كانت الطائرات الإسرائيلية قد ضربت بالفعل مواقع تابعة لإيران في سوريا، وذلك قبيل تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي في الحكومة المنتهية ولايتها نفتالي بينيت، عن أن بلاده دخلت في مرحلة إخراج إيران من سوريا بشكل نهائي. وقد اعتُبِرت تلك التصريحات نقطة تحول في سياسة الحرب المائعة التي تشنها إسرائيل على الوجود الإيراني في سوريا، من خلال ضربات جوية على قواعد للميليشيات التابعة لطهران، أو قواعد القيادة والتحكم التي يديرها الحرس الثوري في سوريا.
لكن هذه الهجمات الجوية الأخيرة لا تُشكّل أي تطور في سياق الضربات الإسرائيلية المعتادة على المواقع التابعة لإيران في سوريا، وهو ما يضع تصريحات بينيت هذه في سياق أكثر محليةً، خاصةً أنها جاءت قبل أيام من إعلان حزبه (يمينا) عدم اشتراكه في التشكيلة الوزارية الجديدة، التي ستتشكل من تحالف أكبر كتلتين في الكنيست الإسرائيلي؛ كتلة اليمين بقيادة الليكود الذي يترأسه بينيامين نتنياهو، وكتلة الوسط التي يقودها حزب أزرق-أبيض بزعامة بيني غانتس، وذلك بعد اتفاق بين الطرفين على تشكيل حكومة إئتلاف لتجنب الذهاب إلى انتخابات برلمانية رابعة في أقل من 18 شهراً.
وقاد الاتفاق الذي وقعه زعيما الكتلتين، في العشرين من نيسان (أبريل) الماضي، إلى اتفاق تقاسم للسلطة، يترأس بموجبه نتنياهو الحكومة لمدة سنة ونصف فيما سيترأس غانتس الحكومة لفترة مماثلة. وسيتولى غانتس، الذي شغل موقع رئيس أركان الجيش الإسرائيلي سابقاً، منصب وزير الدفاع في الحكومة الجديدة، بالإضافة إلى تسميته رئيساً للوزراء بالإنابة. وقد نقلت الإذاعة الإسرائيلية عن مصادر أنّ الحكومة الجديدة ستتكون من 36 حقيبة وحوالي 16 منصب نائب وزير، لتكون الحكومة الأكبر في تاريخ إسرائيل.
هذا التحول الجذري في موقف غانتس، الذي أصرّ طوال الأشهر الماضية على ضرورة إخراج نتنياهو من السلطة، قُدِّمَ للجمهور الإسرائيلي على أنه محاولة للاستجابة لأزمة طارئة هي تفشي فيروس كورونا بعد إصابة أكثر من 24 ألف شخص بالمرض، إلا أنّ نتائج ثلاث انتخابات برلمانية غير حاسمة هي التي فرضت نفسها على زعيم التيار الجديد في السياسة الإسرائيلية، الذي قاد تحالف أزرق-أبيض المكون من عدة أحزاب صغيرة ليكون أحد أكبر قوتين في الكنيسيت الإسرائيلي.
ضمن هذه التغيرات الجديدة في إسرائيل، فإن تصريحات وزير الدفاع في الحكومة المنتهية ولايتها، نفتالي بينيت، يمكن أن تفسر في سياق سعي حزبه إلى إيجاد مكان له في التحالف الحاكم الجديد، وهو المسعى الذي لم يفلح على ما يبدو. مع ذلك، فإن شكل الحكومة الجديدة في إسرائيل يقود إلى القول بأنّ فرصة اطلاق هجمات أوسع ضد الوجود الإيراني في سوريا أصبحت أكبر، إذ سيكون غانتس متحمساً لفرض نفسه كزعيم إسرائيلي وليس مجرد الرقم اثنين بعد نتنياهو، وبالمقابل فإن نتنياهو سيكون مرتاحاً لأي تصعيد عسكري قد يساهم في التغطية على أخبار محاكمته التي تبدأ هذا الأسبوع.
لكن السؤال في مثل هذا الوقت، لن يكون عن فرص التصعيد الإسرائيلي ضد الوجود الإيراني في سوريا، بل عن نوع هذا التصعيد الذي يحقق فعلاً الهدف الذي أعلن عنه بينيت في تصريحاته، وهو إخراج إيران من سوريا.
تمتلك إيران قواعد عدة في البلد، تتوزع بين وسط سوريا في قاعدة التي فور (T4)، إلى أقصى شرقها حيث تقيم قاعدة عسكرية جديدة في البوكمال، إلى جانب قاعدة «الإمام علي» العسكرية التي سبق وأنشأتها في المنطقة بالقرب من الحدود السورية العراقية، والتي تضم الآن قوات من ميليشيات حزب الله العراقي واللبناني، بالإضافة إلى قوات من الحرس الثوري الإيراني.
أيضاً تنتشر القوات الإيرانية، أو قوات موالية لها، في محيط العاصمة دمشق بالقرب من الكسوة والسيدة زينب، وفي مواقع عدة من القلمون إلى حلب. كما أنها لا تزال تسيطر على مواقع هامة على محور جنوب البلاد، على الرغم من تراجع وجودها في محافظة درعا.
يضاف إلى تلك القواعد، دعم إيران لمصانع صواريخ موجهة في مناطق ضمن الساحل السوري، وهو ما يضع الوجود العسكري الإيراني ضمن عدة مستويات، وفي مناطق متوزعة على مساحات واسعة من البلد، ما يعني أنّ إخراج طهران وقوات الحرس الثوري من سوريا يحتاج إلى تدمير كامل تلك القواعد الرئيسية، وتوجيه ضربات مركزة ومستمرة لطرق النقل والتموين، وأن تكون تلك الضربات واسعة جداً، ومتزامنة إلى حد بعيد، وأن يمتلك الطيران الإسرائيلي القدرة على توجيه ضربات متتابعة لفترات طويلة لطرق الإمداد، خاصةَ عند الحدود السورية العراقية، وهو أمر ستقابله طهران برد ما على الأرجح، بالذات إذا شعرت أنّ الهجمة الإسرائيلية ستعني فعلاً إنهاء وجودها في سوريا.
الرد الإيراني سيعني اضطرار إسرائيل إلى التدخل برياً لتحييد مصادر النيران الخطرة على الجليل في جنوبي سوريا، وهو ما سيضطرها للقيام بعمليات إنزال كبيرة أو اجتياح بري، وهو أمر لن يروق لموسكو بالتأكيد، إلا أنّ موقف روسيا ليس محسوماً، خاصةً في ظل غياب أي أفق لانهاء وجودها المكلف في سوريا مع الحفاظ على مكتسباتها السياسية والعسكرية فيها.
في الحقيقة، يعلم غانتس ونتنياهو أنّ مثل هذا السيناريو مرجح إذا ما تمّ توجيه ضربة عسكرية واسعة ضد قوات طهران في سوريا، ما يعني أنّ قيامهم بمثل تلك الخطوة لن يكون سريعاً إذا كانوا يفكرون حقاً بمثل هذا الخيار، إذ ستحتاج حكومة الإئتلاف تلك في مثل هذا السيناريو إلى موافقة ودعم واسع من واشنطن، التي تمتلك قوات في شرق سوريا قد تكون هدفاً للميليشيات الإيرانية في حال اندلاع مثل تلك المواجهات.
لذا فإنّ احتمال توجيه مثل هذه الضربات سيبقى منخفضاً قبل انتهاء الانتخابات الأميركية، وقبل بسط إسرائيل لسيادتها على أجزاء من الضفة الغربية المحتلة تنفيذاً لمبادرة الرئيس الأميركي دونالد ترامب للحل في الشرق الأوسط، والتي تمّ رفضها بشكل قاطع من الجانب الفلسطيني والأردن. ستزيد احتمالات توجيه مثل تلك الضربة مع نهاية العام، بعد انتهاء الانتخابات الأميركية وتحديد توجه واشنطن المقبل حيال إيران.
بانتظار نضوج تلك الاحتمالات والتطورات، فإن الحديث عن خروج إيران من سوريا لن يتعدى بالنسبة لإسرائيل مراقبة طهران وهي تسحب ميليشيات عراقية من البلاد، لأسباب كثير من بينها ضم تلك الميليشيات إلى الجيش العراقي، وتخفيض تكاليف الوجود في سوريا نتيجة العقوبات الإقتصادية المشددة، بالإضافة إلى تراجع مستويات التصعيد في سوريا وانحسارها إلى خطوط التماس في محافظة إدلب فقط.
أما إخراج إيران نهائياً من سوريا، فسيحتاج بالتأكيد أكثر من تصريحات لوزير دفاع في حكومة منتهية الولاية.