يأمل القائمون على عقوبات قيصر، والداعمون لها، أنها ستدفع النظام السوري وحلفاءه إلى تقديم تنازلات جوهرية، وذلك نتيجة ما ستتسبب به من تجفيف لمصادر تمويل آلة النظام العسكرية والأمنية المتوحشة، ومن تعطيل لقدرته على إدارة البلد، ومن عرقلة لمشاريع إعادة الإعمار التي يراهن عليها النظام وحلفاؤه بعد كسبهم للحرب. ولكن إذا كان مدى إنجاز العقوبات لأهدافها لا يزال رهيناً بما سيحمله المستقبل، أي أنه لا يزال طي الغيب، فإن هناك نتيجة مؤكدة لها، بتنا نراها اليوم بشكل مباشر حتى قبل دخول القانون حيز التنفيذ، وهي تسريع تدهور الأوضاع المعيشية في سوريا بشكل رهيب، ودفعُ الملايين منهم خلال أسابيع قليلة من العيش تحت خط الفقر إلى العيش على حدود المجاعة.
ومن نافل القول إن نظام الإبادة الأسدي، المدعوم من روسيا وإيران، هو المُتسبب بما وصلت إليه سوريا من تدميرٍ طال بناها التحتية وأدوات الإنتاج فيها بفعل آلته العسكرية، وهو الذي استخدم مقدرات البلاد رهناً وتفريطاً لضمان بقائه واستدامة قدرته على تحطيم أحلام السوريين بالحرية، وفي قتلهم وتشريدهم داخلياً ونحو خارج البلاد، وهو الذي تسبّب بوصول الاقتصاد السوري إلى التحلل الذي أصابه، مما أدّى إلى فقدان الليرة السورية معدلاتٍ كبيرةً جداً من قيمتها، وصولاً إلى وضع ملايين السوريين تحت خط الفقر. وعليه فإنّ المجاعة التي تتهدّد السوريين اليوم هي من صنع الأسدية قبل أن تكون من صنع عقوبات قيصر، لكنَّ ما تفعله هذه العقوبات هو أنها تسرّع الدخول في المجاعة، لأنها تأتي في وقتٍ دقيقٍ وصلت فيه إمكانيات المدنيين على ضمان حدّ الكفاف إلى عتبتها الأخيرة، وذلك دون أن أي أفق واضح لحلّ ينهي المأساة التي يواظب نظام الأسد على استدامتها ضماناً لبقائه.
-1-
تتفق الإحصائيات الحالية على أنّ أكثر من 85 بالمئة من سكان سوريا يعانون الفقر وتهديد أمنهم الغذائي، وعلى الرغم من أنّ عقوبات قيصر تستثني المواد الغذائية والدوائية والتجهيزات الطبية، فإن الانهيار المؤكد لقيمة الليرة السورية سيجعل من المستحيل على الغالبية الساحقة من السوريين شراء هذه المواد حتى لو توفرت، لا سيّما أنّ متوسط أجور السوريين حالياً هو أقل من 30 دولاراً شهرياً، فكيف بعد أن تهبط قيمة الليرة مجدداً ويغدو متوسط الأجور لا يتجاوز 6 أو 7 دولارات على سبيل المثال؟ علاوةً على ذلك، قد تمنع العقوبات الكثير من الأطراف من تبادل المواد الغذائية والطبية مع سوريا، رغم أنها مستثناة نظرياً من العقوبات، وذلك خشية خرق العقوبات من دون قصد، فطلبات الامتثال للعقوبات الموضوعة من الجانب الأميركي معقدة، وليس يسيراً أمر مراعاتها بشكلٍ كامل.
والأرجح أن العقوبات ستشمل مصرف سوريا المركزي، وعندها لن يكون بمقدور النظام السوري ومعظم المُستوردين السوريين إجراء أي تعاملات تجارية لاستيراد المواد الأساسية التي يحتاجها المدنيون، وستُمنى الليرة السورية بخسائر خيالية ستتحطم معها القدرة الشرائية للسوريين إلى حدود مخيفة، لا سيما أنّ ذلك يتزامن مع الأزمة النقدية اللبنانية، وما لذلك من انعكاسات كبيرة على توريد السلع إلى سوريا. ويبدو أنّ لبنان لن يكون مجدداً نافذة النظام السوري وواجهاته لتحصيل القطع الأجنبي وتوظيفه في عمليات الاستيراد، فهو لن يستطيع مواجهة الضغوط الأميركية وشروط صندوق النقد الدولي المُطالبة بوقف المعاملات المصرفية لصالح النظام السوري.
وبالرغم من أن القوائم الاسمية للشخصيات المشمولة بالعقوبات لن تطال رجال الأعمال غير المُساهمين في دعم نظام الأسد، فإننا نعلم أنّ الاقتصاد السوري تديره أوليغارشية أسدية أصيلة أو شخصيات تعمل كواجهة للأوليغارشية الممسكة فعلياً بزمام الاقتصاد، وهذه الأسماء باتت واضحة ومعروفة بالنسبة للجميع، وبالتالي من الصعب أن يُفلت أحدهم من قائمة العقوبات الاسمية التي سيُعلن عنها قريباً. ومن شأن معاقبة هذه الأسماء كلّها أن يؤدي إلى تعطّل عمليات الاستيراد بالكامل، حتى تلك المستثناة من العقوبات، وعلى أقل تقدير حتى يتمكن النظام من خلق واجهات جديدة تُجري عمليات الاستيراد لصالحها. هنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الشخصيات التي ستُشمل بالعقوبات كان قسمٌ منها معاقباً أصلاً، وهي لم تصل إلى ثروتها إلا جّراء سرقة السوريين بالاستفادة من صِلتها الوثيقة بالأسدية، ولذا فإنه واجبٌ عقابها ومنعها من المساهمة في تمويل اقتصاد النظام، ولكن ما هو البديل المُتاح لتأمين احتياجات الناس؟ هل يسمح النظام أصلاً لأشخاص من خارج الدائرة المحسوبة عليه والعاملة لصالحه أن تتمتع بالقدرة على أداء نشاطات اقتصادية في سوريا؟
قد يكون البديل الضامن لاستمرار توريد الغذاء والدواء إلى سوريا هو مزيد من المساعدات التي تقدّمها الأمم المتحدة ومنظمات غير حكومية، وهو ما نصّ قانون قيصر على استمراره، ولكنّ الواقع حالياً هو أنّ هذه المساعدات تصطدم بعدم وجود داعمين لها، كما أنّ أزمة فيروس كورونا ألقت بظلالٍ ثقيلةٍ عليها. وإنّ انقطاع الغذاء والدواء عن السوريين مع تحطّمٍ كامل لقدرتهم الشرائية قد يضع العالم كله إزاء أزمةٍ أخلاقية، لا مفرّ منها إلا بتقديم مساعدات حقيقية للساكنين في مناطق سيطرة النظام، وبذلك سيكون من تبعات العقوبات إعفاء النظام من تأمين احتياجات محكوميه وتقديمها بدلاً عنه، وستظلّ العقوبات رغم ذلك فرصة لنظام الأسد وداعميه لمواصلة استغلالها كشمّاعة يحملون عليها كل ما حل بسوريا من أزمات اقتصادية ومعيشية.
ما من وسيلةٍ واضحة لنجنّب مجاعة قادمة في سوريا في حال استمرار عقوبات قيصر شهوراً عديدةً من دون تقديم تنازلات تفضي إلى رفعها أو تخفيفها، فالاقتصاد السوري قد دخل مرحلة التحلّل والاضمحلال، وإنّ أي مقاربة لإمكانية تجنّب الجوع في سوريا شبيهة بما حصل إبان العقوبات على نظام صدام حسين أو النظام الإيراني غير واردة، فنظام صدام حسين كان يسيطر على العراق بالكامل، وعلى ثروات نفطية لها وزنها في سوق النفط العالمي، دفعت الأمم المتحدة بعد سنوات من بدء سريان العقوبات في العام 1990 إلى مفاوضته على هذه الثروات من خلال برنامج النفط مقابل الغذاء (1995). أما إيران، فهي بلد كبيرة ومتنوعة القطاعات الإنتاجية، وقادرة على خلق نوع من الاكتفاء الذاتي في ما يتعلق بالسلع الاستهلاكية والضرورية لاستمرار الحياة، وهو ما ليس متوفراً في سوريا التي يديرها الأسد. كما أنّ لعلاقات النظام الإيراني المتشابكة مع الغرب في عددٍ من القطاعات، ومعها أهمية السوق الإيرانية وموقع إيران الاستراتيجي، أهمية وازنة دفعت لمنح عدد من الدول في مرحلةٍ سابقة استثناءاتٍ لمواصلة الاستيراد الطاقي من إيران، كما دفعت إلى خلق الآلية المالية الأوروبية للتعامل التجاري مع إيران «إنستكس».
ولكن ماذا عن النظام السوري؟ ما الذي يستطيع تقديمه للحصول على آليات وبرامج مشابهة للحالتين العراقية والإيرانية بهدف تجنيب السوريين الدخول في مجاعة وكارثة إنسانية غذائية وصحية؟ ماذا بوسع اقتصاد دولة فيها خمسة احتلالات، ولا يتجاوز مجمل ناتجها المحلي 6 مليار دولار بينما تبلغ قيمة مستورداتها 5.8 مليار دولار، أن تقدم لتجنب السيناريوهات المريرة؟ إن نظرةً بسيطةً على حجم الاقتصاد السوري وقيمة صادراته ووارداته تعطينا صورة عن حجم المأساة التي قد تحل ببلدٍ تستورد أبسط المواد الاستهلاكية اللازمة لتقويت الناس.
-2-
إذن ستزيد عقوبات قيصر، بلا شك، من معاناة السوريين وفَاقتهم، ولكن هل ستحدث خرقاً يدفع موسكو للتخلي عن بشار الأسد، وهل ستؤدي إلى تفاهمات أميركية روسية لبدء مرحلة جديدة في سوريا؟ لا يتحدث نص القانون طبعاً عن تنحي بشار الأسد كشرط لرفع العقوبات أو تخفيفها، لكنه يتحدث عن إجراءات منها محاسبة مرتكبي جرائم الحرب، وإطلاق سراح المعتقلين، ووقف الاستهداف المتعمّد للمدنيين، وغيرها من شروط ينتهي تنفيذها إلى تغيير النظام بشكل جذري في نهاية المطاف. كذلك تكررت تصريحات أميركية واضحة عن ضرورة إخراج إيران من سوريا، وعن ضرورة سير النظام جدياً في طريق الحلّ السياسي. ولعلّ مجمل الشروط الأميركية مشابهةٌ لما سعت جميع المفاوضات السياسية مع نظام الأسد، في جنيف وغيرها، إلى إلزامه به من دون جدوى، بالرغم من صدور قراراتٍ أممية بخصوصها، أبرزها القرار 2254.
إذن، ينبغي هنا السؤال؛ لماذا ستنجح أميركا في دفع روسيا للتخلي عن الأسد هذه المرة؟ وهل لديها استراتيجية واضحة تندرج ضمن مخططٍ متكامل يفضي إلى إطلاق عملية سياسية في سوريا بالتنسيق مع موسكو، بوصفها اللاعب الرئيسي في البلاد، وهي التي تؤمّن غطاءً سياسياً وعسكرياً كفيلين ببقاء النظام السوري واستمراره في التعنّت ورفض الانصياع إلى أي جهود من شأنها الشروع بعملية سياسية حقيقية في البلاد.
يُفترض بأيّ خطواتٍ أميركية في سوريا أن تنال قبول الروس بما يحافظ على مصالحهم، وهنا يُعوَّل على قانون قيصر في خلق موقف روسي مختلف من بشار الأسد بعد فرض العقوبات، قائم على أنّ المصالح الروسية في سوريا، بعد توقف زخم العمليات العسكرية إلى حدٍّ كبير، تقتضي الحصول على مكتسبات اقتصادية، نتيجة استثمارات طاقية وتوظيف للموانئ السورية على البحر المتوسط، فضلاً عن أموال كبيرة ستتحصل عليها شركات روسية من خلال برامج إعادة إعمار مأمولة.
في الحقيقة، يدرك الروس أنّ قانون قيصر يعني التشدّد في نبذ نظام الأسد وتعذّر تعويمه والتطبيع السياسي والاقتصادي معه، إلا أنّ رفض الانصياع الروسي للعقوبات كأداة للتغيير قد يقع ضمن استراتيجية أوسع لموسكو، قائمة على رفض الاستخدام غير المسبوق لسلاح العقوبات من قبل إدارة ترامب. والانصياعُ الروسي في الحالة السورية، يعني الاعتراف بجدوى هذا السلاح المُستخدم حالياً بشكلٍ غير مسبوق ضدّ روسيا نفسها. وفي الوقت نفسه، قد تكون العقوبات وسيلةً مساعدةً لموسكو من أجل مزيدٍ من الخضوع يقدمه بشار الأسد، وأداة ابتزاز يمكن توظيفها لتحصيل المزيد من الاستثمارات طويلة الأجل من نظامٍ مفلس ليس أمامه سوى رهن البلاد للبقاء في السلطة. وقد تستفيد موسكو من عقوبات قيصر في إضعاف دور إيران في سوريا وصولاً إلى إخراجها، وهو ما تسعى إليه فعلياً الولايات المتحدة، مما سيعني تفرداً روسياً في سوريا.
ورغم أنه يُمكن للعقوبات الاقتصادية الحالية تجميد الاستفادة الروسية من استثماراتها وخططها في سوريا مؤقتاً، ولكن يبقى لموسكو أن تقدّر مخاطر التخلي عن بشار الأسد والجدوى من ذلك في مقابل ما يمكن تحصيله بالنتيجة. وهذا الأمر يتم دون اكتراث لمشاهد الفقر والجوع الذي سيكابده ملايين السوريين نتيجة العقوبات وبقاء الوضع السياسي على حاله، رغم أنّه سيُفسّر فشلاً لموسكو في سوريا. ولعلّ القول بأنّه لم يعد في سوريا استثمارات ومصالح روسية يمكن تحصيلها عبر نظام الأسد ليس دقيقاً، فها هي روسيا، وقبل أيام من دخول الحزمة الأولى من عقوبات قيصر حيّز التنفيذ، قد منحت سفيرها مزيداً من الصلاحيات وتواصلاً مباشراً مع الكرملين، كما دفعت النظام إلى توقيع اتفاقٍ جديد يتعلق بتوسعة قواعد القوات الروسية البرية والبحرية، بعد أن اعتقدنا أنّه قد سبق لروسيا أن سيطرت على البحر السوري بشكلٍ كامل.
خلاصة ما سبق، هو أنّه ما من تغيير في استراتيجية واشنطن تجاه النظام السوري، وليست تملك خطوات جدية لإحداث تغيير سياسي يأمله السوريون في بلادهم، كما يبدو أنه ما من دلائل على استعداد موسكو للتخلي عن دعمها للأسد بفعل العقوبات، وبالتالي فإنّ عقوبات قيصر غير محسومة النتائج السياسية على الأرض بقدر ما هي محسومة التبعات القاسية المُفضية إلى تجويع السوريين، وقد تكون العقوبات تجربةً مريرة العواقب طالما أننا نعوّل على أطرافٍ متوحشة لا تقيم وزناً لحيوات السوريين.
والواقع أنّ السوريين قد وصلوا إلى درجةٍ من الإنهاك يصعب معها التجريب بهم دون وجود هدف وخطة واضحة تؤدي إلى تغييرات حقيقية، وإذا كانت العقوبات ستؤدي إلى إزاحة نظام الأسد وانتقال البلاد إلى مرحلة انتقال سياسي، فهذا لن يأتي إلا عبر قرار سياسي يبدو أنه ما زال متعذراً وتعوزه الجدية، وليس بمقدور العقوبات الاقتصادية وحدها تحقيقه. ولذا، يجب التفكير ملياً في إمكانية أن تؤدي العقوبات المفروضة على الأسد إلى إكمال ما فعله بحق المدنيين السوريين دون طائل، وهو أمرٌ ينبغي عدم القبول به.