قامت دوريات تركية يوم الخميس الفائت بتوزيع منشورات قرب مدينة أريحا في ريف إدلب، تدعو فيها أهالي المنطقة إلى عدم تصديق أكاذيب ما أسمتهم «المنزعجين من بيئة الهدوء والسلام التي نوفرها في إدلب». وكانت القوات التركية قد قامت برمي منشورات مماثلة من طائرات مسيرة يوم الإثنين 27 نيسان (أبريل) الماضي على قرى في ريف إدلب، تدعو فيها الأهالي إلى التعاون مع الجيش التركي، وتدعو ضمنياً إلى إنهاء الاعتصام المستمر منذ أواسط آذار (مارس) الماضي، الذي يعوق تنفيذ دوريات روسية تركية مشتركة على طول طريق حلب اللاذقية الدولي M4.
ويتم تسيير دوريات تركية منفردة في عدة مناطق على الطريق، خاصة بالقرب من أريحا وجسر الشغور، بينما تكتفي الدوريات التركية الروسية المشتركة بالمسير بين بلدتي ترنبة والنيرب على الطريق الدولي نتيجة قطعه من قبل المعتصمين، فيما كان الاتفاق الذي أبرمه الرئيسان التركي والروسي في موسكو، في الخامس من آذار (مارس) الماضي، يقضي بأن يتم تسيير الدوريات المشتركة على طول الطريق، في عمق المناطق الخارجة عن سيطرة النظام من غرب سراقب إلى غرب جسر الشغور.
وكان الاعتصام، الذي أسماه منظموه «اعتصام الكرامة»، قد بدأ بالقرب من أريحا يوم الثالث عشر من آذار (مارس)، أي بعد نحو أسبوع من توقيع الاتفاق التركي الروسي الذي أوقف المعارك في إدلب، ثم انتقلت نقطة الاعتصام الرئيسية لاحقاً إلى جوار بلدة النيرب على الطريق بين أريحا وسراقب، وقامت بعدها مجموعات بالاعتصام بالقرب من بلدة ترنبة شرق النيرب، وهي البلدة التي تمثل خط التماس بين قوات النظام وفصائل المعارضة، في محاولة لمنع الدوريات المشتركة من السير على أي جزء من الطريق.
جاءت بداية الاعتصام في أجواء فرضها عدم وضوح مصير المناطق المحيطة بالطريق الدولي، وخاصة المناطق الواقعة إلى جنوبه، إذ تم تفسير الاتفاق على أنه يقضي بوضعها تحت الإدارة الروسية، ما يعني سيطرة النظام عليها دون قتال، وإنهاء آمال النازحين من أبنائها في العودة إلى ديارهم، وهو ما دفع كثيراً من أبناء إدلب إلى رفض الاتفاق ودعم محاولات عرقلة تنفيذه. في الوقت نفسه، فرض الحضور الواضح لهيئة تحرير الشام نفسه على الاعتصام، بحيث بدا بالنسبة لكثيرين جزءاً من محاولات الهيئة للدفاع عن نفوذها وفرض نفسها على الاتفاق التركي الروسي، الذي تضمَّنَ بنوداً متعلقة بفتح طريق حلب اللاذقية الدولي أمام الحركة التجارية.
سامي هو اسم مستعار لأحد أبناء مدينة أريحا، وهو يقول إنّ «مجموعات على موقع تلغرام، يُعتقد أنها تابعة لتنظيم هيئة تحرير الشام، أو مرتبطة به، قد دعت بعد توقيع الاتفاق بين أنقرة وموسكو إلى الاعتصام على طريق M4 لمنع تسيير دوريات روسية». يشرح سامي أن الهيئة «لعبت على وتر حساس عند كثير من الأهالي، خاصةً بعد تصريحات وزير خارجية تركيا بأن جنوب الطريق سيكون تحت الإشراف الروسي، وهو ما دفع عدداً منهم إلى المشاركة في الاعتصام، خاصةً وأن الهيئة لم تكن موجودة بشكل ظاهر تماماً أول الأمر».
وتُظهر فيديوهات بثتها وكالة إباء التابعة لتنظيم هيئة تحرير الشام المعتصمين وهم يرفعون أعلام الثورة السورية وينشدون أناشيدها، في غياب تام لشعارات الهيئة وراياتها. يبدو واضحاً إذن أن الهيئة كانت تحرص على عدم ربط الاعتصام بها، لكن أحد المشاركين في الاعتصام يقول إن وجود عناصر مرتبطين بالهيئة أو تابعين لها كان واضحاً منذ البداية، حتى «أن مسلحين ملثمين كانوا موجودين إلى جوار الاعتصام منذ أيامه الأولى»، غير أنه يشرح أن هذا «لا يجعل من جميع المشاركين فيه موالين للهيئة أو عناصر فيها، إذ شارك فيه نشطاء محليون عديدون، بعضهم مناهض للهيئة أصلاً، ذلك أننا كنا نرى أن الاعتصام ضروري بهدف الضغط من أجل تعديل بنود الاتفاق، الذي بدا بالنسبة لنا بالغ الخطورة على مستقبل المنطقة».
يقول شخص آخر من أبناء أريحا إن «منظمي الاعتصام الرئيسيين، وعناصر الهيئة وأنصارها المشاركين فيه، حاولوا عدم إظهار تبعيتهم للهيئة، لكن أبناء المنطقة استطاعوا التعرف عليهم، وكان هذا سبباً رئيسياً لتوقف ذهاب كثيرين إلى الاعتصام، فالذين لا يريدون مرور القوافل الروسية بعد كل هذا القصف الروسي والقتل الذي حصل، لم يريدوا أيضاً أن يكونوا مجرد دمية بيد الهيئة».
في هذا السياق، يؤكد مصدر خاص للجمهورية أن «المشرف على عملية تنظيم الاعتصام هو القيادي في الهيئة عبد الرحيم عطون، وأن عاملين في حكومة الإنقاذ، الذراع الإداري للهيئة، وعناصر من الهيئة، قاموا بالتصدر ضمن الاعتصام منذ اليوم الأول، في محاولة على ما يبدو للسيطرة عليه بشكل تام كي يكون ورقة في يدهم، وذلك على الرغم من مشاركة مدنيين من أهالي المنطقة في الاعتصام خلال الفترة الأولى، وهو الأمر الذي تراجع مع مرور الوقت».
وقد انقسمت الآراء في ريف إدلب بشكل حاد بخصوص الاعتصام، بين من يرى وجوب إنهائه فوراً لأن عرقلة تنفيذ الاتفاق التركي الروسي تعني عودة المعارك وتقدم النظام وسيطرته على مناطق جديدة، وبين من يرى وجوب منع مرور الدوريات الروسية بأي ثمن؛ يقول سامي إن «الأمر مربكٌ جداً، فنحن نريد حلّاً يوقف الحرب والمعارك فعلاً، ولا نريد أن يتقدم النظام ويسيطر على مناطق جديدة ويهجّر أهلها، لكن كثيرين ليسوا راضين عن مرور دوريات روسية».
في الثالث عشر من شهر نيسان (أبريل) الماضي، قام الجيش التركي بفض نقطة الاعتصام المتقدمة بالقرب من ترنبة بالقوة، ما أسفر عن جرحى، وأدى إلى دفع جميع المعتصمين إلى نقطة الاعتصام الرئيسية قرب النيرب، وأفسح المجال أمام مرور الدوريات التركية الروسية المشتركة بين ترنبة والنيرب بطول ثلاثة كيلومترات.
بعد أقل من أسبوعين، في يوم الأحد 26 نيسان (أبريل)، قام الجيش التركي بمهاجمة خيام الاعتصام الرئيسية بالقرب من النيرب، وفضّ الاعتصام باستخدام الغاز المسيل للدموع والرصاص. قامت على إثر ذلك مجموعات من هيئة تحرير الشام باستهداف آلية تركية بقذيفة مضادة للدروع، رد بعدها الجيش التركي بضربة من طائرة درون عسكرية استهدفت موقع تلك المجموعات. حاول الناطق باسم الهيئة، في تصريح لوكالة إباء، إنكار حادثة الاشتباك برمتها، إلا أن مصادر محلية من المنطقة أكدت الخبر للجمهورية، كما أن وسائل إعلام عديدة قد أكدته أيضاً.
أسفرت أحداث ذلك اليوم عن قتلى وجرحى في صفوف المعتصمين وعناصر الهيئة، وعن جرحى في صفوف الجيش التركي، وكان أحد المشاركين في الاعتصام قد أكد لموقع فوكس حلب أن من بدأ إطلاق الرصاص الحي بشكل مباشر في ذلك اليوم، كان عنصراً ملثماً على دراجة نارية، جاء من خارج الاعتصام وأطلق رصاصه باتجاه الجيش التركي، الذي ردَّ بالنيران بشكل مباشر على المعتصمين موقعاً إصابات بينهم.
عاد المعتصمون إلى نقطة الاعتصام قرب النيرب في مساء اليوم نفسه، وهم لا يزالون في موقعهم حتى الآن، غير أن أعدادهم باتت أقل بكثير، ويبدو أن الاعتصام على وشك أن يفقد فعاليته تماماً، بعد أن بات واضحاً حجم استثمار هيئة تحرير الشام فيه، ومدى حضور عناصرها في تنظيمه وإدارته، وبعد أن بات واضحاً أنه لن يحول دون تنفيذ الاتفاقات التركية الروسية، وأن بديل هذه الاتفاقات هو معركة جديدة تفضي إلى مزيد من التهجير والدمار، دون أن تتمكن الفصائل من التصدي لقوات النظام.
جاء توزيع المنشورات من قبل الجيش التركي بعد يوم من محاولة فضّ الاعتصام الدامية، وهو ما يشير إلى عزم تركيا على مواصلة العمل من أجل تنفيذ الاتفاق، فيما قالت وزارة الدفاع التركية، ومواقع صحفية روسية، إن الدوريات المشتركة بين الطرفين بلغت سبع دوريات حتى يوم الخميس الماضي الثلاثين من نيسان، وإن ذلك يأتي في سياق استمرار الجانبين في تنفيذ مقتضيات الاتفاق.
يبدو مفهوماً تماماً رفض قطاعات واسعة من أبناء إدلب للاتفاق الروسي التركي، وفي الوقت نفسه يبدو واضحاً كيف أن الهيئة تسعى إلى استغلال هذا الرفض للدفاع عن نفوذها وهيمنتها. يشكل الاتفاق تهديداً مباشراً للهيمنة الأمنية والعسكرية للهيئة، نتيجة تصاعد الحضور التركي العسكري في المنطقة، واحتمال الانتقال في تنفيذ الاتفاق الروسي التركي إلى بند تفكيك «الجماعات الجهادية». كذلك تخشى الهيئة تراجع هيمنتها على الفعاليات الاقتصادية والحركة التجارية في المنطقة، وهو ما يظهر واضحاً من خلال إصرارها على رفض فتح الطريق الدولي أمام حركة تجارية لن يكون لها سيطرة عليها، وإصرارها في الوقت نفسه على فتح طريق آخر للتبادل التجاري مع مناطق النظام تحت إشرافها مباشرة.
في مفارقة تشرح الكثير، وبعد أربعة أيام فقط من اليوم الدامي على الطريق الدولي، شهد ريف إدلب يوماً دامياً آخر، عندما أقدم عناصر هيئة تحرير الشام على مهاجمة معتصمين قرب بلدة معارة النعسان، ما أسفر عن قتيل وعدد من الجرحى. كان المعتصمون يحتجون على فتح هيئة تحرير الشام معبراً للتبادل التجاري مع مناطق سيطرة النظام، وقامت الهيئة بمهاجمتهم بالنيران بغية فتح الطريق.