لم يترك فيروس كورونا جانباً من جوانب الحياة دون أن يؤثر عليه، ولا قطاعاً دون أن يؤثّر على حياة العاملين فيه. واحدٌ من هذه القطاعات المتضررة هو قطاع التعليم، الذي تعطل بشكل كامل في الدول التي لا تمتلك بنية تحتية جاهزة للتعامل مع التعليم عن بعد، بينما فضلت بعض الدول الأخرى إكمال عملية التعليم في المدارس والجامعات عبر الإنترنت. 

تواصلَ الحديث خلال العقود الثلاثة الأخيرة عن التعليم عن بعد، بصفته خطوة منتظرة ستحدث في المستقبل القريب أو الآجل، وهو أحد الأهداف المستقبلية في عالم التكنولوجيا للدول المتقدمة، لكن الوباء فرض عملية التحول التجريبي هذه بسبب إغلاق الجامعات والمدارس، وظهر بذلك نوعٌ جديدٌ من الأسئلة عن العلاقة بين المجتمعات والتكنولوجيا التي سترسم هذا التحول، كما وضعت هذه التجربة الحكومات والجامعات الرسمية في العالم في مواجهة أسئلة أخرى أبعد من الجاهزية التكنولوجية، أسئلة عن عملية التعلم بحد ذاتها، عن أدواتها والتغييرات التي ستطرأ على مهنة المُعلّم والأستاذ الجامعي.

يُتيح التعليم عن بعد للطلاب مجموعة من الميزات التي يمكن أن تكون إيجابية، مثل توثيق العملية التعليمية وأرشفتها على مواقع الإلكترونية الخاصة بكل جامعة، ما يسمح باستخدام طرق التعلم غير المتزامنة، وهو ما  أشارت إليه شهرزاد، طالبة البيوتكنولوجيا في جامعة برلين التقنية، عندما قالت في حديثنا معها إن إحدى الميزات هي إمكانية أن تفصل بين مجموعة مهام كانت تقوم بها في الصف بشكل متزامن مع الوقت المخصص لشرح الدرس، أما الآن صار بالإمكان أن تسمع المحاضرة ثم تعود إليها مرة أخرى لتسجيل بعض الملاحظات، والتوسع في قراءة المصادر، مما سهّل عملية الدراسة. أما الجانب الآخر الذي كان مصدراً للراحة بحسب ما ذكرت شهرزاد، فهو التعلم في البيت، حيث لا يجب على الطالب الذهاب للجامعة، بل يجلس كما يحب في بيته، مع تحضير الأكل والشراب متى ما يحب. لكن هذه المرونة ليست ممكنة في جميع المواد التي تدرسها شهرزاد، خاصة في المواد العملية، التي تتطلب منها الذهاب إلى المختبر: «لا أعرف كيف ستُقدَّمُ المواد العملية التي تتطلب منّا الذهاب للمختبر. لم نبدأ بعد في كورس المواد العلمية، لكن أتوقع أننا سنواجه صعوبة كبيرة، لأنه لا يمكن أن تُسجَّلَ لنا التجربة على شكل فيديو مثلاً لنتعلم منها، إضافة إلى أن الذهاب للمختبر وإجراء التجربة بنفسك يتيح لك المراقبة والتعلم، وبالتالي القدرة على تذكر نتائج التجارب التي قمت بها. لا أعتقد أن شكل التعليم هذا يمكن أن ينجح في المواد العملية كما في المواد النظرية».

تواجه بيان إشكالية مشابهة مع نوع المواد التي يمكن تدريسها عبر الانترنت في أكاديمية أوغست إيفردينغ للمسرح في ميونخ، إلى جانب مجموعة من التغيرات التي طرأت على طرق تدريس المواد العملية التي تتطلب من الطالب حضوراً مختلفاً أمام كاميرا اللابتوب، التي حلت مكان أعين المتفرجين من الزملاء والأساتذة  في الصف. تصف لنا بيان تجربتها الأولى في أداء أول مونولوج مسرحي لها عبر تطبيق زووم: «كانت تجربة صعبة فعلاً، يجب على الممثل ألّا يقدم مونولوجاً أكبر أو أقل من إمكانيات الزووم، أي أن يقدم مونولوجاً يناسب الوسيط ويصل إلى المشاهدين. وجدتُ نفسي محصورة في مربع صغير، ولا أرى أحداً أمامي كما على المسرح. حاولتُ الاستفادة من تقنيات يتيحها الزووم حتى أعوِّضَ عن غياب الخشبة، وحتى أحول الشحنة السلبية بسبب الظرف الحالي إلى طاقة إيجابية تسمح لي بتقديم مونولوج جيد قدر الإمكان».

وعندما سألنا بيان عن الاختلاف الذي لاحظته في عملية تلقي الدروس عبر الزووم: «في الصف أشعر بنفسي متورطة أكثر في الدرس، كما أن التفاعل الحي مع الطلاب والأساتذة يكتسب معنىً أكبر. أما في مواد أخرى مثل المواد التي نتدرب فيها على النطق، فقد كان الزووم وسيلة أفضل لتدريس المادة، لأن تسجيل الصوت يكشف بشكل أدق مشاكل النطق عند الممثلين». بالنسبة لبيان، التحدي الأكبر في تجربة التعليم عن بعد هو التداخل بين مكان التمثيل ومكان العيش؛ تقول: «في السنوات الأولى من دراسة التمثيل، تعلّمنا الفصل بين التمثيل والمسرح وبين العالم خارجه. هذا الفصل يحمي الممثل. أما في دروس الزووم، وجدتُ أن البيت الذي أعيش فيه هو مكان التمثيل، وعادت لتختلط الأمور في ذهني من جديد. لكن من جهة أخرى، يُتيح التعليم عن بعد للطالب إمكانية تعويض الدروس بسبب الغياب، أو عدم القدرة على التواجد فعلياً في الصف».

لا تقتصر أثار التعليم عن بعد على الطلاب فحسب، بل أيضاً على المعلّم، الذي ربما يكون المتضرر الأكبر في عملية التعليم بشكلها الإلكتروني الذي يؤثر على آلية التواصل، وعلى أدوات التعليم ومقومات المهنة ككل. تخبرنا شذا، وهي مُدرّسة في معهد لتدريس التسويق الإلكتروني في كندا، عن الصعوبات التي تواجهها  خلال التحضير للجلسات والاجتماعات، حيث تجد شذا أن التعليم الإلكتروني يهدد مهنة المعلّم، حالها كما حال كثير من المهن التي يهدد التطور التكنولوجي وجودها: «كان التعليم في طريقه إلى أن يصبح إلكترونياً، أما الكورونا فقد سرّعت حدوثه، وعلى أية حال، أجد أن التعليم الآن صار روبوتياً، فكيف نَصِفُ إذاً الأستاذ الذي يسجل المحاضرة، ثم يرفعها على الموقع، ويمكن بعد ذلك إعادتها إلى ما لا نهاية دون الرجوع إلى الأستاذ؟».

كما ذكرت لنا شذا اختلافات لاحظتها  في تلقي الطلاب للدروس والجلسات الإلكترونية: «عملية التلقي تختلف بحسب الطلاب، وتعتمد بشكل كبير على الفروقات الفردية بينهم. هناك أشخاص يتعلمون بسرعة أكبر من الآخرين، بينما هناك فئة منهم تتعلم أكثر بالتفاعل والحضور في الصف. بالإضافة إلى أن عامل العمر يلعب دوراً كبيراً في التعليم عن بعد، حيث أن استجابة البعض قد تكون أبطأ بسبب عدم المعرفة الجيدة في التواصل والتعامل مع  منصات التعليم المختلفة. لديَّ طلابٌ فضّلوا توقيف تسجيلهم بدلاً من المتابعة في الدروس أون لاين».

عندما سألنا عن تأثير عملية التعليم على مهام المعلم وحضوره، أثارت شذا إشكالية تتطلب التفكير في بروتوكول الحضور بين الطلاب والمُعلّم: «بعد بداية الجلسة يطفئ الطلاب كاميراتهم، وأجد نفسي أتكلم مع مجموعة مستطيلات فارغة. لا أعرف إذا كان الطلاب يسمعونني، ولا ما إذا كانوا يتابعون المحاضرة فعلاً، أم أنهم سجلوا حضورهم ثم اختفوا، وذلك يسبب الإحراج لي وللطلاب أو الطالبات الذين ما زالت كاميراتهم مفتوحة، حيث أُضطر أن أوجه نظري دائماً إليهم. كذلك من المحرج اختراق خصوصية الدرس أحياناً، مثلاً عند وجود الشريك/ة أو الأولاد، يتابعون معنا الدرس من باب الفضول. أجد عملية التواصل بالشكل الحالي غير متوازنة، وتُقلّص بشكل كبير أدوات التأثير عند المعلم».

يطرح التعليم عن بعد مجموعة كبيرة من المشاكل غير التكنولوجية، التي تتعلق بالعلاقة البشرية بين الطالب والمعلم، والتي تترك أثراً كبيراً على المحتوى والمعلومات التي يجب تدريسها. ولا ننسى أيضاً العلاقات الاجتماعية المبنية على التبادل المعرفي، أو حتى العلاقات التي يكونها الفرد خلال الحياة الجامعية. هذا كله سيختفي عند التحول إلى التعليم عن بعد. هذا بالإضافة إلى مُساءلة جودة المحتوى التعليمي ومصداقيته، وما هي الوسائل التي تُمكِّنُ الجامعات والأساتذة من اختبار وصول المعلومة بشكلها الصحيح إلى ذهن الطالب. في هذا الخصوص، تؤكد لنا شذا «أن غالبية الطلاب لا يعتمدون على أنفسهم في حل أسئلة الاختبارات، حيث كل المصادر على الموقع متاحة. وأحياناً أُلاحظ أن أحدهم قام بالنسخ واللصق من الكتاب ذاته، كما يمكنهم أن يرسلوا الإجابات لبعضهم بعضاً عن طريق لقطات الشاشة. لا يمكن التحكم بذلك، بل يجب إعادة التفكير أساساً في شكل الإمتحان وطبيعة الأسئلة». كلّ ذلك عدا عن الجوانب الاقتصادية التي يمسّها التعليم الإلكتروني، من ناحية أقساط التعليم التي صارت غير متناسبة مع الخدمات التي تقدمها الجامعات، التي لا تصرف على أية تكاليف ثابتة بما أنها أساساً مغلقة، وجوانب كثيرة أخرى منها معدلات القبول، وعدد الساعات المخصصة للدراسة من قبل الطالب في المستقبل، وأجور المعلمين والأساتذة.

ليست هذه المرحلة إلا مرحلة تجريبية فرضها الظرف الحالي بسبب جائحة الكورونا، إلا أنها تطرح إشكاليات أكبر من مسألة الجانب التكنولوجي، إذ أن هناك مجموعة من الجوانب التي يجبرنا الحل الإسعافي على التفكير بها على المدى الطويل. يفترض كثيرٌ من العلماء والخبراء في مجال التكنولوجيا أن العالم قطع أشواطاً كبيرة باتجاه التعليم عن بعد، لكن هذا الافتراض لا يأخذ في عين الاعتبار مدى جاهزية العنصر البشري، ولا يشمل التفكير في الفروقات الفردية والاجتماعية والاقتصادية التي قد تقف عائقاً أمام عملية التحول هذه، ذلك عدا عن التفاوت الكبير بين دول العالم في مدى الجاهزية التقنية، مما سيضخم الفجوة المعرفية والتعليمية على مستوى العالم.