يحمل العمل على مفهوم الاعتقال سينمائياً مغامرة كبيرة، وذلك لاتساع مفهوم الحجز والاعتقال واختلافه بين منظومة سلطوية وأخرى، ولكثرة أفخاخ المباشرة والتسطيح المنصوبة أمام الأعمال التي تتناول معتقلات ومعتقلين. تزداد هذه الخطورة وتشتد، حينما يأخذ مخرج الفيلم السينمائي خيار العمل الوثائقي على المعتقل؛ كيف يمكن تجنب حشر الكاميرا في وجه معتقل سابقاً، ثم جرّه عبر أسئلة نمطية إلى مكان الضحية المقهورة؟ وإلى أي مدى يمكن تصوير تجربة في غاية الفرادة كالاعتقال (فلكلّ معتقل قصته الفريدة) دون الوقوع في التعميم؟ وما هي الآلية التي سيتبعها تكوين فيلم ما ليتفادى الكليشيهات السابقة، التي قد تسيء في بعض الحالات للمعتقلين بدلاً من إيصال رسالتهم؟ هذه المشاكل التكوينية، هي ما ابتعد عنه الفيلم الفلسطيني اصطياد الأشباح لمخرجه رائد أنضوني، والحاصل على جائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان برلين السينمائي عام 2017.

لا يحاول أنضوني أن يوارب في شيء، القصة واضحة واللعبة مكشوفة، يريد أن يصور فيلماً عن معتقل «المسكوبية» الإسرائيلي في فلسطين. لا محاكاة ولا مشابهة؛ منذ البداية نرى عدنان خطّاب، المعتقل السابق في سجن المسكوبية، في مشهد تمثيلي، مغطى الرأس ومكبلاً، يُرفع عنه الغطاء في مستودع  كبير، ليبدأ في رسم حدود غرفة التحقيق التي كان فيها، مستذكراً تفاصيلها وبنيتها. في البداية، تختلط الصيغة الروائية والوثائقية في الفيلم، فلا يعرف المتلقي إن كان هذا السرد سيأخذه إلى مكان روائي تخيلي لاحقاً، إلا أن هذا اللبس الذي يبدو مقصوداً سرعان ما يزول حينما نرى المخرج يستضيف مجموعة من المعتقلين السابقين في مقابلات مصورة لفيلمه هذا عن الاعتقال. العديد من الشباب الفلسطينيين المعتقلين سابقاً، الذين رأوا إعلان المخرج عن أنه ينوي إنجاز الفيلم، أتوا إلى المقابلة. جاءت مقابلاتهم مع المخرج واضحة وحقيقية، لا مواربة فيها ولا محاولات أداء أمام الكاميرا. منهم من أتى لأنه معتقل سابق، ومنهم من أتى كونه يحمل خبرة سينمائية معينة فقط، أما الممثل المحترف الوحيد، رمزي مقدسي، فنراه «يعترف»: «أنا ممثل… وبدي أعيش»، بعدما عرض عليه المخرج دور سجين وهو الذي أظهر رغبته بدور السجّان، علماً أنه عاش تجربة اعتقال عند الصهيونيين هو الآخر.

هذه التلقائية التي تُرى في مشاهد «الكاستينغ»، هي الأساس الذي ينطلق منه الفيلم لإعادة بناء المعتقل بإيادي وعيون معتقلين سابقين. تستمر هذه العفوية أمام الكاميرا، التي تظهر في البداية، حتى تخال أن كل المعتقلين مؤدون محترفون، لا كممثلين فقط، بل كعناصر فاعلة في بناء الفيلم وفضائه. فالمخرج قبل أن يدخل في دوامة توظيف المعتقل وقصته، يذهب إلى توظيف طاقات المؤدين لا حكاياهم فحسب. كلٌ في مكانه، النجّار والبنّاء والحدّاد والبلّاط والمُصمّم والمُمثّل. توليفة بشرية غنية، زد على ذلك، الكاريزما الخاصة بكل فرد من هؤلاء الأفراد، وهي ما أعطت لـ«اصطياد الأشباح» جمالية إضافية.

تتحرك الكاميرا ببساطة ودون تكلّف، ترصد عمليات البناء بالتفصيل، وتحمل معها لقطات للعراك الحاصل جرّاء العمل. مواقف يومية حياتية بعيدة عن المقولات الكبرى، تضخ الحياة في المادة المصورة، ولا تغفل عن التقاط قصص وحكايا المعتقلين. أبرعُ ما في كاميرا أنضوني أنها لا تصور المعتقلين على أنهم ضحايا؛ هي مهتمة بروي أقاصيصهم، مهتمة بإيصال صوتهم أكثر من أي شيء آخر. ولعلّ المثال الأبرز على الكلام السالف، هو خجل العدسة حينما يبكي أحد المشاركين لاستذكار موقف مؤلم، أو يصرخ آخر مستذكراً حالة قاسية؛ تبتعد الكاميرا عن وجه القائل، وتتوارى وراء الجدران كأنها تخجل من جلال الحديث وحساسيته.

تختلف أقاصيص المعتقلين/المؤدين باختلاف منابتهم وشخصياتهم، إلا أن ما يجمعها هو قول أحدهم بكل وضوح: «السجن موت»؛ فكيف إذا كان سجن محتلك وسالب أرضك! هذا الموت/ السجن هو ما يسعى الفيلم إلى التقاطه؛ كيف تستحيل في المعتقل إلى لا شيء، وعليك ألا تفقد عقلك، ولا تفقد إيمانك بالحرية، لأن ذلك هو مخرجك الوحيد.

لا يقف «اصطياد الأشباح» طويلاً عند حكايا المعتقلين، ما يهمه هو خلق فضاء الاعتقال عبر البنية المكانية من خلال إعادة بناء تصور للمُعتقَل، ومن خلال الوقوف على التفاصيل المهمة، لا سيما تلك المتعلقة بالزمن والوقت، وهو أحد أهم الأمور وأقساها في السجن. بعد بناء أجزاء من الفضاء، يبدأ العمل على المشاهد التمثيلية، وهنا يدخل الفيلم مرحلة متقدمة، فنحن نرى مشهد التمثيل مكشوفاً، بمعنى أننا نطلّع على كيفية بنائه والأحاديث الدائرة حوله. مثلاً؛ في مشاهد التحقيق التي يتم بناؤها، من يكتب سيناريو المشهد ويقدم ملاحظاته ليس المخرج فقط، بل يشارك المعتقل السابق عدنان خطّاب مثلاً في بناء مشهده. يتطور المشهد ويخرج من الأداء والتمثيل إلى الحقيقة، ينفجر المعتقل السابق ويقسو على الممثل الذي يمثل دوره في السجن، وهنا لم نعد نرى تمثيلاً، بل أداء، وهذه المسافة التي تَمكَّنَ «اصطياد الأشباح» من ضبطها، فما يُقدَّمُ على امتداد ساعة ونصف هو أداء لفيلم حول المعتقلين. نحن نرى اللعبة كاملة، ونشهد على بناء كواليسها، وما يريده صناّع الفيلم ليس الاندماج فالتعاطف فالتطهير، ما يريدونه هو دفع المتلقي إلى التفكير في وضع الاعتقال دون أي صورة ميلودرامية عن المعتقلين.

youtube://v/elsc5l8Z4gA

ويبقى من اللافت خفة المؤدين أمام الكاميرا، سواء في أدائهم لأدوار معينة؛ مساجين وسجانين ومحققين مثلاً، أو أدائهم أدوارهم الحقيقية المتعلقة بالبناء والتصميم، وبالطبع تبقى للممثل المحترف رمزي مقدسي، الذي لعب دور السجين الأساسي، لمسةٌ تكشف عن احترافيته في فن التمثيل.

يذهب الفيلم خطوة بعيدة أيضاً حينما يكشف علاقات السلطة في الفيلم ذاته. يظهر المخرج المنفّذ وهو يخبر المخرج عن سلطته المطلقة وتسلطه على العاملين، وهذا الظهور يكشف علاقات السلطة في فيلم يهاجم السلطة ويحاربها، هذه العلاقات السلطوية الموجودة في بعض الأفلام التي يصبح المخرج فيها ربَّ اللقطة، يُسخّر حكايا الناس، وربما مآسيهم ومعاناتهم، في خدمة لقطته/صورته.

تم تجهيز فضاء الاعتقال بالاعتماد على مخيلة المعتقلين، فلا مجال وراء تلك الجدران للنظر، الرأس مغطى بالكامل، والخيال هو أداة العاملين في الفيلم لإعادة رسم المعتقل. يدخل الجميع في معايشة تجربة الاعتقال في فضائهم/معتقلهم بعد إتمام التجهيز. يعاودون تجربة الاحتجاز، ينقسمون إلى سجناء وسجانين، ويلعبون لعبة الاعتقال مجدداً، ويشعلون ذاكرتهم بها، ويذهبون مع المخرج الذي يشاركهم التجربة، وهو نفسه كان معتقلاً في سجن المسكوبية، إلى اصطياد أشباح الاعتقال بدلاً من الهرب منها. لذلك نرى فريق العمل، بعد تجربة الاعتقال والتطهير هذه، يفتح تجهيزه للمعتقل معرضاً أمام أبناء المعتقلين السابقين المشاركين في الفيلم، حيث يلهو الأطفال، ويشهدون أيضاً، على مكان اعتقال آبائهم.