أثار قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأخير، القاضي بترفيع سفير بلاده في دمشق، ألكسندر يفيموف، إلى مبعوث خاص للرئاسة في سوريا، عدداً كبيراً من التكهنات حول الدوافع التي تقف خلفه، ليأتي بعدها القرار الذي وقعه بوتين يوم الجمعة الماضي، والذي يسمح لوزارتي الدفاع والخارجية الروسيتين بالتفاوض مع حكومة النظام لتوسيع مناطق وقواعد القوات الروسية البرية والبحرية في سوريا، تأكيداً على أن هناك نهجاً جديداً لموسكو في سوريا، عنوانه السعي إلى فرض سيطرتها التامة على النظام والمناطق التي يحكمها، بوصفها القوة المهيمنة بعد سنوات من توزيع تلك الهيمنة بينها وبين حليفتها إيران.
ويقضي قرار بوتين بتعيين يفيموف مبعوثاً رئاسياً خاصاً لتطوير العلاقات مع سوريا، ما يعني أنّ منصب المبعوث الخاص إلى سوريا لشؤون التسوية ما يزال موجوداً، لكنه أقل أهمية باعتبار أن المبعوث الجديد القاطن في دمشق يمتلك اتصالاً مباشراً مع بوتين، الذي يبدو أنه يسحب الملف السوري من يد وزارة الدفاع ومبعوث روسيا الخاص لشؤون التسوية ألكساندر لافرينتييف، المقرب من وزارة الدفاع والآتي من خلفية مخابراتية.
وقد طرأت عدة تحولات على طريقة إدارة موسكو للملف السوري خلال سنوات الثورة، يمكن رصدها من خلال المواقع والأشخاص الذين كانوا يتصدرون سياساتها فيما يخص بلادنا، فقد كان وزير الخارجية سيرغي لافروف يدير الملف السوري بمساعدة ميخائيل بوغدانوف، نائب وزير الخارجية ومبعوثه إلى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. حيث أشرف الرجلان على اللقاءات الدبلوماسية المرتبطة بسوريا، وقادا الحملات السياسية المؤيدة للنظام السوري، كما أشرفا بشكل واضح على الدور الروسي في كامل العمليات السياسية الدولية منذ مؤتمر جنيف واحد عام 2012، لتظهر لاحقاً بصمتهما الواضحة على اتفاق تسليم السلاح الكيميائي، الذي جنّب النظام ضربة أميركية خلال عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما بعد المذبحة الكيماوية التي ارتكبها النظام في الغوطة الشرقية في شهر آب 2013.
مع بداية التدخل الروسي العسكري في سوريا عام 2015، أصبح وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو تدريجياً هو المسؤول الأساسي عن الملف، أو المتصدر لتحركات موسكو بهذا الخصوص، لنشهد زياراته الخاصة إلى سوريا ولقاءاته ببشار الأسد التي تكررت دورياً منذ ذلك الحين. وقد أدارت وزارة الدفاع الروسية، من خلال وجودها العسكري المباشر في سوريا، عدة ملفات من بينها ملف المصالحات، الذي قام ضباط روس يتبعون قاعدة حميميم بالتدخل فيه وإدارته بشكل مباشر، بل والتفاوض نيابة عن النظام في عدد كبير من الأحيان كما حدث في القلمون الشرقي ودرعا وريف حمص الشمالي. وقد لعب وزير الدفاع الروسي الدور الأبرز في تلك المرحلة، ومعه المبعوث الرئاسي الخاص لشؤون التسوية إلى سوريا ألكسندر لافرينتييف، الذي تصدر المقعد الروسي في مسار أستانا، باعتبارهما المشرفين المباشرين على توجه موسكو في البلاد، القاضي بدعم النظام عسكرياً لتحقيق انتصارات ميدانية غيرت المعادلة العسكرية في سوريا خلال عامي 2017 و2018.
ضمن هذا السياق، من غير المستبعد أبداً أن يكون تعيين يفيموف مبعوثاً خاصاً لبوتين في دمشق، علامة على تحول جديد في أدوات وطريقة تعامل روسيا وبوتين مع الوضع في سوريا، التي يواجه فيها النظام عدداً من التحديات الحيوية. وقد أثبتت الأزمات الاقتصادية المتوالية، والانهيارات في سعر صرف الليرة السورية، والتراجع في القدرة على تامين الحد الأدنى من المستلزمات الحيوية لعيش السكان، أنَّ قدرة نظام الأسد على إدارة البلاد قد تراجعت إلى مستويات خطيرة، وأنّ الانتصارات العسكرية التي وفرتها طائرات موسكو التي قصفت المدنيين في حلب والغوطة وحمص درعا، لن تستطيع توفير الخبز للسكان الذين يحكمهم بشار الأسد تحت ظلال تلك الطائرات. وفي ظل عدم قبول المجتمع الدولي بإعادة تعويم بشار الأسد، وعدم رغبته بتقديم أية مساعدات لحكومته المتورطة بجرائم حرب، ومع اقتراب بدء تطبيق قانون قيصر الذي يفرض عقوبات هي الأقسى على النظام وحلفائه، فإن التغيير أصبح ضرورياً للغاية في السياسة الروسية التي وصلت إلى طريق مسدود.
تعلم موسكو أيضاً أنّ الولايات المتحدة الأميركية لا تضع أي فيتو على سيطرتها الكاملة على النظام، أو على وجودها العسكري في قواعد بحرية وبرية في سوريا، وهي مكتسبات لن ينازعها عليها أحد من القوى الدولية والإقليمية، على الأقل في المدى المنظور. إلّا أنّ استمرار وجودها في سوريا يرتبط أيضاً بقدرتها على حل المشاكل السياسية والاقتصادية التي يواجهها نظام حليفها بشار الأسد، وهي مشاكل وصلت إلى مستويات دفعته للصدام مع رجل الأعمال الأكثر قرباً منه، والذي كان يعتبر مديراً لأعمال العائلة، رامي مخلوف، ما يعني أنّ الفشل الاقتصادي في سوريا ليس مجرد تكهنات مرتبطة بسعر صرف الليرة السورية، كما كان يحدث طوال السنوات الماضية.
يبدو أن كل ذلك يتطلب من موسكو أسلوباً جديداً في إدارة الملف السوري، وهو ما يتجلى في شكل السيطرة التامة وفرض السيادة الاحتلالية على البلد من خلال مبعوث رئاسي خاص يعيش في دمشق، ويمتلك صلاحيات بوتين في سوريا، ما يعني أنّه يستطيع تجاوز الجميع وكل القنوات الدبلوماسية المعتادة، ليرسم معالم الصورة الجديدة لما يمكن أن يكون حاكم سوريا الفعلي خلال الفترة المقبلة.
لكنّ ذلك لا يعني أبداً تخلي موسكو عن رجلها المضمون في دمشق، بشار الأسد، وهو ما تؤكده الإشارات التي يرسلها الإعلام الروسي في الفترة الأخيرة، والتي تدافع عن العلاقة ببشار الأسد بشكل حاد وصارم، وكذلك التصريحات التي قالها يفيموف نفسه في لقاء مع موقع الوطن أونلاين التابع لجريدة الوطن شبه الحكومية قبل أيام من تعيينه مبعوثاً خاصاً. لا يبدو أن هناك أية رسائل توحي بنية موسكو التخلي عن الأسد، أو التضحية به، بهدف تحصيل مكاسب من إعادة الإعمار؛ على الأقل ليس في الفترة القريبة المقبلة، فاكتمال السيطرة الروسية على البلاد يحتاج رجلاً يوافق على كل ما يُقال له، ويحتاج استقراراً في بنية النظام الحاكم بهدف تسهيل هذه السيطرة على جميع مفاصل الحياة والحكم.
في الأثناء، لسنا بحاجة إلى استعارة تسميات قديمة عن مندوب سامٍ جديد في دمشق، إذ لا تنطبق تلك الاستعارة على وضعنا اليوم، فقد رضي المندوب السامي الفرنسي وحكومته في باريس على التفاوض مع الكتلة الوطنية لتسليم الحكم، وإن تدريجياً، لأهل البلاد بعد ثورة وعصيان مدني في العشرينات والثلاثينات، وهو أمر لا يبدو أن موسكو ستفعل مثله في أي لحظة. يكفي إذاً أن نقول إنّ لدينا مبعوثاً رئاسياً روسياً يقطن دمشق ويتمتع بصلاحيات بوتين هناك، ولا تحتاج هذه الأوضاع الجديدة إلى استعارات أو تشابيه، فالوضع الجديد للحكم الروسي في البلاد هو انتهاك لسيادة واستقلال البلد، على نحو لم يحدث أمرٌ مماثل له منذ نشوء الدولة السورية عام 1920.