تردَّدَ قولُ فيروز في بالي كثيراً حين فكرتُ بمسألة تخلي نشطاء سوريين عن أسمائهم حرصاً على سلامتهم في بدايات الثورة. كان كثيرون يلجؤون إلى اختراع أسماء جديدة والتعود عليها حتى لا تصفرّ وجوههم لدى عبور الحاجز، وهي ستصفرّ على أية حال. وكان التخلي عن الاسم الحقيقي، الذي نوديَ به الشخص طيلة حياته، ضرورة قصوى لألّا يُساق صاحبه إلى الفرع، أو يُداهم منزله من عناصر الفصائل. يدفع الناشط اسمه ضريبة لسلامة اللحم والعظم، ويحمي نفسه من الموت عبر قتل نفسه طوعاً. يضع حياته في الدُرج، ويعمل على التآلف مع الشخص الجديد الذي صاره، أو تسيير حياته على خطين متوازيين، قد يلتقيان إذا شعر بالأمان، وقد لا يلتقيان. أو قد يتناول الشخص الثاني الذي صاره، الرفشَ، دافناً الأول في المجهول، وطاوياً سيرته واسمه ما دام الخطر قريباً: «أسامينا.. شو تعبوا أهالينا تا لاقوها».
للانغماس درجاتٌ في الشخصية المُستعارة. فثمة من يعيش الآخر إلى الحد الأقصى، كما فعل ديك ويتمان حين أصبح دونالد درايبر في مسلسل ماد مين، حاملاً اسم زميله الذي قضى في المعركة، ليعيش حياة يكون فيها ضميره ميداناً للتنازع بين الشخصين، حيث ستفيض أسئلة الهوية عن آخرها، وتصبح الأيام ركضاً مُضنياً بين السريرة وما يشفّ عنها بالبوح أو بريق العين: «عينينا هنّي أسامينا».
أو كما في قصة كوابيس كارلوس فوينتس، للكاتب حسن بلاسم، حيث سيتقمص سليم عبد الحسين، عامل النظافة العراقي الذي كان يكنس الأشلاء في بغداد، شخصية جديدة تحمل اسم كارلوس فوينتس. يعيش عبد الحسين في أوروبا بعد أن قرر نسيان كل ما يتعلق بماضيه، إلا أن ما كان يؤرقه هو الكابوس اليومي الذي تظهر فيه شخصيته الحقيقية… لن ينتهي هذا الكابوس إلا حين يفتح سليم النار على نفسه في المنام.
غرابيل الأسامي
الاسم، هو الجرس الذي تقرعه شفاه الآخرين حتى نلتفت. وهو الصورة في الذهن. وقد تعلّم آدم «الأسماء كلّها» حتى يناديها ويشير نحوها، رابطاً كل اسم بصورة، أو كل صورة باسم، قبل أن يأتي كريشنامورتي، ليُطالب، خلافاً لما أراد الرب من تلقين آدم، بإسقاط الأسماء عن الأشياء، حتى نحتكم إلى الجوهر لا إلى التصورات المجردة المكثّفة في الأسماء، والتي تختلف من شخص لآخر. فإن تحدث أحدهم عن حقل قطن، ثمة من سيتخيل حقلاً في الجيزة، فيما سيتخيل آخر حقلاً في ميسيسبي، رغم العبق الواحد في الحقلين أثناء تفتح المواسم.
نحمل أسماءنا على الورق، ونعبر بها الحدود ونقاط الدَرَك. نقولها للغرباء قبل إخبارهم عن مكان ولادتنا وعملنا وهواياتنا، كما لو أنها عنوان للقصة التي نُمثلها. وهي إن كانت سهلة اللفظ وفي المتناول، إلا أنها تحمل إرثاً عريضاً من القصص والظروف التي ساهمت في خلقها والتصاقها بنا في هذه الحياة. ذلك أنها مرت عبر كثير من الغرابيل قبل أن تُختار لنا، فهي نتاج تدافع إرادات الوالد والوالدة وعائلتيهما، وخلاصة رغبات الآخرين وأمانيهم التي لم تتحقق، وقصص حبهم المنسيّة، فضلاً عن تأثرها الحتمي بالإرث الثقافي والفكري لمن يختار الاسم، وموضة الأسماء السائدة في العشرية التي اختيرت بها، فتماضر وشفيقة وتفّاحة، لم يولدنَ في زمن هبة ورنيم وآلاء، ولا في زمن شام وآيلا ونايا.
أسماؤنا التي تجني علينا
وردت قصص كثيرة بعد الاحتلال الأميركي للعراق وانفلات العنف الطائفي فيه، عن حوادث اغتيالات وتصفية للناس على الهوية، ما دفع كثيراً من الناس إلى اللجوء لحمل هويتين أو أكثر في الوقت ذاته. كل هوية تحمل اسماً يعكس الانتماء إلى طائفة. وبذلك يتم اجتياز الحاجز عبر إظهار الهوية التي تناسبه.
ويتزايد اتجاه الآباء والأمهات في هذه الأيام إلى اختيار أسماء لأبنائهم وبناتهم تحمل القدر الأدنى من الدلالات الدينية والطائفية والعرقية، بعد وخامة الوضوح الهوياتي في بلاد الخرائط المتهاوية، فضلاً عن اختلاطنا بمجتمعات جديدة وإدراكنا ضرورة الاندماج فيها، وحساسية الأسماء وما ترمز إليه. يتردد أسامة في قول اسمه للأمريكي الذي يتعرف عليه، خشية أن يرد عليه الأخير بالقول: «أوه، أسامة.. لايك أسامة بن لادن». سيضطر أسامة حينها لأن يقول «هههه»، وعيناه مُحمرّتان من سخافة النكتة.
اختيار الاسم الحركي
يختار المضطر في الظروف الاستثنائية اسماً مُستعاراً لكي يحمي نفسه من خطر الاعتقال أو التصفية بسبب رأيه السياسي. وقد يضع المعنيّ اعتبارات عدة في حسبانه لدى اختيار هذا الاسم، منها أن لا يكون هذا الاسم شائعاً، لتقليل احتمال توريط أشخاص آخرين يحملون الاسم ذاته. لذلك، قد لا يُعدّ سديداً اللجوء إلى كنى مشهورة مُلحقة بأسماء شائعة، لكي لا تُدرج أسماء المئات في قوائم المطلوبين.
ووجد معظم السوريين أنفسهم، في بدايات الثورة، مضطرين لإيجاد أسماء وهمية. وكان العشم حينها في أن يكون هذا الإجراء مؤقتاً إلى حين سقوط النظام ووجود هامش من الحرية لا تكون كلفة الكلام فيه هي تكسير العظام.
وقال عبد الدافش نكاشة سابقاً، وملاذ الزعبي حالياً، في حديث للجمهورية، إنه لجأ إلى استخدام اسمه الحركي في أيام الثورة الأولى، كاحتياط أمني بسبب وجوده في سوريا لكي يتمكن من قول ما يريد دون خوف. وقد استخدم هذا الاسم لكتابة مدونات ساخرة من بشار الأسد والنظام السوري.
اختار ملاذ اسماً ساخراً، وحصّنه الإيحاء الوهمي للاسم من الوقوع في فخ التماهي مع الشخصية الافتراضية واستخدامها في الحياة اليومية. كانت الشخصية الوهمية بالنسبة لملاذ أداة لحماية نفسه أثناء تواجده في سوريا، وتخلى عنها بعد خروجه وعاد إلى شخصيته الحقيقية، بسبب غياب الأسباب التي خلقت عبد الدافش. قَتْلُ عبد الدافش بالنسبة لملاذ كان طيّاً للمرحلة وضروراتها، بحسب ما يقول، وقد حول الاسم الحركي إلى مدونة نكاشة لاحقاً لينشر عليها مقالاته.
الغرق في الآخر
وجد آخرون، خلافاً لملاذ، صعوبة في العودة إلى شخصياتهم الحقيقة، أو لم يرغبوا في ذلك، بسبب كون المسألة أكثر تعقيداً بالنسبة إليهم، رغم خروجهم من سوريا وانتفاء الأسباب المباشرة التي اضطرتهم إلى استخدام الاسم المستعار في البداية.
وتحدث ناشطان لموقع الجمهورية عن تجربتيهما في هذا الصدد، إلا أننا لن نستطيع ذكر اسميهما الحركيين، لأنهما معروفان في الأوساط العامة بهما، ويريان أن الاسمين الجديدَين، أو «الحركيَّين» يُمثلانهما أكثر من الاسمين «الحقيقيَّين». تحمل قصتاهما عمقاً وجدانياً وسياسياً وهوياتياً كبيراً، وليست الغاية من ذكرهما توثيق الوقائع بالأسماء والأرقام، وإنما تسليط الضوء على الأسئلة والأفكار التي تتخلل حياتيهما اليومية، التي تسير كل واحدة منهما على خطين متوازيين لا يريدان لهما الالتقاء. سنسميهما «الناشط الأول» و«الناشط الثاني» هنا لكي لا يشتطّ الحديث المرهق بصيغة المثنى.
قرر الناشط الأول استبدال اسمه الحقيقي بعد اعتقاله في أوائل أيام الثورة. ولم يكن اختيار الاسم بالنسبة إليه اعتباطياً كما فعل كثيرون. كان الاسم المركب ثمرة امتزاج اسمين لشخصين أحبّهما في السابق، فالاسم الأول كان يُفترض أن يكون لابنه الذي لم يولد من حبيبته التي صارت موالية للنظام وخيّرته بينها وبين الثورة فانفصلا. وكانت الكنية على اسم صديقه الذي قُتل على يد النظام السوري أثناء المظاهرات. كان هذا محاكاة عملية لقول الأغنية الحزينة: «يا ريت جسمي جسر يمّي.. وقطّعون عنو».
ويبدو أن القيمة الوجدانية المكثفة في معنى الاسم الحركي، إضافة لاقترانه بمشاعر التجلّي المرافقة للتحرر وكسر حواجز الخوف، ساهمت في ازدياد ارتباطه به، وصعّبت مسألة تخليه عن هذا الاسم وعودته إلى اسمه «الحقيقي»، الذي خفت بريقه لاقترانه بمرحلة ما قبل الثورة التي لا يرغب بالعودة إليها، وابتعد عنه شيئاً فشيئاً مع تعوّده على استخدام اسمه المستعار.
يقول الناشط الأول إنه دخل بكامل جوارحه إلى الثورة وتحولت إلى مركز حياته، ومن حينها لم يعد اسمه الحقيقي يُمثّله، وصار يعيش على الورق فقط. مضيفاً أنه بعد خروجه من سوريا، وتضاؤل مساحة الأمل التي كان يمثلها الاسم الحركي، ودخول سوريا بمرحلة مشابهة لما كانت عليه قبيل الثورة، لم يعد يشعر بأنه صاحب أي من الاسمين، فصاحب الاسم الحقيقي قتله الأمل، وصاحب الاسم الحركي قتله انكسار هذا الأمل.
الالتفات دون دراية
الناشط الثاني هو كاتب وصحفي لجأ إلى استخدام الاسم الحركي عام 2013 بسبب المخاوف الأمنية أثناء وجوده في سوريا، المُضافة إلى خوفه على أهله من التعرض للأذى في محيط مؤيد للنظام، وتزداد قطيعته مع المعارضين وشراسته ضدهم.
بعد خروجه من سوريا، زالت الأسباب المباشرة المتمثلة في الخوف من اعتقال النظام، ولكنه استمرّ باستخدام اسمه الحركي، بسبب خوفه المستمر على أهله، واحتمال العودة إلى سوريا الذي يضعه في الحسبان، إن لم يكن طوعاً بعد سقوط النظام أو قبله، فعبر الترحيل الذي يطال السوريين في تركيا، والذي يخاف أن يضعه تحت رحمة الفصائل الإسلامية التي قد لا تتسامح مع الطائفة التي تنحدر منها عائلته.
يقول الناشط الثاني إن كل هذه الأسباب جعلته يعيش حريصاً على عدم انكشاف هويته على الملأ، مع كل ما يعنيه هذا من القلق المستمر والتفكير الدائم بالتفاصيل. مضيفاً أنه اختار الاسم الحركي بعد تفكير مطوّل، وانتقاه عبر تركيب اسمين لشخصين أثّرا في حياته… كانت هذه أيضاً محاولة لإحياء الموتى أو ذكراهم عبر تنحية الذات.
تآلفَ الناشط مع الاسم، وصار يلتفت لدى سماعه دون دراية. ويشير إلى أنه تأثر كثيراً حين فكّر بالتفاتته للمرة الأولى للاسم، وسرت فيه القشعريرة حين تملّى فكرة تحوله إلى هذا الشخص الآخر، فهي قد تعني بطريقة ما أنه مات في الحقيقة، وهو لا يريد ذلك. وإنما يريد لصاحب الاسم الحقيقي أن يبقى حيّاً وأن يعبّر عن أفكاره، حتى لو كان باسم مُستعار للضرورة. ويرغب في أن يكون الاسم المستعار حصناً له من الخطر الأمني فقط، لا حجاباً تختفي خلفه آراء الشخص الحقيقي في كل شيء. موضحاً أنه بذل جهداً كبيراً لكي لا تنهشه ذئاب الأفكار في ظل هذا الانقسام بين شخصين.
يقول الناشط الثاني إن اسمه الحركي هو ابن الثورة السورية، وسيستمر بالكتابة به حتى بعد زوال كافة الأسباب التي دفعته إلى تبنّيه، ولكن دون أن يكون بديلاً لاسمه الحقيقي حينها. يريد أن يكون قادراً في لحظة ما على قول اسميه الاثنين دون حذر. وستكون لحظة المصافحة بين اسميه الحركي والحقيقي مرهونة بتغيّر كبير في الواقع السياسي والاجتماعي السوري المليء بالجراح.
أسماء القتلة
يتضاءل عدد البلاد التي لا يخاف فيها أصحاب الرأي أو المطالبون بالعدالة من قول ما يريدون دون إخفاء هوياتهم، فالكلمة قد ترتد عليهم طلقةً أو قذيفة أو كلبشة أو رسالة رفد من العمل. وتزداد نزعة أصحاب سلطة اليوم، حتى في أكثر الأماكن ديمقراطية في العالم، إلى تكميم الأفواه وسد الشوارع بالدبابات، فيما تحاول القوى المضادة لهم فعل ما تستطيع لكي لا يزداد نفوذ حامل الأصفاد الذي يدهس بركبته على أعناق الناس.
في سوريا وسواها، يُخفي المطالبون بالعدالة أسماءهم ووجوههم خوفاً على أنفسهم وأهاليهم. فيما يتحرك أصحاب السلطة وزعماء الفصائل والمحتلّون محروسين بالقناصة والعربات المدرّعة. لن تتحقق العدالة العامة، بشكلها الأبسط، إلا حين تتوافر الظروف المناسبة التي يتمكن فيها أصحاب الحق من قول ما يريدون دون الحذر من كشف أسمائهم. وحين يشعر الجناة، الذين ينظرون بعين باردة إلى الكاميرات الموثقة لجرائمهم، بضرورة التخفّي، ويستيقظون في الليل فزعاً من الكوابيس التي يسمعون فيها من ينادي على أسمائهم.