انقضى ما يقارب الشهرين على بدء حظر التجوال المسائي الذي فرضته حكومة النظام في سوريا، وما رافقه مع قرارات بإيقاف وسائل النقل الجماعي، ومنع التنقل بين المحافظات إلّا في حالات استثنائية، وإيقاف كثير من المؤسسات العامة والخاصة، وإغلاق المحال ما خلا محال الأغذية والصيدليات. وقد أفقدت هذه الإجراءات العاصمة دمشق كثيراً من صخبها، وخصوصاً مع منع الدخول إليها إلا لموظفي الصحة والعسكر، لتُسمَع فقط خطوات الجند وهي تكسرالهدوء في شوارع دمشق ليلاً.
أعادت هذه الظروف تشكيل شوارع العاصمة بطريقة لم نحظَ برؤيتها من قبل، على نحو يذكّر بصور المدينة في الستينيات، التي تباع كبطاقات بريدية وتظهر الجوانب العمرانية للشام. لكن الفارق أن الشوارع النظيفة الأنيقة في الصور، تبدو الآن ملوثة بالإسمنت العاري ومواد البناء الفوضوية، التي تجعلها تبدو مشوهة، خصوصاً مع انعدام الازدحام الذي يشكّل جزءاً من ذاكرتنا عن المدينة.
لا يمكن تذكر سوق الحميدية دون مشاهد الازدحام فيه، ولا يخطر في البال حي القيمرية دون بسطات الأنتيك المتواجدة أمام المحال فيه. الآن، مع تراجع الكثافة البشرية، توحدت ألوان جميع الأسواق المقفلة بألوان علم النظام الذي تم فرضه منذ نحو خمسة أعوام على جميع الواجهات، لتبدو أبواب المحال المغلقة خرساء إلاّ من ألوان العلم وبعض صور أعيان النظام أو قتلى قواته. سَحبَ الحظر أغلب التفاصيل من الشوارع والأسواق، وانتزع الحياة منها لتبقى الأعلام والصور، وتزيد من وقع حضور النظام الأمني في جميع شوارع المدينة.
وقد جاء الشلل الاقتصادي مترافقاً مع ارتفاع في الأسعار، وصل إلى 60 بالمئة وفق تقديرات رئيس قسم المصارف والتمويل في جامعة دمشق، الذي قدَّرَ الخسائر بما يزيد عن ألف مليار ليرة سورية شهرياً، وذلك في تصريحات لصحيفة الوطن السورية شبه الرسمية. وبغض النظر عن مدى دقة هذه التقديرات، إلا أنها تشير إلى أزمة كبيرة ستنعكس حتماً على شكل تدهور كبير في أوضاع السكان، وذلك في بلد يعيش نحو 83 % من سكانه تحت خط الفقر، بحسب أرقام مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة.
العوز الاقتصادي الذي ضرب الجيوب، وإقفال عمل المؤسسات والجمعيات الخيرية التي كانت تسد جزءاً من حاجة الناس، إضافة إلى تقليص عمل مكاتب التحويل التي يأتي عبرها الدعم الذي يتلقاه كثيرون من أقاربهم في الخارج؛ كلّ هذه الظروف دفعت الناس إلى عدم الالتزام بالحظر، بعيداً عن أعين السلطات في حالات كثيرة، حيث انتقلت المحلات والمهن إلى البيوت أو إلى وراء الأبواب المغلقة، أو أجريت تعديلات على بعض المحلات التجارية، لتحتلّ بسطات المنظفات واجهات متاجر الملابس والأحذية والعطور والمكياجات، في سبيل تبرير فتح أبوابها أمام السلطات.
في حين كانت حرب ناعمة تُخاض بين أصحاب المصالح والمحلات للحصول على استثناءات، فبعد خمسة أيام على حظر التجوال، بدأت العديد من المحلات بالحصول على استثناءات من محافظة دمشق لكسر قرار الإغلاق، في حين أن كثيرين من الذين عجزوا عن الحصول على استثناءات كهذه، عمدوا إلى رفع الأَغلاق المعدنية عن واجهات محلاتهم، ثم علّقوا على واجهاتها الزجاجية لافتات مثل «مغلق بسبب الصيانة». هذه اللافتات موجهة للأجهزة الرسمية وليس للزبائن، مع دفع رشاوى لدوريات المحافظة بهدف غضّ النظر، في حين ينسلّ طالب الحاجة من الأبواب المفتوحة بشكل موارب إلى البائع ليشتري حاجته ويخرج. هكذا باتت عبارة «مغلق بسبب الصيانة» تأخذ معنىً ضمنياً عكسياً، وهو أن المحل مفتوح ولكن ليس أمام أعين دوريات التموين والمحافظة.
حالة القلق من أن يكون الفيروس قد انتشر في غفلة من السلطات، تحولّت بفعل العوز المادي إلى مطالبات برفع الحظر، ثم بدأت القرار الرسمية لتخفيف الإجراءات منذ 18 نيسان (أبريل) الماضي، حين تم تخصيص أيام تُفتح فيها الطرقات بين المحافظات ودمشق، وبعدها بعشرة أيام صدر قرارٌ بفتح الطرقات بين الأرياف والمدن، وكذلك بين دمشق وريفها.
ورغم ما قد تحمله هذه القرارات من مخاطر صحية، إلا أنها أثارت ارتياح كثير من سكان دمشق، نظراً لما كان يتسبب به تحديد الحركة من ضيق اقتصادي، فيما رأى آخرون فيها إرضاء للفعاليات الاقتصادية على حساب الصحة العامة. وعلى أي حال، انتهى شهر نيسان الماضي بقرارات قضت بعودة عمل الوزارات والمؤسسات العامة والخاصة، وخطوط النقل العامة، مع الإبقاء على حظر التجول ليلاً ابتداء من مطلع شهر أيار (مايو) الجاري. كذلك أصدرت وزارة الأوقاف قراراً بفتح المساجد للصلاة يوم الجمعة منذ منتصف شهر رمضان، وكذلك بفتح الكنائس أيام الآحاد.
وكانت المنطقة التي شهدت أوسع انتشار للمرض هي منطقة السيدة زينب في ريف دمشق، التي تشكل مقصداً أساسياً للزوار الشيعة ومقاتلي الميليشيات التابعة لإيران بتعدد جنسياتهم، حيث فرضت السلطات حظراً كاملاً عليها، ومنعت الخروج منها إلا لأسباب تقدرها نقاط المراقبة الموجودة على تخومها. وقد عملت السلطات على وسم أيادي الخارجين من منطقة السيدة زينب بأختام، بهدف تمييز الخارجين عبر المعابر الرسمية عن أولئك الخارجين خلسة، وهو الإجراء الذي تناولته وسائل إعلام محلية بالنقد اللاذع باعتباره إجراءً غير لائق، الأمر الذي دفع برئيس البلدية إلى الخروج على إحدى الإذاعات المحلية وإلغاء القرار، وتحميل المركز الصحي في المدينة مسؤوليته.
وأفردت وسائل الإعلام التابعة للنظام مساحات للحديث عن كورونا، حيث وضعت صحيفة تشرين الحكومية شعار «خليك بالبيت» على صفحتها الأولى، كما خصصت صحيفة الوطن صفحة كاملة لتغطية أخبار الوباء، كان معظمها لتسليط الضوء على القرارات الرسمية لمكافحته وحض ّالناس على التزام بيوتهم. في حين تناول الإعلام المرئي الخسائر الاقتصادية التي أصابت الغرب والولايات المتحدة الأميركية جرّاء الإقفال، مستضيفياً العديد من المحللين السياسيين للحديث في هذا الشأن.
بالمقابل مرّرت حكومة النظام العديد من القرارات التي تُقلّص الدعم الحكومي على مواد عديدة، حيث فرضت منذ منتصف نيسان قراراً بتوزيع الخبز عن طريق البطاقة الذكية، ما يعني حرمان شريحة كبيرة من الناس من شراء الخبز بسعره الرسمي، وهي شريحة المطلوبين أمنياً أو للخدمة العسكرية، الذين لا يستطيعون الحصول على بطاقة ذكية. قبل ذلك، كان قد تم حذف مادة الشاي من المواد المدعومة عبر البطاقة الذكية.
كذلك يبدو أن العجز الاقتصادي دفع الحكومة إلى رفع الدعم عن وقود المركبات التي تفوق سعة محركها 2000cc، وذلك بموجب قرار صدر في الرابع من شهر أيار الجاري، وشمل أيضاً كل من يملك أكثر من سيارة، وهو ما يعني أن على هؤلاء أن يشتروا المحروقات بضعف ثمنها لسياراتهم غير المشمولة بالدعم. وقد توجّه كثيرون إلى وزارة النفط للاعتراض والاستفسار، غير أن الوزارة تهرّبت من الإجابة بحجة أن المسألة من اختصاص شركة «تكامل» الخاصة.
تأسست شركة تكامل في العام 2016، ويرأس مجلس إدارتها مهند الدباغ إبن خالة أسماء الأسد، وهي الشركة المسؤولة عن أتمتة المواد المدعومة من قبل الحكومة، بعد أن ربحت المناقصة التي كانت بنودها سريّة، وهو ما أثار اتهامات حول الدور الذي تلعبه أسماء الأسد في اقتصاد البلاد، وخصوصاً بعد قرار إقالة وزير التجارة الداخلية عاطف النداف في العاشر من الشهر الجاري، وذلك بعد إعلانه إيقاف العقد مع شركة تكامل منتصف الشهر الماضي.
عند توجه أصحاب الشكاوى إلى مقرّ شركة تكامل في حي المزة فيلات غربية في دمشق، قابلتهم الأبواب الموصدة، مع لافتة مكتوب عليها «الرجاء عدم الإحراج والسؤال… مغلق حتى إشعار آخر»، ليصل المعترضون إلى نفق مسدود دون سماع شكواهم بعد تعطيل عمل بطاقاتهم الذكية.
بقيت أخبار كورونا، ومعها أخبار البطاقة الذكية وتراجع الدعم الحكومي، هي المسيطرة على أحاديث الناس في دمشق، حتى خطفت فيديوهات رامي مخلوف الأخيرة الأضواء، وأصبحت هي المسيطرة على الأحاديث العامة. وخلافاً لما يمكن أن يدور خلف الأبواب المغلقة من أحاديث، فإن الأحاديث المسموعة في الشارع ضمّت رامي مخلوف إلى قائمة التجار الذين يستغلون الشعب، والذين يقع على عاتق السلطة محاسبتهم، دون التعرّض لنفوذ مخلوف الناتج عن قرابته للأسد، ولا علاقة أسماء الأسد بذلك.
وفي هذا السياق، نفّذ فرع أمن الدولة اعتقالات شملت العديد من الموظفين الإداريين المسؤولين عن جوانب مالية في شركة سيريتِل، اقتصر بعضها على الاستجواب ليوم واحد فقط، لكن طريقة الاعتقال عبر مداهمة البيوت، والإشاعات التي تحدثت عن احتجاز أفراد عائلات بعض المطلوبين لإجبارهم على تسليم أنفسهم، زادت من جو الترهيب في المدينة، وخصوصاً أن المعتقلين يعملون في شركة مرتبطة بالنظام، وأنهم معروفون بولائهم له.
الاعتقالات التي حدثت، وتوقف عدد من الموظفين عن العمل لأسباب مجهولة بحسب مصادر من داخل الشركة، أدت إلى خلق اضطراب في العمل الإداري، فأوقفت الشركة جميع الأقسام المتعلقة بالصيانة حتى إشعار آخر، فيما تمّ تحويل معظم الموظفين للعمل في منازلهم، والقسم الآخر يعمل في مركز الشركة الرئيسي على أوتستراد درعا دمشق، مع تجاهل تام لأي حديث بخصوص الفيديوهات أو مصير الشركة، ما فرض جواً من الترهيب جعل الجميع يتحاشون الإشارة للموضوع خلال ساعات العمل بحسب ما أفادنا المصدر
ترافقت كل هذه الظروف مع هبوط حاد لليرة السورية أمام الدولار الأميركي، حتى سجلت 1560 ليرة للدولار الواحد. وإذا كانت آثار هذا الهبوط لم تؤثر بشكل كبير على الأسعار حتى الآن، فإن ذلك ربما يرجع إلى إغلاق الحدود مع لبنان، وتوقف معظم عمليات الاستيراد والتصدير نتيجة إجراءات كورونا، غير أن هذا الهبوط سيفرض نفسه مباشرة على الأسعار بمجرد فتح عمليات الاستيراد والتصدير ونقل البضائع.
خلال شهرين من الحظر، مرّرت حكومة النظام قرارات عديدة تضمّنت تراجعاً في دعم السلع الأساسية، واختبر السوريون الحجر الصحي، فأدركوا أنهم لا يستطيعون الالتزام به بسبب الوضع الاقتصادي المتردي، مفضّلين المخاطرة بالعدوى على الاقتراب من الموت جوعاً. وقد اعترف رأس النظام بهذه المعادلة صراحةً في خطابه في الرابع من الشهر الجاري، عندما قال: «العَوَز حالة مؤكدة وليست محتملة، أما حالة المرض فهي احتمال. ونتائج الجوع محسومة سلفاً، أما نتائج الإصابة بالمرض فليست محسومة، لأن النسبة الكبرى من المصابين قد تشفى».
هكذا وضع الأسد السوريين أمام خيارين، الموت جوعاً أو احتمالية الموت مرضاً، ليختاروا الأقل سوءاً، أو ربما ليختاروا أي شكل من الموت يفضلون.