المبدأ السيادة. دلّلت الحرب السورية على قوة وحيوية المعارضة السيادية التي يمكن أن يجتمع حولها العديد من الفاعلين، بوصفها معارضة أكثر قوة من المعارضة على أساس الأفق التحرري للامبراطورية نفسها.
وهنا نأتي إلى قضية مفصلية في الحرب الأهلية السورية، وهي أن السوريين عامة (النظام وأعداؤه) تبنوا التصورات الأساسية لنموذج الدولة السيادي (الويستفالي)، الذي هو جزء من المعضلة التي واجهتهم وليس من حلّها. فالسيادة المتعالية في مجتمع منقسم أهلياً (طائفياً/دينياً واثنياً) مثل المجتمع السوري، تمثل خطراً يهدد إمكانية العيش المشترك حتى لو ترافقت بالديمقراطية. فالديمقراطية في مثل هذه المجتمعات، وبغياب تقليد فرداني وثقافة مواطنة راسخة، تؤول بسهولة إلى استبداد الأغلبية، مما يجعلها مثار خشية أكثر من كونها أفقاً تحررياً. بالمقابل، يقدم النموذج المضاد للسيادة المحايثة والمقيدة إطاراً أكثر موائمة للمسألة السورية، حيث لا تتوفر سيادة متعالية عائدة على الدولة، إنما تتوزع السيادة على مستويات مختلفة ومتنوعة، على مستوى الجماعات، وفيما بينها، وحتى متجاوزة للكيان السوري عبر مؤسسات دولية واتحادات اقليمية تضبط وتقيد السيادة الوطنية التي يمكن أن تستخدمها جماعة في مواجهة أخرى. تقييد تبادلي للسيادة، تكون معه هذه الأخيرة خاضعة للعديد من القواعد والتوافقات المفروضة والمصانة من خارج هذه الجماعات الأهلية. لكن هذا الخيار لم يُطرح سياسياً وبشكل مؤثر من قبل المتنازعين، الذين أصروا في غالبيتهم على نموذج السيادة التامة.
تُظهِرُ تجربة الحرب الأهلية السورية، بوصفها حرباً أهلية في مجتمع متعدد ومنقسم، أن فكرة السيادة التامة والمتعالية التي تحتكرها الدولة جزء من المشكلة التي نواجهها. فالدولة، باعتبارها أداةً لمراكمة السلطة والثروة، والجهة التي تحتكر العنف، تُصبح مضماراً للصراع الأهلي، فما أن تحوزها جماعة، حتى تصبح شديدة السطوة في مواجهة جماعة أخرى. وهو ما يدفع بدوره كل الطامحين للسلطة إلى تعزيز العصبية الأهلية ورعايتها، لتأمين قوة تساعدهم في الاستيلاء على الدولة والاحتفاظ بها.
خاتمة
في الوقت الذي تساعد فيه أمثلة كورونا والحرب الأهلية السورية على فهم أفضل للنزاع بين نموذجين للسيادة والرهانات المرتبطة بهما، فإنها توضح أيضاً أن النزاع حول الشكل السياسي للنظام العالمي ليس محسوماً انطلاقاً من الشكل الاقتصادي له، فالنزاع لا يقتصر على العدالة والمساواة الاقتصادية، وكأن الشكل السياسي يأتي بشكل ضروري انطلاقاً من الشكل الاقتصادي. كذلك فإن وجود تنازع حول النظام السياسي لا يستدعي بالضرورة نزاعاً حول النظام الاقتصادي. على العكس، يظهر أن هناك إجماعاً حول النظام الاقتصادي. أيضاً، فإن تصورات معينة للعدالة الاقتصادية وشروط النضال من أجلها، قد تتلاقى مع أسوأ أشكال السلطوية.