يصف معجم المسرح لباتريس بافيس اصطلاح التجهيز الفني (Installation)، بأنه «سيل غير منقطع من العروض الحية، وحضور متعدد للإشارات عبر وسائط بصرية وسمعية مختلفة على خشبة المسرح، وفي الأمكنة التي يُقدَّم فيها العمل الفني». ويؤدي التجهيز، وفقاً لبافيس، إلى «إدخال عناصر مرنة ووسائط بصرية وسمعية، كالكلام المكتوب أو الموسيقى، وخطط سير من خلال السينوغرافيا، لكن باستثناء الممثلين المؤدين الأحياء». يجد بافيس هنا أنه مع دخول المؤدين إلى حيز التجهيز يُصبح هذا العمل أداءً performance. ورغم وجود عبارة «تجهيز فني (سمعي بصري)» المذيّلة في الأعمال الفنية السورية في السنوات الأخيرة، بيد أن جلها لا يتجاوز كونه عملاً كلاسيكياً يصاحبه بعض التجهيزات. في حين تمكنت بعض عروض التجهيز الأخرى من تقديم معارض مُلمّة بالنوع الفني، مثال ذلك أعمال الفنانة البصرية والسينوغراف السورية الفلسطينية بيسان الشريف.
«من الطوفان إلى الرحيل، أساطير وأغانٍ وقصص أخرى» هو عنوان المعرض الجماعي الذي أُقيم في غاليري بروميرو غارد في باريس، وشاركت فيه بيسان عبر تجهيز فيديو حكايات الحب في بلاد ساخنة، الذي كان جزءاً من معرض بعنوان دخلت مرة في جنينة، تقول عنه الشريف إنه «تجهيز بصري سمعي استوحينا عنوانه من أغنية لأسمهان». كانت أغنية أسمهان التي تحمل العنوان ذاته «مصدرَ الإلهام الأول لهذا المشروع الفني»، إلى جانب أغاني أسمهان الأخرى التي تحكي عن الحب، فضلاً عن حكاية أسمهان الشخصية وحياتها القصيرة الغنية بالأحداث، وتنقلها بين سوريا، بلدها الأم، ولبنان، ومصر التي استقرت فيها.
حكايات الحب في بلاد ساخنة هو عنوان الجزء الذي شاركت به الشريف في المعرض الجماعي، وهو فيديو مصحوب بأغنية أسمهان سالفة الذكر «يحكي، بشكل ما، عن الأشياء المشتركة بيني وبين شريكتي في المشروع، الفنانة اللبنانية كريستيل خضر، وعلاقتنا باسمهان، وبالحب والحرب»، وفق الشريف.
وعن سبب اختيار هذا المقطع تحديداً للمشاركة في المعرض الجماعي، تقول بيسان:
في بداية أي مشروع تجهيز أفكر به، أحاول تطويع الفكرة وتجزيئها إلى محطات أو فضاءات منفصلة، وخصوصاً الجزء المرتبط بالمادة البصرية، التي هي الفيديو بشكل أساسي، كي يتسنى لي عرضها منفصلة عن المشروع العام. هذا الأمر يوسع احتمالات المشاركة في المعارض الجماعية، دون الانتقاص من هوية المشروع الأساسي. فيديو حكايات الحب في بلاد ساخنة هو أكثر هذه المحطات مرونة وقابلية للعرض بمعزل عن بقية المحطات، لأنه يأخذ معنى مختلفاً بعرضه بشكل منفصل.
أنجزت الشريف تجهيز دخلت مرة في جنينة، بالتعاون مع المسرحية اللبنانية كريستيل خضر والمسرحي السوري وائل علي، وهو تجهيز يقع في تسع محطات، لكل محطة قصتها وتجهيزها، وكل هذه المقاطع تدور حول فكرة رئيسية هي «فكرة الحب والجنس في بلاد تتعرض، أو تعرضت سابقاً لظرف استثنائي قاسٍ كالحرب». لا يوجد سيناريو واضح لحركة المتلقي في هذا المشروع، فيمكنه الانتقال من قصة إلى أخرى بطريقة عشوائية دون أن يؤثر ذلك على تلقيه. كانت حرية التنقل عند المتلقي مقصودةً حسب الشريف، ذلك أن «المقابلات كانت الأساس لصياغة النصوص التي تخص كل فضاء من الفضاءات التسعة المكونة للمشروع، فيما كانت النصوص قصيرة، لذلك فإن التسجيل الصوتي الذي سجلته كريستيل خضر بصوتها، لا يتجاوز الخمس دقائق لكل قصة».
كان لكل قصة في التجهيز بداية ونهاية، وتُحكى بمعزل عمّا حولها، لكنها تبدو بمجموعها قصصاً مترابطة: «عنوان القصة مستوحى من غرض شخصي، غرض واقعي أو خيالي يخص الشخصية التي تدور حولها القصة. هذا الغرض، كان المدخل إلى ابتكار عمل بصري مرافق لتسجيل صوتي»، بحسب بيسان.
قُدِّمَ تجهيز دخلت مرة في جنينة في فضاءات مختلفة ومدن متعددة (بيروت، بروكسل، هولندا)، وكان لكل عرض فضاؤه المعماري المختلف عن الآخر. على سبيل المثال، كان المسار عمودياً في دار النمر في بيروت، بينما كان الفضاء دائرياً في مدينة خرونينغن الهولندية، دون أن يؤثر ذلك على التلقي. كمعمارية، تقول الشريف عن هذا الاختلاف بين فضاءات العرض: «مهنتي كسينوغراف وعلاقتي بالمكان تؤثر كثيراً على ترتيبي للتجهيز أو المعرض، وينطبق ذلك على كل الأماكن التي أعرض فيها. أنا بحاجة لدراسة المكان جيداً قبل تركيب التجهيز».
من جهة أخرى، وبالرغم من تعدد فضاءات المعرض، واختلاف توزيع القصص بين عرض وآخر، إلا أن هناك محوراً أساسياً تُحلِّقُ القصص حوله، أو فراغ مركزي تدور حوله بقية الفضاءات؛ تقول الشريف:
هذا الفراغ يحكي قصة «فستان العرس»، وهي قصة امرأة فلسطينية تزوجت وعاشت حياتها مع رجل لم تحبه يوماً. هي أم، في الثمانينات من العمر اليوم، اتخذت في شبابها قراراً حاسماً، غَيَّرَ مجرى حياتها وحياة كل من حولها. تركت خطيبها وحبيبها الأول، وتزوجت من هذا «الغريب» دون تردد. السبب الوحيد لذلك أن هذا «الغريب» يمتلك جواز سفر أردني، وكانت في تلك الفترة بحاجة إلى السفر لتلتقي بأخيها، الفدائي الهارب إلى الأردن، وتُطمئن أمها عليه. هذا القرار هو ما شكّل حياتها وحياة ابنتها من بعدها، فابنتها اختارت أن لا تتزوج وأن تعيش وحيدة مع أمها بعد وفاة الأب.
تُعدّ قصة فستان العرس هذه محورية في التجهيز، ويعود ذلك حسب الشريف إلى أن هذه القصة تُمثّل «حالة التضحية بالحب التي عاشتها هذه المرأة في ظرف ووطن استثنائيين. الوطن هنا هو فلسطين، وهذه الحالة هي صلب مشروعنا. أما في الفراغ، فيُشكل فستان العرس رمزاً ونقطة محورية تدور حولها بقية فضاءات المشروع».
تنوّه الشريف إلى أن تسمية Installation / تجهيز بصري سمعي، ليست التسمية الوحيدة للنوع الفني الذي تقدمه، إذ أن هناك عدة تسميات لهذا النوع (installation, multimedia, installation transmedia)، وهناك أنواع أخرى متنوعة ومتفرعة جداً فقد «أصبح التمازج بين الفنون أمراً شائعاً، ويدعى ذلك تعدد الوسائط الفنية»، بحسب ما تقول. أما عن تجربتها الشخصية في العلاقة مع هذه الأنواع، الفنية تؤكد بيسان أنها كانت وما تزال «بحاجة دائمة لتجريب العديد من الوسائط، للوصول في النهاية إلى أكثر صيغة مناسبة لإيصال الفكرة».
لا تعتمد الشريف في عملها على المستوى البصري وحسب، إذ لطالما كان للنص المحكي مساحة واسعة في عملها، فيما «يحتل الجزء السمعي حيزاً كبيراَ وأساسيا من المشروع، سواء كان هذا عن طريق نص مسجل أو مؤثرات صوتية أو أصوات أخرى». مضيفة: «سبب حضور هذين المستويين في عملي يعود إلى علاقتي الوطيدة بالمسرح، فطريقتي في العمل مختلفة عن معظم الفنانين السوريين الذين درسوا الفنون الجميلة، فأنا أبدأ من فكرة عامة، وأصيغ من خلالها نصاً ليكون بمثابة اللبنة الأولى التي أبني عليها رؤيتي البصرية»، فيكون بذلك المستوى النصي هو السابق على العمل البصري في أعمالها.
تخرّجت بيسان الشريف من قسم السينوغرافيا في جامعة نانت الفرنسية عام 2005، وعادت إلى دمشق، فكان أول أعمالها عرض الأفيش (2006)، وهو من إخراج عمر أبو سعدة وتأليف الكاتب الكندي فيليب دوكرو. وقُدم العرض ضمن فعالية écriturevagabonde «الكتابة المتجولة»، التي أشرف عليها المركز الثقافي الفرنسي في دمشق حينها.
تقول بيسان إن هذا اللقاء المهني الأول بينها وبين عمر أبو سعدة هو ما أسس لشراكة مسرحية بينهما كسينوغراف ومخرج، ومعهما الكاتب المسرحي محمد العطار. شراكة مسرحية امتدت لسنوات عديدة وأنتجت عدة عروض مسرحية، منها عروض بينما كنت أنتظر والمصنع ودمشق 2045، التي عُرضت في أنحاء مختلفة من العالم. وعن ذلك تقول الشريف:
منذ ذلك الوقت بدأت بالعمل مع عمر أبو سعدة ومحمد العطار في معظم عروضهما المسرحية. نحن اليوم أصدقاء وشركاء عمل. في الحقيقة، عملي المباشر هو مع المخرج بحكم العلاقة المباشرة بين المخرج والسينوغراف، وأنا أستمتع بالتحضير للعرض مع عمر، لأنه يملك دائماً رؤية بصرية قوية لمسرحياته. والجانب البصري من العرض بالنسبة لي مُقوم مهم وأساسي كبقية عناصر العرض.
لم تنتهِ هذه الشراكة المسرحية مع الانفجار السوري وتشتت السوريين، بل استمرت المجموعة بتقديم عروضها المسرحية، لكن مع بعض التغييرات التي طرأت على طريقة العمل، بعد الانتقال إلى أوروبا:
في سوريا، كان سهلاًَ علينا أن نتواصل ونلتقي مراراً لخلق فكرة سينوغرافيا العرض. كنا نلتقي ونبدأ بخلق فكرة ونعمل على تطويرها، حتى نصل إلى مرحلة التنفيذ مع بداية البروفات. مع انتقالي إلى فرنسا أصبحت لقاءاتنا أصعب بكثير، وبالتالي أصبحت مرحلة خلق فكرة للسينوغرافيا أكثر تعقيداً، لكننا طورنا، مع الوقت، أساليب جديدة لنتمكن من التواصل بسهولة. وقد ساهم تراكم سنوات هذه الشراكة في تسهيل هذا التواصل.
تحتل الذاكرة مساحة واسعة من أعمال بيسان الشريف، على سبيل المثال يقوم مشروع شام، الذي عملت عليه الشريف قبل سنوات، على مقابلات مع أطفال سوريين وسؤالهم عن أماكن يتذكرونها في سوريا. وكذلك الحال مع مشروع دخلت مرة في جنينة، حيث يقوم المشروع على استذكار حوادث حب وجنس للمرة الأولى. وتحيل الشريف هذا الحضور الطاغي للذاكرة في أعمالها إلى أنها تعيش كمعظم السوريين والفلسطينيين السوريين الذين اضطروا إلى مغادرة سورية: «أعيش بين منعطفين أساسيين في حياتي، وأحاول إيجاد توازني الداخلي بينهما. جزء كبير مني مازال يعيش على الذكرى، أما الجزء الآخر فهو ما يدفعني لأعيش اللحظة الحالية، أن أتقبل أنني، اليوم، أعيش في فرنسا ولي فيها بيت وعائلة، وأنها مكان إقامتي وعملي الجديد». لافتة إلى أن الذاكرة تساعدها على خلق هذا التوازن الداخلي: «أنا بحاجة ماسة للحفاظ على ذكرياتي وصيانتها من النسيان. ومشاريعي الفنية، حتى الآن، هي جزء أساسي من محاولتي صيانة هذه الذاكرة».