يكتسب تجمّع النساء حول القضايا التي تخص حقوقهنّ وحرياتهنّ أهمية خاصة، لأن هذه التجمعات تساهم في ردم الفجوة المعرفية حول حاجات النساء النفسية والجسدية، وفي خلق شبكات الدعم الاجتماعي من حولهنّ. ويزداد هذا الأمر صعوبة بالنسبة للاجئات السوريات والقادمات حديثاً إلى ألمانيا، بعد تجربة اللجوء وانعدام الاستقرار والانفصال الجغرافي عن دائرة العائلة والأصدقاء والصديقات. إلى أين يمكن للنساء السوريات، والسيدات الناطقات بالعربية عموماً، في برلين أن يتوجهن إذا ما أردنَ الانخراط في تجمّع نِسوي ما، أو إذا احتجنَ إلى استشارة بخصوص قصصهنّ أو تجاربهنّ؟ وما هي الأهداف المستقبلية التي لا بدّ من أخذها في عين الاعتبار عند الحديث عن تجمعات نِسوية في مجتمعات اللجوء؟

بعد البحث في موضوع البرامج والمشاريع الناطقة بالعربية، التي يمكن للنساء اللاجئات السوريات التوجّه إليها في ألمانيا، سنتطرق إلى مشروعين، أولهما مشروع Space 2 Grow الذي تأسّس في برلين عام 2017 بجهود من السيدة  عناب محمد من الصومال، وكان اسمه في البداية Child Spacing. تَحدّثنا بخصوص هذا المشروع مع زينة مسعد من سوريا، وهي عضو أساسي في المشروع منذ أن انضمّت إليه عام 2018. يهتم مشروع Space 2 Grow بالصحة الإنجابية والجنسية للنساء، وهو موجه للمهاجرات واللاجئات، ويقدم خدماته بعدة لغات منها  اللغة العربية.

أما المشروع الآخر فهو مشروع نسوة-الفصل الأول، الذي بدأ في برلين عام 2019 وتديره الكوريوغراف مي سعيفان. يتخذ هذا المشروع شكل ورشات عمل حول موضوعات محددة خلال أيام العطل الأسبوعية، وتجمع هذه الورشات نساء سوريات مقيمات في برلين، وتتابعها عبر الانترنت نساء من داخل سوريا، وتحديداً من المناطق الشمالية.

من أين نبدأ؟

خلال لقائنا مع ميّ سعيفان، مديرة مشروع نسوة-الفصل الأول، أشارت إلى وجود عدد كبير من القضايا الملحّة، التي لا بدّ من العمل عليها فيما يخص قضايا النساء ومعاناتهن. وثمة مشكلة تكمن في أن حقل العمل النِسوي واسع جداً، والنقص فيه كبير للغاية، ما يجعل من أي مبادرة أو مشروع أمراً ضرورياً في هذه المرحلة. بالإضافة إلى ذلك، هناك سبب آخر يجعل الإجابة على سؤال «من أين نبدأ؟» أمراً معقداً، وهو الطيف واسع الحضور للسلوكيات والعقليات الذكورية في تفاصيل حياتنا اليومية، والتي ليس من الضروري أن تتجلى بالعنف الجسدي أو التحرش، بل يمكن أن تكون سلوكيات بسيطة في تفاصيل حياتنا، اعتدنا على القبول بها وكان من الصعب في مراحل سابقة تسميتها وتصنيفها على أنها سلوكيات ذكورية.

من جهة أخرى، صُبغت مشاريع العمل النِسوية، النوادي النسوية وحتى دعم النساء لبعضهن بعضاً، بصفات تختزل العمل النسوي وتبسّطه إلى حد كبير، وذلك يعود في جزء منه إلى أخطاء وقع فيها مؤسسو  ومؤسسِّات مشاريع نِسوية، بالإضافة إلى إشكاليات متجذرة في البنية العميقة للعمل النسوي.عندما سألنا زينة مسعد من مشروع space 2 grow المعني بالصحة الإنجابية والجنسية للنساء عن الأسباب التي كانت وراء تأسيس المشروع، أجابتنا: «من المؤسف أن كلمة تمكين قد صارت كلمة تبسيطية وفارغة من معناها، والجميع يقولها بسخرية، إلا أن الهدف الأساسي من المشروع، فعلاً، هو تمكين المرأة وتعميق معرفتها بجسدها، وبخيارات الإنجاب أو عدم الإنجاب لديها». وتحكي لنا زينة مسعد مثالاً عن الحاجات الماسّة لدى النساء، لا سيما اللواتي جئنَ من بيئات محافظة جداً أو بيئات لا تحترم حقوق النساء: «في إحدى المرات سألتني واحدة من السيدات في إحدى الورشات عن فترة الحمل وكم تستمر. نعم، حتى يومنا هذا هناك نساء ينجبنَ ويتحمّلنَ مسؤولية تربية أطفال، لكنهنّ لم يكنّ يعرفنَ مدة الحمل قبل خوض التجربة». إلى هذه الدرجة حاجاتنا ماسّة ومتفاوتة.

في الخريطة الحالية للعمل النِسوي مع المهاجرات واللاجئات، يتركز العمل النسوي في أغلبه على الجانب التوعوي، والجانب الإسعافي مع النساء ضحايا الاغتصاب أو العنف الجسدي. وبسبب النقص الكبير في تغطية الجوانب الملّحة من العمل النسوي، تقترح مي سعيفان «ضرورة ترتيب الأولويات والتفكير بمشاريع تخاطب النساء وتتواصل معهنّ على نحو أقرب وأعمق. عندما بدأنا في مشروع نسوة-الفصل الأول كانت الفكرة الأساسية هي تطوير المهارات القيادية للنساء السوريات، فنحن لا نقدم خدمات في المشروع، لكن اجتماعاتنا هي عبارة عن ورشات عمل ونقاشات مطولة حول مسائل تتعلق بتأهيل السيدات لتسلّم المناصب القيادية، بالإضافة إلى تركيز الجهود على التشبيك مع مؤسسات معنية بالموضوع نفسه على الصعيد المحلي والعالمي. لكن إلى جانب هذا، كان العصف الذهني الجماعي مع النساء المشاركات أمراً ضرورياً لفهم حاجات ورغبات النساء الحالية، فذلك يساعدنا أيضاً في تصميم المشاريع المقبلة».

صحة الجسد النسوي

«تحتفظ أجسادنا بذاكرة وعلامات عن الخوف والغضب والتوتر جراء صدمات مررنا بها، وتُخزَّن في اللاوعي. قد يبدو لنا أننا نسيناها، إلا أنها تطفو على السطح في كل مرة يستفز فيها الخوف داخلنا». لا تتطرق مي سعيفان في حديثها هذا إلى صحة الأجساد في معرض الحديث عن إجراءات إسعافية لإنقاذ النساء المعنفات، ولا عن صحة الجسد بوصفها كماليات يمكن التفكير فيها لاحقاً، بل إن صحة الجسد التي تؤكد عليها سعيفان نابعة من ضرورة معرفة النساء لأجسادهنّ، وأجزاء الجسد التي تتشنج تلقائياً عند التوتر: «غالبية النساء لا يعرفن كيف يتنفسن بهدوء وعمق. كثيراً ما يتمحور تركيزنا على الأشخاص المحيطين بنا، متناسين أثناء ذلك حاجاتنا الشخصية».

تبدأ أغلب جلسات مشروع نسوة بتمارين التنفس والاسترخاء، لأنها تساعد النساء على التآلف مع أجسادهن ومعرفة نقاط القوة وأماكن الضعف، كما أن تطوير حساسية النساء تجاة الإشارات التي يوجهها الجسد يُمكّنهنَّ من تفسير شعورهنّ بعدم الارتياح، أو الانزعاج؛ وإدارة مشاكل التواصل مع الآخرين وجعل حضورهن في الأماكن العامة أكثر تماسكاً واتساقاً. إدخال هذه التمارين لم يكن اعتباطياً بل كان مدروساً بعناية، لأنه جاء بالاستفادة من معرفة سعيفان العميقة والمتطورة بالجسد، والتي تعود جذورها إلى عالم الرقص والكريوغرافيا والمفاهيم الجسدية الذي احترفته منذ مدة طويلة، مما أثر على وعي سعيفان بعلاقتها مع الجسد: «لا سيما في ظل التركيز الدائم على تشتيت ذهن النساء بسبب التفكير الدائم حول المظهر الخارجي في الاجتماعات والأماكن  العامة، ماذا يرتدين؟ هل المظهر لائق ومناسب للكودات المجتمعية؟ لكن قلّة من المشاريع تعلم النساء تمارين وتقنيات تجعل علاقاتهنّ مع أجسادهنّ أكثر ارتياحاً وعمقاً وتصالحاً».

أما في مشروع  Space 2 Grow الذي يركز اهتمامه على قضايا الأمومة والإنجاب، ويؤكد على أنهما خياران قابلان للتخطيط والتنظيم، ويحملان قدراً من المخاطر والمسؤوليات التي تقع على عاتق النساء في جزء كبير منها. تذكر لنا زينة مسعد بعضاً من الصعوبات التي واجهتهن في بدايات المشروع، خاصةً من ناحية الوصول للفئة المستهدفة من النساء «اللواتي كنّ يتجاهلن الدعوات المرسلة إليهن، أو لا يرغبن بحضور جلسات عن مواضيع سبق وسمعن عنها، وذلك جعلنا في بعض الأحيان نزورهنّ شخصياً في الغرف التي يعيشنَ فيها وندعوهنّ لحضور الجلسة». عن التواصل وسهولته واللغة المشتركة تقول مسعد: «سهّلت اللغة العربية التواصل بيننا وبينهن. كان من المريح بالنسبة للنساء السوريات أو القادمات من مناطق عربية أخرى الاستماع والنقاش في مواضيع حساسة، وخاصّة بلغتهنّ الأم، لأن نقاشها باللغة الألمانية قد يكون صعباً بالنسبة لبعض النساء حتى لو كنّ قد تعلمن اللغة، ويسبب لهنّ مزيداً من التوتر أو الملل عند حضور الجلسات». لا يقدم مشروع Space 2 Grow جلسات توعوية فحسب، بل أيضاً خدمات وساطة تعمل على إيصال النساء مع أطباء وطبيبات، وأيضاً مع مراكز تقديم استشارة، أو حتى مساعدتهنّ في تأمين مواعيد في العيادات النسائية للسيدات اللواتي لديهن حاجات مستعجلة، كما في حالات السيدات اللواتي لا يرغبن بالحمل، أو يسعين للإجهاض.

من يتخذ القرار وكيف؟

في الجلسات التوعوية الموجهة النساء، وعندما تكون إحداهنّ هي ضحية عنف أو تحرش، كيف تتخذ هذه السيدة القرار بتغيير حياتها، أو مشاركة تجربتها الخاصة إذا كانت ضحية عنف مثلاً، أو ربما حتى الاستمرار بالصمت؟ وجهّتُ هذا السؤال حول آلية اتخاذ القرار بتغيير الأوضاع  لزينة مسعد، وكان جوابها: «المشروع بدأ بالتركيز على الصحة الإنجابية، إلا أنه تطور وصار أكبر مع الوقت، لا سيما وأن الأسباب والقضايا تتداخل فيما بينها. في الواقع، لا يمكننا اتخاذ القرار عن النساء، لكننا نحاول توعيتهنّ بالحقوق المتاحة وخلق منطقة آمنة يمكنها أن تحميهم، كما أننا نحافظ على علاقة تواصل بيننا وبينهنّ، ونتحدث معهنّ حتى بعد انتهاء الجلسات ونبقى جاهزات في حال طلب المساعدة». تضيف مسعد: «في أحيان كثيرة يحدث أن النساء يعرفنَ تماماً رغباتهنّ، كما حدث في إحدى المرات بعد انتهاء جلسة، إذ جاءت إحداهن وهمست لي أنها حامل وتريد الإجهاض لأنها لا ترغب بإكمال حياتها مع زوجها الحالي. في هذه الحالة، السيناريو واضح في ذهن السيدة، والقرار متخذ أساساً». وعندما سألنا زينة عن كيفية العمل مع النساء في فترة الحجر الصحي بسبب أزمة الكورونا أجابت: «خلال شهري آذار ونيسان اتصلت بنا حوالي 5 سيدات معنفات يطلبن منّا إخراجهن من منازلهم في أقرب وقت ممكن بسبب ما يتعرضن إليه من عنف الشريك، وكان علينا التواصل مع مؤسسة (Frauen Haus) -بيت النساء- من أجل تأمين مكان آمن لهنّ خلال ساعات قليلة». هذه الحالات، وغيرها من التي صادفت زينة، هي حالات مؤسفة فعلاً، وفي تقديرنا تدل على ما هو أوسع من العنف الجسدي الذي ظهر في فترة الحجر الصحي: هؤلاء السيدات في حالة تعرض دائم للخطر والعنف المحتمل في بيوتهن، إلّا أنهن لم يتحدثن ويشاركن الآخرين إلا عندما لم يعد الأمر محتملاً. 

كيف نخرج من الاكتئاب السياسي؟

بدأت نِسوة مشروعها الأول انطلاقاً سؤال افتراضي مستقبلي هو:«ماذا لو أردنا تأسيس نظام سوري نِسوي، نظام تتسلم النساء مناصب قيادية في الحياة السياسية؟ ما هي المهارات التي يحتجنَ إليها فعلاً؟ وما الذي يقف في وجه تخيّل هكذا فكرة بحيث يجعلها تبدو مزحة أو ضرباً من الخيال؟». استمرّ هذا المشروع لمدة 8 أشهر انقسمت إلى  4 أشهر تحضير و4 أشهر تنفيذ وعمل مع المشتركات، وتم تشجيع النساء فيه على تخيل نظام سياسي جديد، تكون فيه النساء (برؤاهنّ وحاجاتهنّ وحتى عواطفهنّ) شريكات في عملية القيادة والإدارة. انطلقت سعيفان في مشروعها هذا من زاوية مختلفة، تتمحور حول ما تسميه الاكتئاب السياسي الذي أصاب السوريين والسوريات بسبب ثقل الإحساس بالعجز، مضافاً إليه الشعور بالاغتراب والعزلة بعد اللجوء إلى ألمانيا. بالنسبة لمي، الأمر أشبه بـ «محاولة للخروج من العزلة الفردية والتجمّع سوية مجدداً، ومحاولة العصف الذهني الجماعي من أجل اكتشاف إمكانيات الفعل الجديدة»، وتتابع: «بالنسبة لي، كان مذهلاً إصرار بعض السيدات المشاركات معنا من إدلب، واللواتي يحضرن الورشات افتراضياً حتى في أقسى ظروف التهجير والترحيل. تجلس الواحدة في أقسى الظروف، لتتابع جلسة لا تقلّ مدتها عن 5 ساعات».

من أجل ذلك، من أجل أن نفتح أعيننا على ضرورة التفكير في سبل جديدة تجمع بين قضايا النساء السوريات، والتوصل إلى صيغ أخرى من العمل تهدف إلى إشراك السيدات في الحياة العامة والسياسية، تطمح سعيفان في المشاريع القادمة لجمعية نسوة للوصول إلى صيغ أخرى في الورشات والمشاريع، تجمع بين فنون الأداء والممارسة المجتمعية والسياسية، في محاولة لتأسيس ما أطلقت عليه تسمية الناشطية الفنية النسوية، واستخدام أشكال إبداعية وأدائية من أجل لفت انتباه الناس والرأي العام لقضايا مستمرة، لا تنحصر في التمييز والعنف الجسدي والإقصاء ضد النساء، بل تتشعب إلى قضايا أخرى تضامنية مع الفئات الأكثر هشاشة في المجتمع.