في تقرير حديث لها، قدرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان أن نحو 1.2 مليون سوري مروا بــ «تجربة الاعتقال» منذ بداية الثورة السورية في آذار 2011، ومن المحتمل أن 130 ألف منهم لا يزال قيد الاحتجاز: (120 ألفاً بحسب آن برنار في نيويورك تايمز). تُقدِّرُ الشبكة أيضاً أنه قُتل في المقرات الأمنية نحو 14 ألفاً (13 ألف حتى آخر 2016، بحسب منظمة العفو الدولية). الباقون ممن مروا بـ «تجربة الاعتقال» اعتقلوا لأسابيع أو أشهر أو سنوات قبل أن يُفرَج عنهم، أو هم ممن لا يُعلَم مصيرهم. هذه المعطيات، وبخاصة ما يخص عدد من مروا بـ «تجربة الاعتقال» مهمة، لأنها تعطي فكرة عن جهد النظام الكبير لإعادة بناء «جدار الخوف» الذي كان أهم ما تغلَّبَ عليه السوريون في الثورة. وكذلك لأن «تجربة الاعتقال»، هي مؤشر أهم على «حكم العنف» من عدد المعتقلين الراهن وحتى من المجازر، وقد تكلمت عليهما سلوى اسماعيل من جامعة SOAS في كتاب لها عن سورية صدر عام 2018 بعنوان حكم العنف. لكن حتى عدد من خبروا «تجربة الاعتقال» لا يغطي كل من مروا بما أسميه «تجربة أمنية»، إذ يغيب من العدد، رغم ضخامته، من استُدعيوا إلى أجهزة المخابرات فهُدِّدوا وخُوِّفوا، أو من تم تشغليهم كمخبرين، أو من تداركتهم أسرهم الميسورة بالمال الكثير فور اعتقالهم. وهو يكاد يشمل جميع السوريين البالغين. تعطي هذه المعطيات شرعية كافية للكلام على نظام لقتل السياسة أو للإبادة السياسية (Politicide).
ولم يكن هناك خلال نصف قرن من حكم السلالة الأسدية اعتقالٌ من دون تعذيب، بما يُشرِّع كذلك الكلام على «سورية الأسد» كدولة تعذيب، وعلى التعذيب كمنهج حكم. هذا ليس مستمراً إلى اليوم فقط، ولكنه يعود مُعزَّزاً بحماية من دولتين لم تُعرفا بالتسامح مع المعارضين فيهما: روسيا وإيران. لقد ضاعت السيادة الوطنية، لكن بقيت السلالة الأسدية. وبقدر ما إننا حيال نظام يقوم (فضلاً عن التعذيب والخوف) على التمييز الطائفي، أي التمييز وفق الهوية الموروثة، فإنه يتطور تلقائياً في مواجهة الاعتراض عليه إلى نظام قتل على الهوية، وفقاً للتعبير العربي الذي يصلح تعريفاً للإبادة، أو الجينوسايد. ليست الإبادة السورية أكبر من الجينوسايدات الكبرى في رواندا وكمبوديا وقبلهما الهولوكوست، لكن لها خاصية مشؤومة تضعها في موقع ينافس هذه الإبادات، وقد تتفوق على بعضها: إن دولة الإبادة مستمرة ومحمية دولياً، ولا تتعرض لأي تهديد يستهدف نظامها. النازيون أُسقطوا وحُوكم من لم يُقتَل أو ينتحر منهم. نظام بول بوت أُسقط باحتلال فيتنامي عام 1979، حكم الهوتو أُسقط بعد شهور قليلة من الإبادة التي أودت بحياة 800 ألف إنسان خلال 100 يوم من عام 1994، أما في سورية فيستمر النظام نفسه الذي قتل في تقديري بين 600 و700 ألف إنسان، ويستمر معه القتل والتعذيب، يستمر التهجير، يستمر بقاء نحو 6.6 مليون لاجئ خارج سورية، منهم نحو مليون في أوروبا هم المعنيون بعبارة «أزمة اللاجئين» الشهيرة. وكل ذلك بنوع من الكفالة الدولية، بحكم وجود قوات أميركية وروسية وإيرانية وتركية وإسرائيلية في سورية، فضلاً عن ميليشيات من العراق ولبنان وتركيا، وفضلاً عن قوات خاصة فرنسية وبريطانية. لا نستطيع التنبؤ بالمستقبل، لكن بقاء النظام الذي قتل حين كنتُ في عشرينات العمر عشرات الألوف، ثم قتل وأنا في الخمسينات مئات الألوف، ينذر بقتل الملايين في جولة صراع قادمة.
هناك استمرارية بين موجات القتل هذه: الأسرة الحاكمة نفسها، نظام الاستثناء ودولة اللاقانون نفسها، منهج التعذيب نفسه، والإفلات من العقاب نفسه. لكن هناك كذلك استمرارية بين تجاربنا في ظل النظام: السجن والتعذيب والقتل، وصولاً إلى التغييب القسري واللجوء والمنفى. خلال سنوات الصراع ظهر مُعتقِلون ومُعذِّبون ومغيِّبون آخرون، إسلاميون، قلّدوا النظام في ممارساته، وكان من نصيبي أن خُطفت زوجتي سميرة الخليل وأخي فراس الحاج صالح وأصدقاء لي على يد مجموعتين منهم: جيش الإسلام في دوما قرب دمشق، وداعش في الرقة. كنتُ أرجو تجنب هذه الكأس المرة، أما وقد وقع ما وقع، فالمحارب القديم، وإن يكن مُوجَع القلب، ماضٍ في الصراع إلى النهاية، مستميت. هذا صراع من أجل حياة سياسية تقوم على التعدّد، وبلد لا يختنق الناس فيه، يعيشون فيه بكرامة. كانت كلمة الكرامة هي العنوان لثورة السوريين حتى عام 2013، وقت تغييب سميرة وفراس وأصدقائنا.
لقد جعل إلغاء التعدد من البلد سورية بلداً أصغر وأضيق بكثير مما هي في الواقع. لبنان المجاور، الأصغر من سورية بكثير مساحة وسكاناً، يبدو أكبر منها بفعل تعدّده، وإن لم يكن تعدداً معافى بقدر ما ينبغي. هذا واقع متفاقم في سورية اليوم بعد إعادة بناء جدران الخوف. وما كان سجناً كبيراً قياساً إلى السجون الصغيرة التي كنتُ فيها هو اليوم أقرب إلى واحد من هذه السجون الصغيرة. أُقِرُّ أني كنتُ أتحفّظُ على عبارة السجن الكبير لأنها بدت لي أقل احتراماً للحياة الشاقة في السجون، عبر تصورها كمجرد أمكنة أضيق أو أصغر. ومن وجه آخر، كان يبدو أن تعبير «السجن الكبير» تسويغ للتقاعس عن تغيير أنفسنا، وعن الانعتاق من سجوننا الداخلية، في شروط لا تحول جذرياً دون ذلك، على مستوى أفراد على الأقل، ما دامت لم تَحُل دونه في «السجن الصغير» ذاته، على ما آمل أن يرى قارئ هذا الكتاب. لكن سورية كانت بالفعل بلداً أشبه بالسجن من وجهة نظر التحرّر الاجتماعي والسياسي، والنضال ضد التمييز ونهب الموارد الوطنية، ومن أجل الحريات العامة والعدالة. هذا ظهر بوضوح بعد الثورة، حين أخذ السجان العام يعتقل ويعذب ويقتل محكوميه، إلى درجة أن فرص النجاة من سوء المصير صارت مقرونة بالرضوخ له والقبول بالتبعية السياسية الكاملة، أو بالفرار من البلد واللجوء في بلدان قريبة أو بعيدة. وبعد أن كانت سورية بلداً لا يُعاش فيه سياسياً، تتجه اليوم لأن تكون بلداً لا يُعاش فيه اقتصادياً، يموت الناس فيه من الفقر والجوع والمرض.
انتهى بي الأمر شخصياً إلى ألمانيا، بعد نحو أربع سنوات في تركيا التي كانت تفضيلي الأول، وذلك لجوارها لسورية، ولأن التعلُّمَ عن تركيا التي كانت لا تزال تعرض وقت تهريبي إليها في أكتوبر 2013 تعددية سياسية معقولة وأوضاعاً اقتصادية جيدة وانفتاحاً طيباً على العالم، يمكن أن يكون أنفعَ وقت العودة المأمولة إلى سورية من المعرفة عن ألمانيا أو فرنسا وبلدان أوروبا الغربية، وهذا بحكم المشتركات التاريخية والتقارب الجغرافي والاجتماعي والثقافي. لكن عام 2016 وما بعد شهد قدراً متصاعداً من الانغلاق الداخلي، وتحولت تركيا إلى قوة احتلال في سورية في آب من العام نفسه، أسابيع قليلة بعد الانقلاب الفاشل في تموز 2016 الذي تمنّت عواصم الغرب الرئيسية نجاحه. في الوقت نفسه أخذت تركيا تنسق سياستها السورية مع روسيا وإيران، القوتين الحاميتين لنظام الإبادة الأسدي.
ودّعتُ أصدقائي في تركيا في آخر آب 2017 إلى برلين. ومثلما في اسطنبول، وفي السجن قبل ذلك، أحاول فعل أفضل ما يمكن من وضع لم أختره. أقرأ عن تاريخ الإبادات وأشهرِ أمثلتها، وأعمل على إدراج سورية في هذا المنظور. أريد أن أحكي لمواطنيّ السوريين وقرّاء العربية عمّا حدث لغيرنا في العالم، وللعالم عمّا يميز ما حدث ويحدث لنا منذ 2011. ألمانيا التي عرفت النازية قبل ثلاثة أجيال، وجرت فيها وفي «مجالها الحيوي» واحدة من كبرى الإبادات في العصر الحديث، هي البلد الأنسب من أجل ذلك.
كان بودي أن يكون أول لقاء بالقراء اليابانيين مبهجاً، لكن سورياً تتراوح تجاربه بين السجن والمنفى، والتغييب القسري وفقد أحبة، يصعب أن يقول كلاماً مبهجاً. أرجو مع ذلك أن يجد القارئ الياباني في الكتاب ما يثير التأمل وما يدفع نحو مزيد من المعرفة عن سورية وعالم اليوم. وأن يكون الكتاب دافعاً للنضال لا للحزن واليأس. لم تعد مصائر البلدان معزولة عن بعضها، وما يحدث هنا لا ريب يترك آثاره هناك، الآن أو بعد حين. «أزمة اللاجئين» تسببت بصعود اليمين الشعبوي في ألمانيا، الـ AfD، وهذا يبدو جزءً من انكفاء يميني أوسع نطاقاً، في الوقت الذي تحتاج مشكلات العالم اليوم لنظرة ومعالجات عالمية أكثر من أي وقت مضى.
يعنيني كسوري أن يعرف اليابانيون عن سورية من السوريين، وليس من إعلاميين غربيين يتعامل بعضهم مع صراعنا كشيء مشتقّ من صراع مفترض مع حكوماتهم. أعتذر عن ضرب مثال واحد، أسوقه لأن صاحبه يبدو معروفاً بعض الشيء في اليابان. في 2012 نشر روبرت فيسك، الصحفي البريطاني الذي يكتب في إندبندت، ويسوِّق نفسه كخبير في شؤون الشرق الأوسط، مقالة عن زيارته لسجناء سلفيين في السجن، ويتكلم على تسهيل الزيارة له من المخابرات السورية وعن حسن معاملة السجناء وعن امتثال ضابط المخابرات لطلبه أن يلتقي بالمعتقلين منفرداً. روى في مقالة أخرى مرافقته لقوات النظام وهي تقتحم بلدة داريا غرب دمشق في أواخر آب 2012 وتقتل 500 من السكان الثائرين (هو قال إن القتلى 245، وأنه قتلهم «المتمردون»، متبنياً رواية النظام بحذافيرها). رددتُ بمقالة أشكك في رواية فيسك. بناء على خبرتي كمعقل سابق وكمقيم في سورية حتى ذلك الوقت (كنت متوارياً في دمشق منذ عام ونصف وقتها) بالأجهزة الأمنية السورية، قلتُ إن زيارة معتقلين من طرف أجانب في السجون السورية مستحيلة إلا إذا كان الزائر موالياً جداً للنظام. وأن من ينتقد في مقالات سابقة صحفيين يرافقون القوات العسكرية الغازية للعراق عام 2003 أولى به ألا يرافق أي قوات غازية. وبالطبع لم يرد فيسك الذي يحرص على إدراج كلمات عربية في مقالاته (يخطئ غالباً في كتابتها) ليعطي الانطباع بأنه يتكلم العربية على النقد. وبمشاركة كاتبة وناشطة سورية معروفة، ريم العلاف، كتبنا مقالة أخرى نُشرت بالإنكليزية والعربية، ولم نتلق مرة أخرى أي رد. فيسك الذي لا يقتبس من أي مصدر سوري غير النظام، ولا يتفاعل مع الردود عليه، هو عملياً استمرار للنظام ذاته في رفض الاعتراف بفاعليتنا الفكرية والسياسية كسوريين وفي إنكار قدرتنا على تمثيل صراعنا، وفي إلحاقه بصراع ضد حكومات الغرب، لا يكلف فيسك وأشباهه شيئاً.
ولذلك فقد صار تمثيل قضيتنا والدفاع عن الجدارة المعرفية والسياسية والأخلاقية للسوريين بُعداً أساسياً لعملي، بخاصة في المنفى. أفكر في هذا كنضال ضد العنصرية.
أودّ أن أشكر الصديق هيروكي أوكازاكي على مبادرته إلى ترجمة كتابي عن السجن، الذي هو بالفعل كتاب عن الحرية، إلى اليابانية. لقد كان مصدر سعادة خالصة لي حين علمتُ منه أنه أنجز ترجمة الكتاب.
وأنوّه في الختام إلى أن في هذه الطبعة اليابانية نصٌ جديد عن سجن تدمر ومعناه، ليس متاحاً في طبعتين عربيتين، وقد كتب بعد تدمير داعش للسجن في حزيران 2015: تدمر كسياسة: عن المصنع السري للدولة الأسدية.
برلين 3 كانون الأول 2019