بداية شهر حزيران الجاري، أقرت الحكومتان العاملتان في مناطق سيطرة فصائل المعارضة، الحكومة المؤقتة وحكومة الإنقاذ، تسعير بعض السلع الرئيسية بالليرة التركية أو الدولار بديلاً عن الليرة السورية، خاصة فيما يتعلق بالخبز والوقود، وذلك بعد الانهيار الكبير في سعر صرف الأخيرة، الذي تخطى حاجز ثلاثة آلاف ليرة سورية، ليتراجع إلى ألفين وخمسمئة ليرة، ويتأرجح بينهما، مع توقعات بانهيار أكبر ستشهده العملة السورية بعد دخول قانون قيصر الأميركي حيز التنفيذ منذ السابع عشر من هذا الشهر.
ثم تعدّى الأمر حدود التسعير، إلى إصدار قرارات من شأنها استبدال الليرة السورية تدريجياً بشكل شبه كامل، وذلك في سائر القطاعات الخاصة والعامة بما فيها أجور العمال ورواتب الموظفين التابعين للحكومتين وعمال المياومة وتصدير المنتجات. وبدأت بالفعل معظم المحلات التجارية بتسعير موادها بالليرة التركية، وذلك بعد ضخ كميات كبيرة من فئاتها الصغيرة عبر مراكز البريد التابعة للحكومة التركية في عفرين وأرياف حلب الشمالية والشمالية الشرقية، وعبر شركات الصيرفة في إدلب.
يعيش نحو خمسة ملايين شخص في هذه المناطق، وتتباين ظروف عيشهم بتباين الجهات المسيطرة على مناطق سكناهم، بين المناطق التابعة للحكومة المؤقتة والمجالس المحلية التي تتبع للحكومة التركية في أرياف حلب، وبين مناطق محافظة إدلب ومحيطها الخاضعة لحكومة الإنقاذ، التي تسيطر عليها فعلياً هيئة تحرير الشام، والتي يتركز القسم الأكبر من السكان فيها بنسبة الثلثين تقريباً. لكن ما يجمع هؤلاء السكان هو أن معظمهم يعيشون تحت خط الفقر، الذي كان قد قدّره المركز السوري لبحوث السياسات في تقرير له، بنحو مئتين وثمانين ألف ليرة سورية شهرياً للعائلة المتوسطة وفقاً لأرقام العام 2019، وبالاستناد إلى هذا التقدير، قال التقرير إن 90٪ من السكان في محافظة إدلب، و88% في محافظة حلب، يعيشون تحت خط الفقر، كما قال إن 42.3 % من سكّان سوريا عاطلون عن العمل. ولا تميّز هذه الأرقام بين سكان مناطق سيطرة النظام وسكّان مناطق سيطرة فصائل المعارضة، كما أنه ليس لدينا إحصاءات خاصة بالمناطق الأخيرة لوحدها، لكن المعطيات المتوافرة تشير إلى أن نسبة العاطلين عن العمل تزيد عن هذا بكثير فيها، وتشير إلى أن هذه الأرقام قد تدهورت أكثر خلال العام 2020 نتيجة انهيار سعر صرف الليرة السورية.
بعد أخذ هذه التقديرات في الحسبان، تحتاج العائلة المتوسطة إلى نحو 700 ليرة تركية شهرياً، أي ما يعادل 100 دولار، كي لا ينزل مستوى عيشها دون خط الفقر. ويبدو تأمين هذا الرقم مستحيلاً بالنسبة للأغلبية العظمى من سكّان المناطق المشمولة بإجراءات استبدال العملة اليوم، وذلك إذا أخذنا بعين الاعتبار أن متوسط دخل عمال المياومة نحو ثلاثة آلاف ليرة سورية يومياً (10 ليرات تركية تقريباً بسعر الصرف الحالي)، ويزيد في بعض المهن، كالأفران والحديد والبناء، إلى خمسة آلاف ليرة سورية.
وقد تحدثنا إلى عدد من سكان إدلب وأريافها وأرياف حلب، وعلى وجه الخصوص المزارعين وأصحاب المتاجر والورشات الصغيرة والعاملين فيها، وذلك في محاولة لرصد آرائهم والأثر المباشر لهذه الخطوة على حياتهم. وبناء على مجمل الآراء والأفكار والوقائع التي تحدثوا عنها، سيتضمن هذا النص عرضاً للمسألة والآثار الناتجة عنها.
مع وضد
تتباين الآراء في مناطق سيطرة فصائل المعارضة حول ضرورة استبدال العملة السورية بعملة أكثر استقراراً، وقادة الرأي القائل بضرورة اتخاذ هذا الإجراء هم في معظمهم من «المؤسسات الحكومية»، التي تجد في هذا الإجراء حلاً لا بد منه، يعتبره بعضهم مؤقتاً لتجنب الخسارة الناتجة عن تضارب الأسعار في السوق، كما ورد على لسان رئيس الحكومة المؤقتة عبد الرحمن مصطفى، ووزير الاقتصاد فيها عبد الحكيم المصري، وكذلك على لسان وزير الاقتصاد في حكومة الإنقاذ باسل عبد العزيز، وما أصدرته المجالس المحلية في مدن إعزاز ومارع وجرابلس وأخترين.
ويرى أصحاب هذا الرأي أن العملة السورية المنهارة تساهم في زيادة العبء على السكّان، وتؤدي إلى ارتفاع الأسعار وعدم القدرة على ضبطها، خاصة مع انعدام الحلول لإيقاف هذا الانهيار، الذي تجاوز 200% منذ بداية العام الحالي. كما يجدون في هذه الخطوة ضغطاً إضافياً على حكومة النظام، وذلك من خلال حرمانه من القطع الأجنبي الذي كان يدخل إلى مناطق سيطرته عبر التجارة الداخلية، خاصة بعد قانون قيصر الذي سيزيد من تسارع انهياره الاقتصادي، والذي ربما يكون بديلاً عن الحل العسكري، وربما يفرض عليه القبول بشروط الحل السياسي.
في مقابل هذا الرأي، يقول بعض من تحدثنا معهم إنهم ضد هذا الاستبدال، ويشرحون وجهة نظرهم بأن مناطق سيطرة المعارضة، شاء أم أبى أصحاب الرأي الأول، مرتبطة بمناطق سيطرة النظام في بعض القطاعات، كالأدوية والألبسة والعدة الصناعية وتصريف المنتجات الزراعية، خاصة مع غياب القدرة على تصدير هذه المنتجات إلى الدول المجاورة، وكذلك ارتفاع أسعار استيرادها من الدول المجاورة، ما سيزيد من معاناة السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر في الأصل.
كذلك، يرى بعض أصحاب هذا الرأي أن الليرة السورية ليست ملكاً لبشار الأسد وحكومته، وأن ما يحدث حالياً هو جزء من عملية «تتريك للبلاد»، وأن المرتبطين بالحكومة التركية يسعون لرسم حدود التقسيم في البلاد، مضيفين أنه إذا كانت الحكومة التركية لم تصدر قراراً يخص استبدال العملة، إلا أنها سهلت تنفيذ هذا القرار، من خلال من وصفوهم بـ «أدواتها»، وكذلك إدخال كميات كبيرة من العملة التركية وفئات النقد الصغيرة عبر مراكز PTT التابعة لها، ما يدل على رضاها عن هذه الخطوة.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن نحو خمسة وسبعين ألف عامل في المناطق الخاضعة لفصائل تابعة للحكومة التركية، من معلمين وأطباء ومجالس محلية، إضافة لما يقارب هذا العدد من عناصر الفصائل العسكرية، يتقاضون رواتبهم بالليرة التركية منذ العام 2016، ويعتبر تداولها في ريفي حلب الشمالي والشرقي وعفرين مألوفاً عند السكان. يقول أصحاب الرأي الرافض لخطوة الاستبدال، إن هذا يصلح دليلاً على أن قرار الاستبدال اليوم استمرارٌ لخطة موضوعة أصلاً، تهدف إلى إتباع هذه المناطق نهائياً لتركيا.
وتستلزم خطوة الاستبدال، إذا افترضنا ضرورتها، مجموعة من القرارات التي يرى أصحاب هذا الرأي استحالة تحقيقها، أهمها إيجاد بنك مركزي يكون من شأنه التحكم بسعر الصرف العشوائي للعملات كافة في المنطقة، والذي تتحكم به شركات الصيرفة بناء على سياسة العرض والطلب. إذ شهدت المنطقة، ومنذ بدء تسعير المواد بالليرة التركية، إقبالاً من المواطنين على شركات الصيرفة، وتبايناً في سعر الصرف، تراوح فيه فارق الصرف بين ثلاثين إلى سبعين ليرة، بين منطقة وأخرى وصرّاف وآخر.
وفي الواقع، لا يمكن استكمال هذه الخطوة دون دفع الرواتب والأجور بالليرة التركية في جميع القطاعات، وهو ما يعني أن على أصحاب المهن والمعامل وملاك الأراضي تحديد أجرة العامل بنحو سبعمائة ليرة تركية شهرياً، وهو ما لا يمكن تحقيقه خارج نطاق المؤسسات المدعومة تركياً، وسيؤدي بالضرورة إلى خسارة معظم القطاعات الزراعية والصناعية وأصحاب الورش، فضلاً عن وجوب رفع هذا الحد من الأجور إلى ما يزيد عن ذلك في حال توقفت المعابر مع حكومة النظام، واضطرار أصحاب هذه المهن إلى استيراد موادهم الأولية من تركيا، مراعاة لفارق السعر الذي سيحدث.
كذلك يتطلب هذا الإجراء فتح خط الاستيراد والتصدير مع الحكومة التركية، دون شروط مجحفة ورسوم عالية، إذ أن المعابر التركية تسمح اليوم بدخول البضائع التركية إلى سوريا، وتمنع دخول البضائع السورية إلى تركيا، باستثناء بعض المواد بناء على حاجات السوق التركي. كما أنه يتطلب إيجاد رقابة تموينية صارمة من قبل الحكومات والمجالس المحلية على السوق، وفرض تسعيرات تناسب السكان في هذه المناطق من خلال دراسة الكلفة والقدرة الشرائية.
سيكون تأثير هذا الاستبدال سيئاً إذاً، أو فاقداً للمعنى على الأقلّ، دون اتخاذ هذه الخطوات كلها، وهو ما لا يبدو أنه سيحدث قريباً، لكن أصحاب الرأي الأول يعولون على التدرج في هذه الخطوات، بهدف الوصول في النهاية إلى الصيغة المثلى عبر اجتراح الحلول لكل عقبة تظهر على الطريق.
لا مع ولا ضد
إلى جانب هذين الرأيين، يبدو أن شريحة ربما تكون الأوسع ليس لديها موقف من المسألة. يقول من تحدثنا معهم إن معظم السكّان عاطلون عن العمل أو ليس لديهم مصادر دخل ثابتة، وهو ما يعني أن التداول بأي عملة ليس مهماً بالنسبة لهم، فهم خارج المعادلة السعرية، يقفون على حد المجاعة «بالتركي أو بالدولار أو بالسوري»، والأولوية بالنسبة لهم إيجاد فرصة عمل ليتمكنوا بعدها ربما من اتخاذ موقف. ويخبرنا هؤلاء إن الأمر لا يتعدى كونه عملية حسابية، فالتاجر الذي كان يتعامل بالليرة السورية كان يحسب سعر السلع التي يبيعها بناء على تغيرات سعر صرف العملة السورية، اليوم سيحسبها وفق تغيرات سعر صرف العملة التركية، هذا كل ما في الأمر.
أما في القطاع الزراعي، الذي تعتمد الشريحة الأوسع من السكان عليه في حياتها اليومية، فيقول من تحدثنا إليهم إن تصريف هذه المنتجات سيكون بالليرة السورية حكماً، إذ يُصدَّر معظم الإنتاج نحو مناطق سيطرة النظام أو قسد. وفي حال عدم تصديره، فإن ضعف القدرة الشرائية للسكان، وكثرة المعروض في السوق الداخلي من الإنتاج، سيؤدي إلى انهيار الأسعار وخسارة المزارعين. أما التصدير إلى تركيا فهو يبدو حلاً غير ممكن في الظروف الراهنة، إذ لن تستطيع منتجات الزراعة السورية منافسة المنتجات التركية، والأمر ذاته يمكن سحبه على القطاع الصناعي والورش الصغيرة، التي لا يمكن لها منافسة البضائع التركية سوى من حيث الأسعار، وفي حال تم تطبيق قرار البيع بالليرة التركية، يتخوف أصحاب الورش من منع حكومة النظام دخول البضائع والمواد الأولية اللازمة لعملهم إلى مناطق سيطرة المعارضة، ما سيؤدي حتماً لإغلاق ورشهم، مع انعدام القدرة على استيراد البدائل من تركيا نظراً لفارق السعر الكبير.
يفيد هذا القرار أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة فقط إذاً، وهم في الأصل الفئة الأقلّ تأثراً بانهيار العملة السورية لأن معظم مدخراتهم بالدولار أو الذهب، وهم نسبة قليلة من السكان، في الوقت الذي يعيش غالبية السكان وفقاً للدخل اليومي الذي لا يمكن ادخاره أو لا يكفي حتى لتلبية أساسيات الحياة. يتساءل كثيرون ممن تحدثنا إليهم عن جدوى هذا القرار، خاصة مع يقينهم بأن نظام الأسد لا يمكن أن يسقط اقتصادياً مهما بلغت حدة الفقر والجوع، معتبرين أن ما يحدث من تباين في الآراء يقع خارج اهتمامهم.
لعلّ «الحسنة الوحيدة» التي تُسجَّلَ لهذا القرار، بحسب من تحدثنا معهم، تتعلّق بالأهالي الذين يتلقون حوالات مالية من أقربائهم الذين يعملون في تركيا، إذ ستوفر عليهم هذه الخطوة نحو 6% من الخسارة التي كان يتقاضاها الصرافون عند تحويل الليرة التركية إلى السورية.
على رفوف المحلات وفوق بسطات الخضار لافتات بأسعار تركية في معظم مناطق سيطرة فصائل المعارضة، يصاب المواطنون بالدهشة عند رؤيتها بعدما اعتادوا على دفع مبالغ بأصفار كثيرة ثمناً لها، لكن تلك الدهشة تختفي عند تمرير أيديهم في جيوبهم شبه الخاوية، ليبقى الحل الأكثر نجاعة بالنسبة لهم ليس استبدال العملة أو إزالة أصفارها، بل في خطوات تضمن لهم الخروج من دائرة الفقر نحو حياة أكثر استقراراً، أياً كان رمز وصورة الورقة النقدية التي يحملونها.