أغنيس هيلر هي واحدة من أهم الفلاسفة في القرنين العشرين والحادي والعشرين. وُلِدت في بودابست عام 1929 وبالكاد نجت من الترحيل خلال الهولوكوست. في السنوات التالية، أصبحت عضواً في مدرسة بودابست للفلسفة الماركسية. تمّ قمعها لعقود من قبل النظام الشيوعي مع الفيلسوف الماركسي الجديد جورج لوكاش. كنتيجة لذلك هاجرت إلى أستراليا في عام 1977. في عام 1986 خَلَفَت هيلر حنة آرنت كأستاذة في نيويورك. وتعيش اليوم مجدداً في بودابست.
لطالما كانت الفيلسوفة المجرية أغنيس هيلر منبوذة لكونها يهودية وفيلسوفة وماركسية ومهاجرة. الآن، وقد بلغت الخامسة والثمانين تقريباً، تريد فقط أن تكون شيئاً آخر: نفسها. توبياس هابرل، الصحفي في مجلة Süddeutsche Zeitung يحاور أغنيس حول الشعور بالذنب وتحرير الذات.
عيونها مغلقة على تيقّظها! هكذا تبدو الفيلسوفة المجرية أغنيس هيلر فى منزلها المُشيّد حديثاً في العاصمة المجرية بودابست، التي ترقد على ضفاف نهر الدانوب. ولأن كُتبها تحتاج مساحة أرحب، لجأت إلى تخزينها فى شقة ثانية فى المدينة.
*****
قُتِل والدك ومعه كثير من أصدقائك فى معسكرات الاعتقال. لقد عاصرت بنفسك الهولوكوست والستالينية، وهربتِ بالكاد من الموت عدة مرات. بعدها هاجرتِ من المجر عام 1977 بعد عقود من قمع النظام الشيوعي. كيف تمكنتِ من أن تبقي إنساناً مستقيماً؟
جميل أنك قلت «مستقيم».
لماذا؟
لأنّني فى الحقيقة إنسانة مستقيمة، ولست طيبة. الفارق أنّ الإنسان الطيب هو من يزور المسنين والمرضى، ويجلس بجانب أسِرّتهم ليؤنس وحدتهم، حتى لو لم يكونوا أقارب أو أصدقاء. أنا لست قديسة، بل مستقيمة، وهذا تصنيف برجوازيّ.
هل كان من الممكن المرور بتجربة العيش خلال القرن العشرين دون الشعور بالذنب؟
أنا شخصياً فشلتُ فى ذلك. عندما كنتُ طفلة كان لديّ أربعة رفاق رائعين، لم ينج منهم من الهولوكوست إلا أنا. كيف لي ألّا أشعر بالذنب إذن؟ كذلك، هناك ما يُثقِل روحي إلى يومنا هذا: لقد كنت لمدة أعوام عضواً فى الحزب الشيوعيّ المسؤول عن مقتل آلاف الأشخاص فى معسكرات العمل فى سيبيريا.
لماذا انضممت إذن؟ هل كنت مثالية ساذجة؟ أم كنت تحت وطأة الإكراه؟
بدافع الاقتناع! لم يتم ارغامي على فعل شيء فى أي مرحلة من حياتي. حتى لو اقترفتُ أموراً سيئة، فإنني قمت بذلك دون إكراه. لقد كنت أهيم شوقاً بكلّ بساطة للخلاص بعد جحيم النازية. هكذا كنتُ أبحث عن الوَنَس ويُسر العيش، ولذلك انضممتُ عام 1947. كنت متيقنة أن الحزب ما هو إلا تطبيق مشوه لشيء عظيم، لكننى بعد فترة وجيزة اكتشفت أنّ روتين الحزب اليومي لا صلة له بأفكاري مطلقاً.
هل أفهم من كلامك أن الناس يتلاحمون بشكل أفضل في الظروف السياسية العصيبة؟
ليست الأوقات العصيبة سواء. على سبيل المثال، بين عامي 1949 و 1953، تفشّى خوف الناس من بعضهم بعضاً فى المجر، لأنّه حتى أقرب الأصدقاء قد يكون مُخبراً. لقد كان زمن الإرهاب الستاليني والحظر المهني ومعسكرات العمل الإجباري. يكفي أن يذكر المرء عدم إعجابه بأحد الأفلام السوفيتية فى السينما، وسوف يعلم سكرتير الحزب بذلك صبيحة اليوم التالي. لقد اعتاد أستاذي الفيلسوف جورج لوكاش أن يقول دائماً: إنّ المحن تصادف الجميع، لكن بإمكان شخص ذكي الاستفادة منها.
أفهم من ذلك أنك استفدت من معاصرتك للنازية؟
لم تكن النازية محنة، بل جحيماً. إنها شيء آخر. كانت السنوات من 1949 إلى 1953 محنة، لكنها كانت أيضاً الفترة التي وُلِدت فيها ابنتي. لا يوجد شيء أسود أو أبيض فقط؛ كل الأشياء سوداء مع بيضاء أو بيضاء مُنقطة بالسواد. كما أنّه لا يوجد ربح بلا خسارة، فلا خسارة يمكن أن تكون دون ربح ما.
هل يذوق المرء الحريّة فقط حين يتجرّع مرارة الإجبار؟
لم أتجرّع الإجبار قط، حتى عندما كنتُ قاب قوسين من الإعدام بالرصاص. كان عمري 15 عاماً عندما تم نقلنا من حارة اليهود (الجيتو) إلى ضفة نهر الدانوب. عندما سمعتُ صوت إطلاق النار من بعيد، كنت على يقين باقتراب الموت. هناك على ضفة النهر كانوا يُقتلون واحداً تلو الآخر برصاصة تستقر فى العنق، لكنني على الرغم من ذلك لم أكن خائفة. لم أفكر في الموت ولا حتى في والدتي التي تقف بجواري ولو لثانية واحدة. تهتُ بعينيّ ببساطة شديدة في صفحة نهر الدانوب وتساءلت في نفسي: متى أقفز؟ متى أقفز؟ في النهاية، لم يكن عليّ أن أقفز، لأن عملية الإعدام بالرصاص ألغيت مع مرور الوقت.
غالباً ما يتم اتهام الشباب بأنّهم وقحون وغير مصقولي الطباع. وذلك لأنهم فى رغدٍ من العيش، ولم يعاصروا حروباً قط. هل يُمكن أن تكون للطفولة الرغيدة مَثْالبها؟
مرة أخرى: لا يوجد ربح بلا خسارة. اليوم، يترعرع الشباب -لا سيما شباب الطبقة الوسطى- فى حريّة نسبية، لكنهم عصابيون نوعاً ما. أولئك الذين نجوا من الهولوكوست ليسوا عُصابيين.
ولكن هل يمكن للمرء أن يتمنى المعاناة لكي يتجنب العصابية؟
أنت تسأل كما لو كانت الحياة لغزاً يمكن حله. معنى الحياة هى أن نعيش. لقد رُمينا في هذا العالم ولا توجد حكاية بديلة.
بعد الانتفاضة الشعبية المجرية في 1956، طُردتِ من الحزب، وفقدتِ وظيفتك الجامعية، واضطررتِ للتدريس في مدرسة ثانوية للبنات. أنتِ اليوم تنتقدين الحكومة المجرية تحت قيادة فيكتور أوربان كلما أتيحت لك الفرصة. في حقيقة الأمر، لقد كنت مُعارِضة طوال حياتك.
هذا صحيح تماماً.
هل يجعلك ذلك تشعرين نوعاً ما بالتميز أم بالعجز؟
إنني أرتشف الطاقة والسعادة من ذلك. هذا ما عليه شخصيتي وطباعي. وطالما أنّنى أتصرف وفقاً لما أنا عليه، فإنّنى أشعر بالراحة. من يبدأ بالكذب على نفسه سيكون بالضرورة تَعِيساً. على المرء أن يتصرف وفقاً لطباعه، حتى لو انتهى الأمر بهزيمة، لأن البديل سيكون هزيمة أكبر.
في المدرسة ، قال لك صبي ذات مرة «إنك ذكية بالرغم من كونك فتاة».
أتذكر أيضاً ما قلته له: «إنه يشبه أن تقول كيف يمكنك ركوب الدراجة ببراعة على الرغم من كونك قرد». لكن كان ذلك مَوْقِفاً معتاداً. في وقت لاحق، كنت أتأكّد من أنني آخر شخص يتم دعوته إلى المؤتمرات، حتى لو سبقت بالتسجيل. كما تعلم، كانت جدتي أول امرأة تدرس في جامعة فيينا، حيث درست التاريخ واللغة الألمانية. كان عليها أن تواري نفسها في المؤخرة، على الهامش تماماً، حتى لا يشعر الرجال بالانزعاج. في نهاية محاضرة سحبوا تنورتها وسَخِروا منها. لكنها كانت أفضلهم في الامتحان النهائي. بعد ذلك، توقّفت السخرية. هذا لا يزال هو الحال اليوم. المرأة يجب أن تكون أفضل.
هل أفهم من ذلك أنّك نِسوية؟
لا. النِسوية مذهب، ويمكنك أن تتخيل لماذا لا أريد أن أتمذهب مرة أخرى. احتججت طوال حياتي ضد القمع سواء كان مصدره رجلاً أو امرأةً أو حزباً. لقد فشل زواجي الأول بسبب موقفي هذا.
كيف حدث ذلك؟
أراد زوجي أن يتكيف مع النظام الشيوعي، بينما أردتُ أنا مقاومته. اتهمني بتدمير حياته، بَيْنَمَا كل ما أردت فعله هو الاتساق مع فلسفتي. يمكن للأطباء أو للفيزيائيين أن يتكيّفوا مع الأنظمة الشمولية دون أن يخدعوا أنفسهم، لكن لا يمكن للفلاسفة فعل الشيء نفسه؛ لأنّ سِيَر حيواتهم تلقي بصداها بشدّة في الفكر والممارسة. شعرتُ بأنّني مجبرة فتحررت من ذلك بحصوليّ على الطلاق.
هل الحركة النِسوية على الطريق الصحيح؟
هذا ليس موضع سؤال. الحركة النسوية هي أعظم ثورة للبشرية حتى الآن. وعلى عكس كل الثورات الأخرى فإنها سوف تكتمل يوماً ما. يمكننا الآن مناقشة ما إذا كانت جيدة أم لا، ولكن كما قلت سابقاً كلّ شيء في الحياة دائماً رهن معادلة الربح والخسارة. الشيء الوحيد الذي يُمْكِنُنا القيام به هو زيادة الأرباح وتقليل الخسائر.
في غضون أسابيع قليلة سيكون عمرك 85 عاماً. مع ذلك فإنك تكتبين كتاباً جديداً، وتشرفين على أطروحات الدكتوراه، وتسافرين حول العالم، وتلقين محاضرة تلو الأخرى. من أين لك تلك العزيمة؟
ماذا يجب أن أقول؟ الحياة بدون الكتابة غير ممكنة. إنّه أمر لا يمكن تصوره لأننى شبقة للكتابة. لقد عدت للتو من المكسيك حيث ألقيت محاضرة حول ماركس، وسأسافر غداً إلى فيينا. الكتابة والتفكّر والتحدث هم محاور حياتي.
ما الذي تفكرين به لتوِك؟
تناولَت آخر محاضراتي التحيزات والتعاطف وطبيعة الثورة في الحركة النِسوية. أفكر أنّه إذا فكّرنا في الأشياء نفسها دائماً، فإنها تصبح مملة، وبالتدريج يصبح المرء نفسه مُملاً.
كيف يسير يومك؟
أستيقظ في الساعة السابعة، ثم أذهب للسباحة في القبو.
هل لديك حقاً مسبح في الطابق السفلي؟
أجل! إنّني أعيش في مبنى سكني حديث، لأنّ هناك مسبحاً في القبو. بالطبع ربما يكون المبنى القديم أكثر جاذبية، لكنّني أحب ارتداء لباس السباحة الخاص بي في الصباح والسباحة فوراً. بينما أسبح أستطيع التفكير بروعةٍ ودقة. أحياناً أرسم مقاطع كاملة من مقالاتي في رأسي. كان زوجي الثاني فيلسوفاً أيضاً، وكان يقول دائماً: «أغنيس! لا تشتري غسالة أطباق! تأتي أفضل الأفكار إليّ عندما أقوم بغسل الأطباق يدوياً». هكذا، عندما يعمل الجسم بآلية، يعمل العقل بامتياز.
وماذا بعد السباحة؟
أردُّ على الرسائل التي وصلتني، ثمّ أكتب حتى الثالثة أو الرابعة بعد الظهر. في المساء أقرأ رواية بوليسية، أو أستمع إلى موسيقى بيتهوفن أو باخ أو تشايكوفسكي أو فاغنر. استمع فقط إلى الموسيقى الكلاسيكية، كما أستحسنُ موسيقى الجاز. كل شيء آخر أجده مجرد ضجيج.
كتبتِ في سيرتِك الذاتية: «لم أقع فى حب الرجال الوسيمين أبداً. لطالما أحببت قبيحي المنظر». لماذا؟
لأنهم كانوا أكثر جاذبية. يمكننى أن أقبل دمامة الرجل، لكن ليس أن يكون مهووساً أو مُحدَث نعمة أو إِمَّعَة تابعاً. لقد وقعت في حب رجال غير جذابين، ولكنهم كانوا أذكياء دون استثناء. كانوا جميعاً فلاسفة في الحقيقة. أحب رجال الفكر. يعبّر كلٌّ من الفكر والوجه عن الشخصية. بالنسبة لي لم يكن هؤلاء الرجال قبيحين، كانوا على العكس جميلين.
هل اشتريت حقّاً بلوزة من الفانيلا من راتبك الأول في الجامعة؟ هل أنت مَزْهُوّة بنفسك؟
الفلاسفة لا يعرفون الزهو والتبختر.
هل يمكننا تعميم هذه المقولة على الجميع؟
إنها تجربتي.
وماذا عن سارتر؟
لم أقابل سارتر شخصياً أبداً، لكنّني لا أعتقد أنّه كان مزهواً بنفسه، بل متمركزاً حول نفسه. بحكم تجربتي يمكننى القول إنّ الفنانين أكثر زهواً بأنفسهم من الفلاسفة، وخاصةً الرسامين. الملحنون أقلّ من ذلك. مقارنة نفسك بالآخرين هو أصل الحسد والغرور. لم أقارن نفسي بأحد أبداً. على العكس، دائماً ما أحببت لقاء الفلاسفة الذين كانوا أفضل ممّا كنتُ عليه.
هل يمكنكِ أن تذكُري بعض هؤلاء الفلاسفة الذين كانوا أفضل ممّا أنتِ عليه؟
فوكو، أدورنو، دريدا! أحببتُ فوكو بشكل خاص. إنّه إنسان لطيف. التقينا في عام 1981 في حفلة في جامعة نيويورك. أتذكر أنه تم تقبيله على فمه من قبل جميع المضيفين لأنّهم اعتقدوا أنّ هذا هو ما يجب أن يفعله المرء مع مثليي الجنس. كان يبدو عليه عدم الارتياح، بل كان يرتجف. مع أدورنو، وجدتُ دائماً أنّه من المثير للاهتمام اقتناعُه بأن ماكس هوركهايمر (1895-1973) كان الفيلسوف الأفضل. لطالما كنت أجد ذلك هراء لكني أتفهم موقفه هذا: نحن الفلاسفة نحتاج إلى شخص ما نتطلّعُ إليه، لنجعله مرجعية يمكننا أن ننضج لكي نحاربها. يختلف الأمر مع الرسامين، حيثُ أنّهم بحاجة إلى رسامين آخرين ينظرون إليهم من أعلى.
من هو الفيلسوف الأكثر تأثيراً فيكِ؟
بكل تأكيد، جورج لوكاش الذي حصلتُ على الدكتوراه معه و كنت مُساعِدته. كان لوكاش منارتي، الإنسان وقد تجسد فى شكل منطق. إلى جانب والدي، كان هو الرجل الوحيد الذي أردتُ إثارة إعجابه!
هل صحيح أنّه ترك لك ميراثه؟
لا. لقد أراد أن يتركه لزوجي، لكنه رفض.
لماذا؟
لأنك لا تفعل ذلك، ترث المال وفقط.
هل كان مالاً وفيراً؟
نعم، لكن لوكاش مات عام 1971. في ذلك الوقت كان يتم التجسس علينا طيلة الوقت. كان أصحاب الأموال مكروهين من جهاز أمن الدولة، وأصدقائهم. صدقني! في ظل ذلك النظام كان من الأفضل أن يكون لديك مالٌ أقل.
على الرغم من العديد من حالات القمع، تمكنتِ من السفر إلى دول غربية عدة مرات.
نعم! في عام 1962 كنت في البندقية وفلورنسا وروما مع زوجي الأول. هل يمكنك تخيل ذلك؟ قضينا ثلاثة أسابيع في روما بمئة دولار في جيوبنا. كنا نعيش في نُزل الشباب، ونأكل الخبز والجبن فقط، ونشرب الماء من النوافير.
لاحقاً هاجرتِ إلى أستراليا. ماذا تعلّمتِ هناك؟
لقد اختبرت نوعاً مختلفاً تماماً من الحرية. فجأة تمكّنت من الصعود على متن طائرة والطيران بعيداً. لم تعد مدينة مثل فيينا بعيدة؛ فقط 24 ساعة بالطائرة. لكن استغرق الأمر نصف عام في المجر للحصول على تصريح سفر.
في عام 1986 خَلفتِ حنا أرندت على كرسيها في نيويورك.
نعم ، أنا أحب أميركا. أنتقدها كثيراً، ولكن هذه هي الطريقة التي نحب بها الأشياء. أليس كذلك؟
ما الذي تحبينه في أميركا؟
أحب نظرة الأميركيين لأنفسهم كجزء من الدولة، كمواطنين. لاحظت أنّ جميع طلابي في نيويورك يدركون ذلك. أحببتُ أيضاً التضامن بين الناس. إنّهم لا يحتاجون إلى دولة، بل هم الدولة. حتى يومنا هذا، لم تتمكن أوروبا من دمج المهاجرين إليها (Integration)، بل تم استيعابهم (Assimilation) في أحسن الأحوال. هذا مختلف تماماً في الولايات المتحدة. لا أحد يحتاج لتعلم اللغة القومية إذا لم يرغب بذلك. لا يتعين على المهاجرين التخلي عن تقاليدهم الوطنية، وعلى الرغم من ذلك فهم لا يزالون وطنيين أميركيين.
كثيراً ما يُقال في أوروبا: «الأميركيون ضَحْلو الفكر».
أنا أرفض وجهة النظر تلك. بطبيعة الحال، أوروبا هي مصدر الثقافة الأميركية، لكنها لم تعد كذلك. أصبحت أوروبا مجرد متحف.
هذا ليس برهاناً مضاداً.هل توضحين أكثر؟!
الناس هناك متعطشون بشكل لا يُصدَّق للثقافة والمعرفة. هناك الآلاف من المحامين والمصرفيين والأطباء الذين يدفعون ثروة كبيرة لحضور أيةِ دروسٍ مسائية. كان هناك دائماً محامٍ في محاضراتي. سألته ذات يوم: «لماذا تفعل هذا؟» فأجاب: «لأنني أريد أن أفهم معنى الحياة». لا أشك فى سذاجته، لكن الأوروبي لا يقول شيئاً كهذا، لكنّني أفهم ما يعنيه. الأميركيون ليسوا كلبيين. على العكس، لديهم أمل ويؤمنون بالحرية. السينيكية الأوروبية لا تؤمن بأي شيء. هل تعرف جورجي ليجتي (György Ligeti)؟
نعم، الملحن المجري.
بالضبط! في بودابست، يعزف ليجتي مرة أو مرتين في السنة، وفي كل مرة تكون القاعة نصف فارغة. هناك خمس حفلات لليجتي في نيويورك كل عام، ويتم بيع كل تذاكرها. لا! لا يمكنك أن تدّعي أنّ الأميركيين ضَحْلو الفكر. أشعر بالغضب دائماً عندما أسمع شخصاً يتحدث عن التفوق الأوروبي. لقد حضرت ذات مرة حفل توزيع جوائز ليورغن هابرماس (Jürgen Habermas) في لوكارنو، حيث وَصَفَ بعض السياسيين أوروبا بأنها أروع تقليد على وجه الأرض. وقالوا إن أوروبا تدافع عن تنمية ونشر الحرية والديمقراطية. ثم تحدثتُ وقلت: «أيها السادة، لا تنسوا أن أوروبا هي أيضاً موطن لاثنين من أعتى الديكتاتوريات وحربين عالميتين والعديد من معسكرات الاعتقال».