الثابت في وضع الليرة السورية هو أنها متقلبة القيمة صعوداً وهبوطاً بشكلٍ يومي، وأنّ هذه التقلبات تقود في النهاية إلى خساراتٍ متواصلة جعلت الغالبية العظمى من السوريين في أوضاعٍ معيشيةٍ متردية. وباستثناء حيتان المال الكبار المتحكمين بمفاصل الاقتصاد، وضعت هذه التقلبات المتواصلة جميع التجار، بغضّ النظر عن حجم نشاطهم وأرقام أعمالهم، في أوضاع لا يحسدون عليها، إذ باتت عملية التسعير، اللازمة لتحقيق أرباحٍ من شأنها مواصلة النشاط التجاري دون توقف، مهمةً شاقةً يُضطرّ التجار للتعامل معها بشكلٍ يومي.

أنس عبد السلام هو اسم مستعار لصاحب متجر قرطاسية في مدينة القامشلي، وهو يقول: «إنّ مهمّة التاجر في تسعير بضاعته صارت أمراً مؤرّقاً لجميع التجار، ولا يمكننا بعد بيع أيّ سلعةٍ أن نعرف إذا ما كانت نتيجة البيع هي الخسارة في نهاية اليوم. يتفق التجار اليوم على أنّهم خاسرون مهما ارتفع السعر الذي يبيعون به، فما تشتريه اليوم بألف ليرةٍ سورية من بائع الجملة قد تشتريه غداً بزيادة عشرة أو عشرين بالمئة. المشترون يشتكون من رفعنا لأسعار قيمة السلع، ونحن نشتكي من رفع تجار الجملة والمستوردين لأسعار السلع، وكلّ ذلك محصورٌ في النهاية بارتفاع قيمة الليرة أو انخفاضها مقابل الدولار».

يضيف عبد السلام: «ما من تاجرٍ يعمل اليوم في سوريا إلا ويمارس نوعين من النشاط التجاري، مهنته وتجارة الدولار، ذلك أنّ الغالبية الساحقة من السلع الموجودة في أسواق مناطق الإدارة الذاتية مثلاً مستوردة بالدولار، إما عن طريق كردستان العراق أو مناطق الشمال السوري المفتوحة تجارياً على تركيا أو عبر مناطق سيطرة النظام، ويتم بيعها بالليرة السورية. نحن نحمل آلةً حاسبةً بيد وتطبيق سعر الليرة الموجود على الجوالات باليد الأخرى، ونقوم بعملية حساب الأسعار الضرورية مع كلّ عملية بيعٍ تقريباً، وما أن تبلغ غلّةُ التاجر ما يعادل خمسين دولاراً، حتى يتّصل بمكتب الصرافة الذي يتعامل معه ويطلب منه تثبيت شرائه لخمسين دولار أميركي، وهي الحد الأدنى لعملية شراء الدولار، ليضمن بذلك التاجر قدرته على شراء البضائع المُسعرة بالدولار مجدداً، وحتى لا تفقد غلته بعضاً من قيمتها مع انخفاض جديد لقيمة الليرة السورية أمام الدولار. هناك بعض المكاتب التي باتت مؤخراً لا تقبل بتثبيت عملية بيع أو شراء أقل من مئة دولار».

لا يختلف الحال في إدلب عمّا هو عليه في مناطق شمال شرقي سوريا، وذلك بحسب ما يؤكده أكثر من تاجرٍ تواصلت معهم الجمهورية. يفيد تاجر الألبسة صالح البنشي «بأنّ تجار الجملة، وخصوصاً المواد الغذائية، تكون أرقام مبيعاتهم هي الأعلى مقارنةً بأصحاب المحال الأخرى، ولذا فهم يثبّتون لدى الصرافين عمليات شراء الدولار مراتٍ عديدة في اليوم الواحد، وعندما يذهبون في نهاية اليوم إلى الصراف لتسوية حساباتهم تجدهم قد اشتروا الدولار مرةً بـ1600 ليرة، ومرةً بـ1650 وثالثة بـ1700، وذلك تبعاً لارتفاع وانخفاض قيمة الليرة بشكلٍ ساعي».

في الوقت نفسه، تتنوّع غلّة أي محل تجاري في مناطق الشمال الخارجة عن سيطرة النظام بين الدولار والليرة التركية والليرة السورية، وبات الطبيعي أن يكون في أدراج أي تاجر مختلف القطع النقدية من هذه العملات، وإذا اختار الزبون دفع قيمة مشترياته بالليرة التركية، فسوف يعيد له البائع ما تبقى له بالليرة التركية. وينطبق الأمر نفسه على المشترين بالدولار أو الليرة السورية، وفي نهاية اليوم يكون لدى التاجر غلة بالعملات الثلاث سيحولها في الغالب إلى الدولار.

أما بالنسبة لصغار التجار، فهم لا يستطيعون تثبيت شراء مئة دولار لدى الصرافين، وهو أصغر مبلغٍ يمكن تثبيته لدى الصرافين في إدلب، سوى مرة واحدة كلّ ثلاثة أيام تقريباً، وكثيراً ما يُضطرّ صغار التجار للبيع بخسارة أو بأسعار مخفّضة من أجل الوصول إلى رقم مبيعات يصل إلى مئة دولار وشرائه تجنّباً لخسارات أقسى بموجب سعر الصرف، خصوصاً حين تتعرض الليرة لهزّاتٍ كبيرة كما هي الحال خلال الشهر الحالي، ومن هنا تنشأ الفروقات السعرية بين محل مفرّقٍ وآخر، حتى فيما يتعلّق بالمواد الغذائية ذات السعر المكشوف. يعلّق أحد التجار الذين تحدثنا إليهم بالقول: «كنا نردّد سابقاً أنّ سعر السلعة الفلانية مثل سعر باكيت الدخان، ثابت ولا يتغير، أما اليوم فقد بات سعر باكيت الدخان نفسه يختلف بين بائعٍ وآخر لا يفصلهما عن بعضهما سوى أمتار قليلة».

التجارة بين مناطق السيطرة المتعددة

تتم عمليات بيع وشراء القطع الأجنبي بشكل علني في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، بينما يختلف الحال في مناطق سيطرته ويخضع للرقابة والمُساءلة، كما أنّ أسعار الصرف في السوق السوداء تختلف بين محافظةٍ وأخرى حتى حدود 60 ليرة سورية تقريباً في بعض الأحيان، وهو الأمر الذي يترك أثراً واضحاً عند عملية تسعير ونقل البضائع من منطقة إلى أخرى في سوريا.

يقول أنس عبد السلام إنّ تعامله الرئيسي مع تجار مدينة حلب، وهو يثبّت طلبياته لديهم مسعّرةً بالدولار، ولكنه يحوّل لهم قيمتها بالليرة السورية بسبب الرقابة التي يفرضها النظام على القطع الأجنبي، شريطة أن تتم عملية تحويل الأموال خلال ساعاتٍ قليلة وقبل شحن البضائع، وإلا كان التاجر في حلٍّ من عملية البيع إذا استغرق تحويل الأموال مدة يومين أو ثلاثة بالتزامن مع انخفاض قيمة الليرة، لأن تاجر الجملة سيكون قد خسر الأموال رغم أنّ بضاعته ما زالت في مستودعاته.

ولكن ما يعوق ذلك بشكلٍ مستمر، بحسب عبد السلام، هو «أنّ عمليات تحويل الأموال ليست بالأمر السهل بسبب ملاحقات النظام المستمرة لمكاتب التحويل، وقد صار من غير اليسير تحويل مبلغ مليون ليرة عن طريق المكاتب المرخصة لدى النظام كالهرم، رغم أنّ مبلغ مليون ليرة سورية اليوم لا يتجاوز كونه قيمة صندوقي أقلام حبر ناشف».

مواد أساسية ولكن مُهدّدة

تتركّز معظم معامل ومستودعات الأدوية في مناطق سيطرة النظام السوري، ويُضطر أصحاب المعامل إلى استيراد المواد الأولية الداخلة في عملية التصنيع من خارج سوريا، غير أنّ المصرف المركزي قد توقّف عن تمويل هذه المستوردات نتيجة عجزه عن تأمين القطع الأجنبي. مشكلة أصحاب هذه المعامل تكمن في أنّ أسعار البيع تحددها لهم وزارة الصحة بموجب نشرة أسعار صرف الدولار التي يحددها البنك المركزي، بينما هم يُضطرون لتأمين الدولار لتمويل مستورداتهم بثلاثة أضعاف سعر النشرة الرسمية عن طريق السوق السوداء. وكانت وزارة الصحة التابعة للنظام قد قرّرت رفع أسعار الأدوية بنسبة 25%، في حين يُطالب أصحاب المعامل بزيادة الأسعار بنسبة 300% حتى يتمكنوا من مواصلة أعمالهم، ولكنّ رفض وزارة الصحة قد دفع أصحاب معظم المعامل إلى إنتاج بعض الأصناف بالحدود الدنيا، وهو بدوره ما يفسر فقدان العديد من الأدوية من الصيدليات.

أما بالنسبة للصيدليات الموجودة في مناطق سيطرة فصائل المعارضة بإدلب، فهنالك أزمة في الأدوية كون مديرية صحة إدلب قررت زيادة أسعار الأدوية الموجودة على رفوف الصيدليات بنسبة 60%، ولكنّ كثيراً من الصيادلة لا يناسبهم البيع رغم هذه الزيادة؛ لأنّ نفاد البضائع الموجودة لديهم يعني أنهم ليسوا قادرين على الشراء منها مجدداً حتى بأسعار مضاعفة. خلاصة ذلك أنّه قد بات تأمين الدواء مشكلة مُلحة وقابلة للتفاقم في سوريا، ولذا لا بدّ من التفكير في آليات تسعير ودعم للصناعات الدوائية الخاضعة لقوانين الجهات الصحية في مختلف مناطق السيطرة في سوريا، وذلك حتى يتمكن الناس من الحصول عليها وحتى لا يُضطرّ الصيادلة وأصحاب المعامل والمستودعات إلى الإغلاق.

يعطينا الحديث إلى التجار تصوراً عن مدى مشقّة العمل وتأمين مصدر الرزق في سوريا، ويكشف إلى أي حدٍّ يعاني التجار الصغار والمتوسطون على وجه الخصوص في سبيل مواصلة أنشطتهم، وإلى أي حدّ يعاني المستهلكون في تأمين احتياجاتهم الأساسية. يقول التجار إنهم ضحية لهذه الأوضاع، فيما يلقي المستهلكون على التجار بمسؤولية غلاء الأسعار وجعل الحياة أكثر صعوبة، ولكن يبقى المشترك بين كلام التجار والمستهلكين هو أنّ معظمهم لا يبلغ حدّ الكفاف إلا بشقّ الأنفس.