ما مِن مخرجٍ مُدرَكٍ من الاختباء بعد الآن. ها هما الضدّان: التعاسة والفرح العارم متوازيان أمام الجميع، مخلوطان كأنهما وصفةُ ترياقٍ أو سمّ. السخرية كما الحزن، علينا أن نتجرعهما في صمتٍ مطبق. كلٌّ منا سيمتلك نتيجةً مختلفةً عن الآخر. كلٌّ منا عدوٌّ للآخر أو مُخلِّصٌ له. كلُّ شيءٍ أصبح له احتمالان، إما في وجهة الحياة، وإمّا في وجهة الموت.
لكنّ الانسيابَ الأخرق، والتسليم البائس بأننا حقّاً لا نستطيع حتى بعد نجاتنا أن ننجو نجاةً صرفاً، مُتقنةً وبارعةً، هو احتمالٌ يُعزِّزُهُ مفهوم الشرّ أكثر من مفهوم الخرافة التي باتت تترصّد بنا عند كلّ زاويةٍ، وكلّ شارعٍ، وكلِّ بابِ بيتٍ مغلقٍ، كأنّنا في هذا التناقض، لا نزال نصارع رغبة الحُبّ التي بدأت حياتنا بها. هل الحبُّ ملكٌ للأمِّ التي ولدتنا؟ أو للأب الذي ساعد في إتمام خلقنا بيولوجياً، ثمّ رعانا أو تركنا؟ نبحث عن الأجوبة وحدنا.
هل أمُّنا قاسيةٌ صلبةٌ، تصفع إن تأخّرنا أو غبنا لسبب ما ونحن صغار، أو أنها أمٌّ آسرةٌ في حُنوِّها؟ إنّ الأشياء التي تركوها لنا خديعةٌ مطلقةٌ، تبدأ بالحُبِّ وتنتهي، بعذابٍ جحيميّ إلى أن نُجدِّدَ، نحن أنفسنا، مفهوم الحُبّ البدائيّ، هذا الذي تتكدّسُ بعده الرغباتُ كُلُّها، وتلتصق نزوات الخير والشّرّ بصمغٍ واحدٍ هو الحُبّ. سأقتلك لأنني أحبّ، سأرعاك لأنني أحبّ، سأنهش لحمك لأنني أحبّ، سأعضك بلطفٍ لأنني أحبّ… أيّ لذّةٍ هذه التي يملؤها الخوف من تحقيقها، والرغبة بها، أو الرغبة في رفضها، كلّ مرّةٍ مع طرفٍ ممّن يقوم بالفعل، وممّن يقع عليه الفعل، وكلّ مرّة مع نتيجة، وكلّ مرّة مع حصادٍ لمسرّةٍ أو لبؤسٍ ما؟!
الضدّان إذاً، الاتجاهان، هما ما يُحرِّكُ كلَّ شيء! في كلِّ مرّةٍ أخرج للنُّزهة، أتوجّه بعد أن أعبر طريق السيّارات، في اتّجاه اليمين، ثمّةَ طاحونةٌ قديمةٌ، تُذكِّرُني بنواعير حماة، مع اختلاف الهدف البشريّ من إقامة كلٍّ منهما وبنائها. هدف الأولى الطّحن، وأظن أنّ هدفَ الثانية السّقاية. ما من ملامح واضحةٍ للمدينة المستعادة على هيئة صورةٍ مكانيةٍ في جزءٍ أراه في بداية طريقي، وأنا أتلمّس المكان الجديد بين الطبيعة والمدنيّة الصّرف.
الملامح هي نسجُ الحنين عبرَ فعلٍ ما… في رمي بعض فتات الخبز الذي أفكّر كلّ مرة في أن أحمله إلى البطّ الّذي يبدُو سعيداً هانئاً، ثـمّ من كثرة ما تكرّر أنني لم أفعل، صار نسيان هذا الفعل أجمل من حمل الخبز إلى مجموعاتٍ من البطّ، تعلم ما تريد، وتدرك طريقها أكثر منّي. سأعود إلى جهة اليمين قبل أن أسهوَ عمّا أريد لإدراكي أن يستعيده هنا، جهة اليمين هي نهرٌ جميلٌ له ضفّةٌ واحدةٌ، في حين تلاصق ضفّتَهُ الأخرى بيوتٌ قديمةٌ، هي امتدادٌ لمسار الطاحونة.
كلُّ شيءٍ يدعو إلى البهجة والتعاسة في هذا الطريق. ليس لديّ تفسيرٌ واضحٌ، لكنْ ما إن أتذكّر أنّنا في مرحلة الحجر الصحيّ حتّى أشعر بالاختناق، وربّما أترك الطريق في منتصفه، وأعود إلى البيت، لا خوفاً، بل إدراكاً منّي أنّ اللذّة التي أشعر بها، والتأمُّل الذي أخوض فيه، ليسا أخلاقيَّيْنِ. إنّهُ تأمُّلٌ مُنحازٌ إلى ذكر البطّ الجميل أكثر من أنثى البطّ ذات اللون البُنّيّ التُّرابيّ، التي قد تخوض معركتها في المساء ما بين ذكرَينِ يتصارعان على حُبِّها. رأيتُ ألمَها، وهي تهرب من المنافس الثّاني لتحظى بالأوّل، ورأيت جمالها التُّرابيّ يلتمع مُذهَّباً؛ في حين أنّ أنثى بطٍّ أُخرى كانت هادئةً وقبيحةً، ولا يتنافس أحدٌ في الاستحواذ عليها من شريكها. كنت أشعر بأنني أصطفي البطّة الجميلة الأقلّ جمالاً من ذكر البطّ الملوّن، وأعيش مشاعر كبيرةً وقويةً، تريد منها أن تنتصر لتحظى بوقتٍ هادئٍ مع من تريد، ثمّ أتاني شكٌّ، هل هذا ما تريده فعلاً؟ أنا حقّاً لا يمكنني أن أكون مكانها كي أخمّن.
نسيت أن أذكر الطرف الأيسر الذي أتجاهل التوجُّه إليه كلَّ مرّة في قناعةٍ سابقةٍ بأنّه ليس الطّريق الأجمل والألطف، وهأنذا أبني حيّزاً من الأنس الّذي تشكّل مع الأرض والأشجار الملاصقة للبيوت، كأنّ هذه الأرض هي الأرض كلّها، وكأنّ حزني، يخون نفسه، ويتلاشى على الرّغم من النّكد الذي أستدعيه كلّما شعرت بالذنب لكوني أتجرّأ على لذّة من اللذّات الفكرية أو الجسدية، خلال نزهتي اليومية.
يُكثّف هذه الأحاسيس التي تستحوذ على جسدي وجود مشفى في نهاية الطريق، حيث كان في الإمكان سابقاً أن أدخل من بابها الخلفيّ، وأخرج من بابها الأماميّ، كي أصل إلى بداية مركز مدينة روان. أفكّر في صنف المُمرّضين والأطبّاء الذين يقفون في طابور، متباعدين في المسافة بينهم ليحصلوا على قناعاتٍ احترافيّةٍ تقيهم شرَّ الفيروس. قريباً من المشفى مركزٌ للطّوارئ ولذوي الاختصاصات الطّبّيّة. أفكّر في أنّ اقترابي من المشفى مخيفٌ جدّاً، ولا سيّما أنّ الباب الخلفيّ المغلق الآن يستقرُّ أمامه مكبُّ النُّفايات الطبّيّة، لذلك أمشي حتى آخر عشرة أمتار في اتّجاه اليمين، ثمّ أعود، وأتنفّس النّهر، راضيةً بظهور بعض مجموعات دجاج الماء الأقلّ جمالاً من البطّ.
ألومُ نفسي على هذه الانتقائيّة في المحبّة، ثمّ تنقر رأسي دجاجةٌ قبل أن أُنهيَ نظرة الازدراء الذي أُكِنُّهُ لها مع نظرةٍ مقحمةٍ من الفضول، وأُردِّدُ في كلّ مرّة: طائرٌ لا يستطيع الطَّيران ليس طائراً. أعيد الأمر إلى المنطق، فأنا أرى أن دجاجةَ الماء تستطيع الطَّيران قليلاً فوق سطح الماء، وأرى أنّها أكثر حساسيةً حين مرور البشر، ولا أعلم إن كان هذا التَّوتُّر مرتبطاً بمجموعةٍ من التَّجارب العلائقيّة المخفقة الّتي خاضتها في أثناء مرور البشر، لكنّني واثقةٌ بانفعالها كلّما مرَّ شخصٌ بشريٌّ من أمامها، وربّما ازدادَ انفعالُها كلّما مررتُ أنا فقط. أصل إلى منطقةٍ وسطى وغريبة من مشاعري، فأنا لا أحبُّ دجاجة الماء لأنّها ليست بطّةً، ولا أكرهها لأنها ليست دجاجةً حقيقيّة.
ولِـمَ أكرهُ دجاجةً؟ هل هذا يتعلّقُ بأنني لا أحبُّ أكل الدَّجاج كثيراً؟ أُفضِّلُ اللّحمَ الأحمر، ثـمّ، نعم، إنْ استعدتُ مشهدَ مجموعة البقرات اللواتي يستحوذن على حقلٍ قريبٍ من نهر السين، ومرتفعٍ قليلاً على تلّةٍ في الاتّجاه الغربيّ من المدينة، أمكنَني استعادة مشاعر السعادة التي تنتابني وأنا أرى البقرات، أو بالتالي ما هو أقرب إلى رمز الحليب والحُنوّ.
يبدو أنّني أتجاهلُ الحديثَ عن الطَّرف اليسار في نزهتي كثيراً، ربّما لأنني لمّا اكتشفتُ امتداده مع الجهة الشرقية للنهر كنتُ أظنُّ سابقاً أنّ هذا الامتداد غير موجود أو حافلٌ بالمخاطر أو القبح، وربما ببعض المُتطفّلين والمزعجين، إلى أن تجرّأت في يومٍ من أيام الحجر أن أتّجهَ شرقاً، ناسيةً كلَّ مخاوفي التي تصاعدت بعد الحرب، جاعلةً منّي شخصاً يتحرّك في دائرة الأمان. لكنّني سأعترف أنني دائماً أختار أكثر دوائر الأمان خطورةً في العالم، لذلك لا يمكن اعتباري جبانةً بالمعنى الكلاسيكيّ، وإنّما متحامقة بالمعنى الذي يُجسّد المكروه على شكل مكانٍ مثاليّ وأفلاطونيّ، وربّما يعود هذا إلى انتظامٍ طويلٍ من الأمور السيّئة التي تناوبت على الحدوث في الطفولة، والمرتبطة بالمكان والبلاد التي جئتُ منها، حتى أصبح طبعي أن أضع نهايةً مأساويّةً مُتخيَّلةً لكلِّ شيءٍ كي أحظى بنهايةٍ مقبولةٍ، أو ربّما هانئة ومثمرة.
سيبدأ الطرف الأيسر بسورٍ حديديٍّ صدئٍ ربّما يعود إلى منتصف القرن الماضي، يتطاول مع مسار النّهر، نهر (L’Aubette)، بعده بقليلٍ، سأرى من مسافة أمتارٍ طائرةً قديمةً سقطَ جناحاها، فأصبحت أشبه بذبابةٍ غير مزعجةٍ، ربّما تكون طائرة استطلاع، يساعدني على التّخمين أن حجم كوّة القيادة لا يتّسع ربما لأكثر من شخصٍ. لا أستطيع الإفلات من الحرب، ومن ذكرى تفصل اليسار عن اليمين، ذكرى الحرب العالميّة الثّانيّة، أقف لحظةً، وأنا أبحث في مشاعري عن مشاعري، فلا أقع على شيءٍ لافتٍ للنظر، ولا حتى على استغرابٍ أو دهشةٍ. ربّما صرت أخمّن الحرب على أنها مصير، لذلك أتابع طريقي، بعد أن أخفق في أخذ فيديو جيّد لهذه الذّبابة الحديديّة البعيدة.
أفكّر في شراء كاميرا احترافيّة لتسجيل الفيديو، أثناء الحجر الصّحّيّ، ثمّ قبل أن أتوقّف، وأرسل رسالةً لطلب نصحٍ عن أيّ نوعٍ من أنواع الكاميرات هو الأفضل لتوثيق الصُّور المُتحرّكة، أتراجع، وألتزم حدودي، أيّ سؤال تافهٍ هذا في هذا الوقت من عام 2020؟ علاقتي بموقع أمازون ستكون علاقةً سرّيّةً من الآن فصاعداً. حتّى رغبتي في تصوير الحركة والصوت ستكون مَكْبوتة كما لو أنني أقاوم شيئاً غير موجودٍ، أو أمارس منعاً، لا ينال من أحدٍ سواي، في أثناء شرودي هذا. أتابع السير على الطرف الأيسر من الطريق القديم، هناك مصنعٌ كبيرٌ وجميلٌ ومثيرٌ للرّيبة والشّكّ. لم أعد أتذكّر إن كان سابقاً مصنعاً للجبن، أو مصنعاً باسم عائلة الجبن (Le fromage). في الأحوال كلّها، يتركُ بي المصنع بواجهته من أحجار القرميد شعوراً من التَّخمُّر والتَّعفُّن، ثمّ تكتمل المشاعر مع أبنيةٍ تقع على سورٍ عالٍ بعده، كُسِرَتْ غالبيّةُ نوافذها بحجارةٍ من المارّة. يبدو الطَّريق موحشاً ليلاً على الرّغم من أنّهُ في النَّهار مقصدُ الملتزمين بالحجر الصّحّيّ لممارسة المشي والرّياضة.
كأنني شاهدتُ هذه النوافذَ المُتكسّرة سابقاً في جهةٍ ما من الأبنية الّتي تتكدّسُ فوق نهر بردى في مدينة دمشق، ربما قريباً من الطَّريق إلى سوق العصرونيّة بعد المرور بقلعة دمشق. ليس جيّداً أن ألحَّ في التّذكُّر التَّطابقيّ مع واقعٍ وَلَّى، دائماً أفضّل الانطباعات. حتّى الروائح أتذكّر منها الانطباع النّفسيّ والشُّعوريّ فقط، حتّى الحديد الصدئ بملمسه هو انطباعٌ قد يتخزّن على شكل كوخٍ، أو درّاجةٍ دون عجلةٍ خلفيّة، أي أنّها بعجلةٍ واحدةٍ أمامية. هذا هو الصَّدأ، تدريبٌ على طفولة مخفقة، ثمّ تدريبٌ على نسيانِ هذه الطُّفولة، ثمّ تدريبٌ على تذكُّرها مُجدّداً، ثمّ على نسيانها كي لا يقع المرء في طين الحنين، بل ليبقى على الضّفّة الجافّة، على الأرض الصّلبة من الحنين، حيث ثمّةَ مسندٌ ليتّكئ، ولا يقع مع كلّ ما لديه من دمعٍ وحزنٍ.
وكلّ حنينٍ يتبعه وخزٌ من الشوق، لاسعٌ، ثمّ لكي لا يتحوّل الشّوق إلى غضبٍ، ما عليك سوى أن تتابع المشي. طاحونةٌ أُخرى قديمةٌ، عمرها يعود إلى مئات السّنين، تقودني إلى شعورٍ من الشفقة بسبب تردّي حالتها، لولا أن الأمر يأخذ منحاه المنطقيّ، إذ ألمح أنّ هناك عملية ترميم قائمة على المبنى الداخليّ لها، وقريباً ربّما المبنى الخارجيّ. أسير في حيّز من الاتّصال الوثيق بالأرض، وخفقان أدرك عبرَهُ أنّ هناك مع كلّ إدراك لأرض مسافةً من الخوف تمنع المرء من أن يكون نهماً في تفحُّصِها من المرّة الأولى.
في مساء ما، بعد أيامٍ، سأخرج إلى الترّاس من شقّتي، وسأنظر ببلاهةٍ إلى السماء كأنّني أحاول التَّحقُّق من وجود شيءٍ أرغب فيه بشدّة. كم من مرّةٍ خُدعنا، وخَدَعَ رغباتنا أننا على يقينٍ؟ هذه المرّة، السماء الكريمة بالنُّجوم تجعلني أبكي. أتذكّر أنّني كنت أصعد بدلو ماءٍ على السُّلَّم الخشبيّ، أضعها على الحافة، ثمّ أسرع بلهفةٍ كي أصير على سطح بيتِنا في دمشق، أنظّف الأرض، ثمّ أعود مساءً، وأضع فراشاً على الأرض النَّظيفة، ثم أغفو على السطح، وأنا أتأمّل النُّجوم، كانت هذه أقصى حُرّيّة يمكن أن أعيشها في دمشق، في عمر الخامسة عشرة.
لم أدرك أن هذه البلاد فيها نجومٌ إلى أن جاء هذا الحجر الجميل واللّعين. لم أدرك أنّني أخاف من هالة القمر إلا في هذه البلاد، في بلاد البعيد هناك، لم يكن للقمر هالةٌ، وربما كنت لا أعلم ما تعنيه الهالة في شكلها الفيزيائيّ، ثمّ الجماليّ، أو أنني كنت مستغرقةً في شيءٍ أقلّ معنى مثل التهام الطّعام في الشارع ليلاً، والتّحدُّث عن آخر فيلم شاهدته، ولا أذكر عنوانه، كما هي عادتي في محو أيّ كلمةٍ أو جملة، وإعادة خلقها لتصبح شعوراً انطباعيّاً شخصيّاً وأنانيّاً.
حاول التَّنفُّس ببطء أيُّها الآخر الذي يراني ولا يعرفني، يبتسم لي، ثم أردّ عليه بابتسامةٍ رخوةٍ كأنّني هنا منذ دهر. تنفّس ببطء أيُّها الآخر الذي أعرفه ويعرفني، أنت وأنا نعلم أنّنا مررنا بما هو أسوأ، وأنّني غريبةٌ مثلك، لكن أيّتها الأرض التي تدركين وحدك من نحن، خمِّني ما في يدي لك؟ كثيرٌ من رغوة الصابون، فتكرّمي علينا بماء. نعيد الكرة، نعيدها صلاةً أو ملامةً أو خوفاً أو حبّاً أو رغبةً أو دهشةً أو تفاوتاً أو تلاطُفاً أو ألماً… نعيدها تحت النُّجوم أو في الخيام أو في البيوت أو في القصور أو على حافة الأنهار والأوقات، على حافة الضحك، والجوع والشّبع، والغصّة والارتباك من أيّ صوتٍ قادمٍ إلينا.