في العام 1997، زار الشاعر محمود درويش المركز الثقافي الملكي في عمّان حيث ألقى قصيدةً عن لقاء جمعه بالشاعر اليونانيّ المهمّش والمضطهد يانيس ريتسوس. في القاعة المكتظّة يقرأ درويش:
في دار بابلو نيرودا، تذكرْت
ريتسوس. كانت أثينا ترحبُ بالقادمين
من البحر، في مسْرح دائريّ مضاء
بصرخة ريتسوس:
آه فلسطين، يا اسم التراب ويا اسم السماء ستنتصرين…
في لحظة النبوءة هذه، أي لحظة رؤية الشاعر لفلسطين منتصرةً، تلك اللحظة التي لطالما تأجلت إلى المستقبل، ينفجر من قاعة المركز الثقافيّ الملكيّ صوت واثق هاتفاً، «يعيش جلالة الملك المعظّم». يليه ردٌّ مثلث: «يعيش! يعيش! يعيش!».
,
يبدو للوهلة الأولى أنّ هذا الهتاف ليس إلا ردّةَ فعل تُظهر مشاعر الحبّ الملك، لكنّه في الواقع يخفي مآرب سياسيّة أخرى تضع أوّلاً القومية الأردنية في وجه القومية الفلسطينية، وتضع ثانياً نبوءة الشاعر عن انتصار فلسطين المؤجَّل في وجه سلطة الملك المنتصر في الحاضر.
بعد قرابة عشرين عاماً، استعادت الفنانة الفلسطينية عريب طوقان تلك الحادثة في مقالها نحن، المثقفين، الذي تنظر فيه إلى علاقة المثقفين بالمؤسسات الثقافية وسلطتها. تذكر كيف أنّ درويش توقف قليلاً، تفوّه بعبارة «إحم»، ثم أعاد إلقاء قصيدته. تُعلّق طوقان على ردّة فعل درويش، فتقول:
لو انتقلنا بالزمن إلى الحاضر، فإنّ هتاف «يعيش جلالة الملك المعظّم» سيؤدّي اليوم بالتأكيد إلى أن يجمع الكاتب أوراقه، ويغادر، ويرفض الدعوات من هذه المؤسسة من الآن فصاعداً. فهناك، ببساطة، مؤسسات ثقافية أكثر للاختيار بينها، وهناك مفكّرون وفنّانون وفضاءات أوسع… لقد توزّعت السلطة الأخلاقية. بإمكان أيّ شخص أن يقول الحقيقة للسلطة. وعلى أيّ حال، فإنّ السلطة باتتْ تعرف الحقيقة.
تبرز في رواية طوقان عن حادثة المركز الثقافي الملكي ثلاثة أزمنة.
أوّل تلك الأزمنة هو الماضي. أي زمن القصيدة التي يسرد فيها درويش لقاءً قديماً جمعه في الثمانينات بيانيس ريتسوس، القابع على هامش الحكم العسكريّ الفاشيّ في اليونان. في الحوارية بين الشاعريْن المنفيّيْن كلام عن الشعر، وعن السجون، وعن فلسطين. لا بل عن مستقبل الشعر ومستقبل السجون ومستقبل فلسطين التي ستتوّج بانتصار حتميّ. الزمن الأول، إذاً، هو عن تكوّن نبوءة المثقّف، تلك النبوءة المتمثلة بالكلمة والقائمة على رؤية التحرّر.
الزمن الثاني هو حاضر هذه الأمسية، أي زمن إلقاء القصيدة في المركز الثقافي الملكي سنة 1997، بعد سنوات على لقاء الشاعريْن. يحمل ذلك الحاضر تناقضاً لافتاً. فنبوءة الشاعرين عن تحرّر فلسطين تتناقض بشكل كامل مع الواقع، إذ أنّ فلسطين ما بعد أوسلو لم تنتصر. كما أنّ الشعر، أو تحديداً الكلمة، لم تتحرّر من سيطرة السلطة عليها، تلك السلطة المتمثلة بهتاف «يعيش جلالة الملك المعظّم».
لكن هناك أيضاً زمن ثالث، هو لحظة كتابة طوقان لمقالتها. إنّه عالم الثورات المجهضة والانقلابات والمجازر، عالم يبدو فيه بعض المثقفين العرب في حالة انسجام مع السلطة. إنّها لحظة فقد فيها المثقف الحقّ الحصريّ في القول الأخلاقيّ، لحظة معاصرة متناقضة تماماً مع لحظة النبوءة، حيث يبدو المثقف شخصيةً هزمتها السلطة. إنّها لحظة الوعي بأننا نعيش اليوم على أنقاض نبوءة الماضي، على أطلال وعد بنصر لم يتحقّق.
ماذا بقي إذاً من نبوّة الشاعر وقدرته على قيادة شعبه التائه نحو النصر؟ كيف وصلنا إلى زمن عريب طوقان التي تشاهد الأزمنة ترتطم بزمن النبوءة الأول؟
النبوءة
في فيلم سيمون بيتون الوثائقيّ عن محمود درويش (1997)، تبدو المخرجة مسحورةً بمنفى الشاعر الفلسطيني. فهي تشاركه أسئلته عمّا نفعله بالمنفى. كيف نحيط به، كيف نكشف دلالاته، وكيف نمثّله. فالمنفى في فيلم بيتون هو هجرة جماعية، وهو أيضاً هجرة اللغة الأمّ، والاغتراب عن الوطن. لكنّ اللافت هو نظرة بيتون إلى المنفى كاستعارة توراتية، إذ تقول في افتتاحية فيلمها:
كيف يمكن تصوير المنفى؟ يُرسل محمود درويش نظره إلى فلسطين من على جبل نيبو من الضفة الشرقية للبحر الميت ولنهر الأردن. هنا وقف موسى يتأمّل أرض الميعاد التي لم يُكتب له دخولها. فلسطين، على الضفة الأخرى من النهر، على هذا القدر من البعد، من القرب
,
يبدأ المشهد الافتتاحي من اللحظة الأصلية للمنفى على جبل نيبو، في المكان نفسه حيث وقف النبي موسى للمرّة الأولى متأمّلاً أرض الميعاد. تظهر الإشارات التوراتية للصحراء، وجبل نيبو، ونهر الأردن، في لقطات من زوايا عريضة تحاكي نظرة الله إلى الشعب التائه. فكما جاء في التوراة، فإنّ النبيّ يقول الحقّ. يقوله باسم شعبه التائه، يقوله وهو يقود شعبه الى أرض الميعاد.
لكنّ بيتون تقوّض الرواية التوراتية التي قامت عليها الصهيونية. فأرض الميعاد هنا ليست إسرائيل بل فلسطين، والشعب المختار ليس اليهود بل الفلسطينيين، والرسول الحقّ ليس نبياً بل شاعر، لا بل إنّ النبيّ هنا ليس موسى، بل محمود درويش.
تتكشّف لنا فلسطين هنا عبر ثلاثة أزمنة متتالية: فهي كيان تاريخيّ لأنّها موجودة داخل التقليد التوراتيّ والذاكرة التاريخية، وهي في الحاضر مأساة تهجير وفقدان، وهي أيضاً مستقبل يرشدنا إليه الشاعر-النبي. ربّما كان هذا المشهد أحد أكثر تمظهرات محمود درويش دلالةً. فهو يوحي بالتهجير، والغياب، والتمثيل، أي يتمحور حول ذلك النبيّ الذي ينطق باسم الشعب التائه والسلطة والشرعية المتاحة له.
لا تزال صورة المثقّف- النبيّ التي يمثّلها محمود درويش تحوم فوق تراث الأدب المشرقي الحديث، خصوصاً المعني منه بمسألتَي العدالة والسلطة. كما أطّرت هذه الصورة النقاشات التي تسترجع الإرث الدرويشي وتسبغ عليه هالة فيها من القدسية ما يعيد التأكيد على نبوّته.
فماذا في صلب نبوّة الشاعر؟ وكيف يعبّر عنها؟ وباسم من؟
صناعة المثقّف- النبيّ
صحيح أنّ مشروع درويش الشعري قد عُني بالتحرّر الوطني، لكنّه حمل أيضاً نظرةً إنسانيةً وعالميةً حول مسائل التهجير والمنفى. كان مشروعه ملتزماً بعولمة الخصوصيّة عبر جعل القضية الفلسطينية قابلةً للقراءة كسرديّة إنسانية عن التهجير. كما كان ملتزماً بجعل العالميّ خصوصياً عبر اقتفاء أثر خطاب التحرّر الإنسانيّ على المأساة الفلسطينية. فمثلما عبّر درويش عن رؤيته للخلاص والتحرير، عبّر أيضاً عن روح تنويريّة عربيّة كما فعل مثقّفون آخرون قبله.
في الأدب العربي الحديث، روى المثقفون العرب المدّ والجزر بين التقليد والحداثة والصراع على السلطة الكامن في علاقة الشرق بالغرب. لقد تصارعوا مع القوى القمعية المحلية والخارجية، ضمن أطر وطنية وعلمانية. فشهد القرن العشرون صعوداً وهبوطاً لمفاهيم مختلفة للمثقّف. لكن، رغم هذه المفاهيم المختلفة وغير الشاملة، بقي فهم المثقف كقوّة حديثة وتحديثية سائداً. وبقي المثقفون العرب، وبصرف النظر عن المهمّات التي حملوها، ينطقون بما يسمّيه فوكو «الحقيقة لأولئك الذين لم يروْها بعد، باسم أولئك الذين منعوا من النطق بها»
لكنْ ماذا يعني ذلك؟ ماذا يعني أن نقول إنّ المثقّف هو «الضمير والوعي» معاً؟
إنّها قدرة هذا المثقّف على مقاومة إغراء السلطة، والدول، والقوى السياسية، والمؤسسات الثقافية. هكذا ينطق المثقّف باسم المهمّشين والمحرومين، لخلخلة الوضع السائد. فهو يحدّد مكامن السلطة ويضع نفسه في مواجهتها، ويكوّن نفسه بالتضاد معها، حتى يتمكّن من النطق بالحقيقة في وجهها. ومن خلال المسافة التي يتّخذها عن مراكز السلطة، ينمّي المثقّف حساسيّةً نقديةً تقوده إلى منفاه الذي لا يملك فيه إلا كلمته. درويش، يتحدّث مرّةً أخرى في فيلم سيمون بيتون، عن واجب المثقف النبيّ وقدرته على مقاومة إغراءات السلطة:
طلب مني مرّة الأخ أبو عمّار أن أكون وزيراً. فرفضت وتناقشنا كثيراً. وقال لي هذا المثل: «ماذا أضرّ مالرو أن يكون وزيراً في وزارة ديغول؟». قلت هناك ثلاثة فروق على الأقل: فرنسا ليست الضفة الغربية وغزة. ثانياً، وضع نابوليون… وضع شارل ديغول هو ليس وضع ياسر عرفات. وثالثاً، أندريه مالرو ليس محمود درويش. هي فروق صغيرة. ولكن إذا وصلنا إلى مقاربات أن تكون دولة فلسطين دولة عظمى كفرنسا وأن يكون ياسر عرفات شارل ديغول، وأنا في حجم أندريه مالرو، في ذلك الوقت أفضّل أن أكون جان بول سارتر.
, https://youtu.be/NklTWZrpE6g?t=3056]
هنا، يرفض المثقف التماهي مع السلطة. فقط حين تصبح فلسطين مستقلّةً ويتمتّع عرفات بالاستقلالية التي كانت لديغول، ينظر المثقف في مسألة تصالحه مع السلطة. لكن حتى عندها، فإنّ المثقّف الذي يقدّره درويش ليس مالرو، بل جان بول سارتر. يذكّر درويش عرفات هنا أنّ مالرو، وزير الثقافة خلال احتجاجات أيّار 68، كان على الضفّة الأخرى من الحق. لم يكنْ يقود التظاهرات مع سارتر، المثقّف الملتزم والمعادي للاستعمار، بل كان يقف في مواجهته.
بخلاف مالرو الذي يقبع جثمانه في البانتيون، فإنّ سارتر الذي يفضّل درويش محاكاته يرفض التكريس الذي يرى فيه معادلاً للاحتواء من قِبل السلطة. المثقف المتواجد في خيال درويش، كما في خيال صديقه إدوارد سعيد، هو إذاً المثقف الذي يرى في المسافة التي تفصله عن السلطة شرطاً لتشكّل رؤية نقدية جديدة.
تبدو قوّة التمثيل والنطق باسم القيم المطلقة قضايا مركزيةً في الإرث الدرويشي، أقلّه في أطواره الأولى. فشرعيّة درويش، كمثقّف نبيّ، تنبع تحديداً من قدرته على التمثيل، والتنوير، وقيادة الذين لا صوت لهم، أولئك المنفيين التائهين الذين تشير إليهمْ سيمون بيتون في المشهد الافتتاحي. بهذا المعنى، يبدو المثقف، كما تخيّله إدوارد سعيد، شخصاً «لديه القدرة التمثيلية، يحمل رسالةً أو رؤيةً أو موقفاً أو فلسفةً أو رأياً، ويعبّر عنها للجمهور ومن أجل الجمهور»
مرّةً أخرى، يُظهر لنا درويش كيف يتمّ ذلك. ففي صيف 1982، شهد الفلسطينيون إحدى أسوأ محطات الحرب الأهلية. من الحصار الإسرائيلي لبيروت إلى سقوط المدينة وانسحاب آلاف الفدائيين الفلسطينيين عبر البحر نحو تونس، انتهاءً بمجزرة صبرا وشاتيلا. مع تهجيرهم الجديد، فقد الفلسطينيون كلّ شيء إلا شاعرهم النبيّ.
فبعد بضعة أشهر على الخروج الفلسطيني من بيروت، يظهر درويش في قاعة مكتظّة في الجزائر، واقفاً أمام ياسر عرفات وعشرات القادة الممثّلين لفصائل سياسية مختلفة. وفي لحظة درامية تنضح بالمرارة، والفخر والحداد، وتُقارِبُ التجديف، يلقي درويش قصيدته الملحمية مديح الظلّ العالي التي يتناول فيها شخصية الفدائي محاكياً سورة العلق:
,
هذه آياتنا، فاقرأُ
باسم الفدائيَّ الذي خَلَقَا
مِن جزمةٍ أفقاباسم الفدائيَّ الذي يَرحَلْ
من وقتِكم.. لندائِهِ الأوِّلْ
الأوَّلِ الأوَّلْ
سَنُدمِّرُ الهيكلْ
باسم الفدائيِّ الذي يبدأْ
إقرأْ
لا ينطق الشاعر النبيّ هنا باسم الله، بل باسم الفدائيّ. وفي تأليهه للفدائيّ، يكرّس درويش نفسه مرّةً أخرى نبياً أرسل ليحمل كلمة الفدائيّ ويقود شعبه المنفي نحو النصر. كشاعر نبيّ، يستخدم درويش الكلمة، تحديداً الآية، وسيلةً للتحرّر. يستخدم الآية الشعرية لينطق باسم الفدائيّ-الإله، من أجل الشعب الفلسطينيّ المنفيّ، في مواجهة إسرائيل وأنظمة القمع العربية. بمعنىً آخر، لا ينطق بالحقيقة في وجه السلطة فحسب، بل ينطق بالنصر أيضاً. هكذا تترسّخ نبوّة المثقّف في أيقنة لاهوتية، إذ تستند إلى مفاهيم توراتية عن المنفى، وفضاءات لاهوتية كجبل نيبو، وإلى مركزيّة الكلمة في الخطاب الخلاصي.
فكما يقف الشاعر النبيّ على جبل نيبو، يحمل المثقف نبوةً: إنّه الرسالة، والجماعة، والحقّ معاً. إنّه قوّة حديثة وقوّة تحديثية، مثقّف يُعلْمِنُ ما هو إلهيّ بفضل قوّته وقدرته المطلقة على قيادة التغيير. إنّه عليم، والأهمّ أنّه موجود في كل مكان لأنّه طيف، بمعنى أنّ لديه القدرة، لا للتعبير بوضوح عن تجربة العرب المأسوية مع الحداثة، بل أيضاً للاستمرار في الطوفان حول زمننا المعاصر.
تقويض المثقّف-النبيّ
تتمثّل المعاصرة في سرديّة عريب طوقان عن محمود درويش في لحظة تحيّته لريتسوس ولحظة اقتحام السلطة لكلمته. في الواقع، لم تؤدِّ نبوّة درويش إلى المستقبل الذي تصوّرَه. ولم تؤدِّ صورة المثقف- النبيّ إلى التحرّر والحرية والعدالة. في اللحظة المعاصرة هذه، بات الإيمان بالتغيير التاريخيّ الذي يستند تحديداً إلى الانتقال بالزمن بشكل انسيابيّ وثابت من الماضي إلى الحاضر ثم إلى المستقبل، أي ماضي الوحدة وحاضر المأساة ومستقبل التحرّر، بات هذا الإيمان مستحيلاً.
ولكنْ كيف نعرف ذلك؟
نعرف لأنّنا الآن، هنا، داخل هذا المستقبل نفسه. ننظر إلى مَشاهد جبل نيبو ورام الله والجزائر سنة 2020، من لحظة معاصرة تسودها الانقلابات والثورات المضادة والمجازر، لحظة لا تزال فيها كلمة الملوك والمستبدّين هي الطاغية. يقوم الحاضر على أنقاض هذه النبوءة. حاضر يقع بين الماضي والمستقبل، لكنّه حاضر بات الزمن فيه مشلولاً. إنّها التجربة المعاصرة للتاريخ والزمن كما تُحدّدها معالم الخراب والخسائر المتلاحقة. فيصبح السؤال إذاً: ماذا يحدث حين يتعطّل التحوّل الطبيعيّ بين الماضي والحاضر والمستقبل، حين لا تتحقّق نبوءات الماضي؟ حين نقف اليوم في مستقبل نبوءة درويش، نسأل: كيف يظهر المثقف- النبيّ الذي لم تتحقّقْ وعوده التحرّرية في الأدب المعاصر؟ كيف يصوّر الأدباء المعاصرون أنقاض تلك النبوءة؟
تشكّل التجربة العربية ما بعد التسعينيات منظوراً زمنياً لا يرتكز إلى الصدمة، بل إلى مُعايشة الهزيمة. إنّه منظور زمني قائم على الأنقاض، على لحظة الما بعد، ما بعد الحرب الأهلية اللبنانية (1990)، ما بعد حرب الخليج (1991)، ما بعد اتفاقية أوسلو (1993).
فإذا كان مثقف النهضة والمثقف اليساري الملتزم يشكّل وعي الحداثة، فإنّه قدْ أصبح في روايات رشيد الضعيف، من عزيزي السيد كواباتا إلى تبليط البحر، صورةً مشوّهةً عنْ نفسه، هزيلاً، تائهاً. وإذا كان المثقف في مراثي إلياس خوري أضحيّةً تقدّم حياتها وموتها قرباناً لخلاص الجماعة، فإنّه قد أصبح في روايات ربيع جابر، خصوصاً تلك التي صدرتْ في التسعينيات، فرداً عاديّاً فقدَ كلمته ودلالته، كئيباً، خارج جماعته وبعيداً عن النبوءة.
لم تظهرْ أزمة الذات المثقّفة بسبب العنف الطائفي وحده كما في حالة لبنان، بل تحرّكت أيضاً بفعل الحلقة الأخيرة من سلسلة الهزائم السياسية المتتالية التي طالت القوميّة كأيديولوجيا توحيدية وتحرّريّة. لقد أدّى ذلك إلى نوع من المصالحة مع التقليد غير العلمانيّ الذي كان خارج حقل الرؤية. فبدأ الرجوع إلى الخطاب الإسلاميّ والطائفيّ، وإعادة الكلمة إلى المثقف والمناضل الديني. ويظهر ذلك في بعض الروايات السعودية كـ الآخرون للكاتبة صبا الحرز، وكذلك في رواية يا مريم لِسنان أنطون، ومديح الكراهية لِخالد خليفة، وقصص حسن بلاسم، التي تقارب أدبياً، وبدقة، المسألة الطائفية التي غيّبتْها السرديات القومية والعلمانية في الأدب الحديث.
أمّا في مرحلة «ما بعد أوسلو»، فلم يَعُد المثقّف المنفيّ إلى فلسطين القصائد الدرويشية ولا إلى فلسطين قصص غسان كنفاني، بل إلى «الأراضي الفلسطينية»، ذاك الكيان الذي لا يستحضر تحرّراً ولا استقلالية. وفي سياق التحرّر المجهض والعودة المنقوصة للشعب المنفيّ، بدأتْ صورة المثقف المنفيّ تتهشّم على يد جيل جديد من الكتّاب الذين ساءلوا التمييز التاريخيّ الأخلاقي بين اللاجئ والمنفيّ، تلك الصورة التي ورثناها عن الثلاثيّ الفلسطينيّ المنفيّ، جبرا ابراهيم جبرا وإدوارد سعيد ومحمود درويش.
يظهر ذلك في أعمال علاء حليحل، وإيليا سليمان، وراوي حاج التي تشهد على تحوّل خطابي نابع من خيبة جيل قام على خراب خطاب النبوءة والمنفى. إضافةً إلى هؤلاء، بدأ كتّاب سوريون يعيشون بين بيروت وباريس وبرلين برفض تلك القسمة الواضحة بين المنفيّ واللاجئ، وهمْ بذلك يُسائلون سلطة المثقّف المنفيّ ويقتحمون حدودها بهويّات جندرية وجنسية ومناطقية مختلفة. فالمنفى، كما بتنا نعرف، لم يعدْ حِكراً على المثقف.
ركام النبوءة
ثمّة تمثّلات عديدة للمثقف- النبيّ في الأدب المعاصر، كما أشرتُ أعلاه، لكنّها تُستخدَم في معرض التقويض. يبدأ التقويض ببناء صنم للمثقف النبيّ الذي مثّله درويش حقّ تمثيل، صنم يُرفَع بدقّة ليجسّد أيديولوجيات التحرّر، إنّما ليشار لاحقاً إلى فراغه وفراغ خطابه. لكنّ حرق الصنم، بهذا المعنى، ليس فعل بتر أو محو أو إسكات، بل هو أشبه بفعل تطهّر. يستكشف فقدان النبوءة من جهة، ويعلن نهاية مرحلة، من جهة أخرى. إنّها جلسة يُستحضَر فيها شبح المثقف ليتمّ استئصاله لاحقاً.
يبدو الكتّاب المعاصرون نقديّين، لكنّهم يعبّرون عن نقدهم لنمط المثقّف- النبي بوقار ودقّة. يتحدّثون عن أيقنة المثقّف النبي، ويشيرون في الوقت نفسه إلى حدودها. يقرّون بمسحتها الرومنسية، ويستمتعون بانحسارها. باختصار، إنّهم يذكّروننا بالوعود الماضية لهذه النبوءة ويؤرخون نهايتها.
هكذا، يشكّل الكتّاب المعاصرون خطاباً نقدياً مضادّاً. فالمفاهيم المتعلّقة بالمثقف- النبيّ كفاعل تحديثيّ، وبالالتزام السياسي كشكل وحيد للأدب، وبالمنفى كمحفّز للتغيير، وبالقومية والعلمانية كأيديولوجيات تحرّرية، قد تداعت حيويّتها النقدية وباتتْ من عوارض خطاب سياسي بائد، وبالتالي محوراً للتفكيك والتقويض. حين يتبنّى الكتاب المعاصرون طرحاً مغايراً لمفهوم السياسة، فإنّهم يحوّلون النقد من خطاب قومي وعلماني وعقلاني، يؤمن بخط بياني للتاريخ، إلى آخر يرى السياسة في خلخلة التسلسل البياني، في خطاب عابر للحدود القومية، متمرّد على علمانيّة فجّة، ويحمل بُعداً انفعالياً يتصدّر فيه الشخصي السياسي.
في ثنايا النقد الذي يتكشّف في الأدب المعاصر هناك همّ جماعي في مساءلة قدرة الكلمة- سواء كانت سردية أو شعرية أو فلسفية- على تحقيق الخلاص الجماعي. تبدو اللحظة المعاصرة لحظة ينظر فيها الكتّاب إلى ذاتهم وإلى الماضي معاً، يبحثون فيها فوق ركام المثقف النبي عن تجربتهم المعاصرة. وعليه، فإنّ حرق صنم المثقف- النبي هو، كما الكتابة، فعل خاص وسياسي وعامّ معاً. هو حفلة زار جماعية للخروج من حالة مسّ فرديّة، حفلة زار تحاول انفعالاتها إقصاء الصنم وأطيافه من اللحظة المعاصرة.
ترك لنا محمود درويش إرثاً مكتملاً، مكتملاً لأنه يحدّد معايير تكريسه ولا يلبث أن يتخطاه ويعلن نهايته. ففي أطواره الشعرية الأخيرة، ولا سيما في في حضرة الغياب (2006)، يشرع درويش في رثاء ذاته وترك وصية للشعراء الذين ألهمهم. ينظر إلى الماضي ويتحسّس معالم مستقبل يرى نهاية طريقه فيه، أو يرى بداية المستقبل بلحظة غيابه هو. قد نقرأ في هذا النص الاستشرافي اعتراف درويش بنهاية نبوّته، هو الذي جُرِّد من نبوءته، من احتكاره للكلمة، وقدرته على قول الحقيقة بوجه السلطة.
يعود إلينا بين الحين والآخر طيف محمود درويش، في مراثي شعراء مخضرمين أو مذكرات أصدقاء قدامى. ولكنه لا يلبث أن يتلاشى. ففي الزمن المعاصر الذي يقوم على حطام أزمنة سابقة، قد يظل النبي واقفاً على جبل نيبو يتأمّل أرض الميعاد، لكنّه يعرف، قبلنا، إنّ نبوّته قد خُتِمَت.