تخرق القذيفة الدخانية رئتي من الأمام، تثقبها، وتخرج من ظهري؛ أُكرّرُ طقس العبور هذا عشرين مرة على الأقل في اليوم الواحد، اليوم العادي، وأكرر لنفسي مقولة فرويدية: «الموت غاية كل الحياة».

أُكرّر لنفسي

أتلاعبُ بعبئي الذهاني. أصنعُ منه عادات، وأناجي وسواسي القهري. أُكرر لنفسي: رِئتاكِ الآن تبدوان كليفة الجلي زاهية اللون وقد أصبحت سوداء جداً بعد دعكها بوعاء القهوة والفنجان، إثر معركة طاحنة مع الطحل الجاف، الجاف كحلقكِ المُدَخَّن الذي تُرطبينه بالمرارة. أو: رِئتاكِ كمرآة الحمام، مبقعة هنا وهناك بفعل البخار، فأنتِ تكررين الاستحمام في قتال مستمر مع الرائحة العالقة بجلدكِ وشعرِك؛ أو أن في رئتيكِ حرقاً يشبه حرق السيجارة في طاولتِك البيضاء:

حرق في طاولتي البيضاء.

حرق في زاوية طاولتي البيضاء.

حرق في الزاوية اليمنى من طاولتي البيضاء.

كالممسوسة، لم أستطع النظر إلى الطاولة مدة ثلاثة أسابيع. لم يساعدني طبق القشّ في نسيان التشوه الذي أنزلته بها. طاولتي البيضاء مشوهة، لن أستطيع النظر إليها، لن أستطيع استعمالها، سأهملها كالكابوس عند حلول الصباح. ولكنها طاولتي أنا؛ طاولتي البيضاء، وأُتابع التدخين عمداً.

في الفقرات أدناه محتوى مشوش. بإمكانك، صديقي القارىء، التوقف عن القراءة هنا، وإلا فإنك ستضطر إلى استحضار سيجارة.

ننزلق من القمرة النسيجية كرواد فضاء انفصلوا عن كوكب الأرض لمدة لا بأس بها. ننزلق ولكن ليس كرواد الفضاء تماماً، أي ممن يختل توازنهم عندما تستعيد الجاذبية سيطرتها على أجسادهم التي اعتادت التحليق مؤقتاً، الذين قد يُسَرُّ بعضهم بالخلل بعد الرحلة اللاأرضية، فالتعثر دليلهم إلى أن حياتهم بدأت باستعادة رتمها السابق على اختراق الغلاف الجوي؛ رتمها الطبيعي: لم نُخلق لنُحَلِّق، بل لنلتصق بالأرض، وإلا كنا زُوِّدنا بأجنحة.

نحن الأجنة، ننزلق من بين ساقي الحياة لنتعلم الجاذبية كدرس، ولأول مرة؛ لم نُخلق لنُحَلِّق. نبدأ بعدها بفقدان الذاكرة عن الشهور التسعة التي قضيناها مُحلّقين، نتعرّفُ على الجاذبية خطوة خطوة، ونصبح ميالين إلى التطبيع مع الالتصاق الفيزيائي كلّما بلغنا من العمر يوماً إضافياً.

ليست المشكلة في الالتصاق، ولا التحليق، وإنما في فقدان الذاكرة؛ علماً أن «الموت هو غاية كل الحياة»؛ تُفسّر أستاذتي في الجامعة  مقولة فرويد كما يلي: «هذا ليس تمنٍ للموت؛ وإنما رغبة فعلية بأنه يا ليتنا لم نُخلَق أساساً».

ليتني لم أحرق طاولتي البيضاء؛ ليتني لم ألتصق؛ ليتني لم أنسَ؛ ليتني لم أُحَلِّق؛ ليتني لم أُخلَق.

«ياليتنا لم نُخلَق أساساً؛ لم ننفصل عن مألوهٍ ما؛ مهما يكن هذا المألوه».

الانفصال عن الذاكرة 

أتفهّم أنه لم يكن بمقدور والدَي أن يكونا ديمقراطيِين ليسألاني إن كنت أرغب بالانزلالق من ذاك المكان أم لا؛ ولكن ماذا عن الله؟

يتهيأ الله ليزفر؛ تنساب من بين شفتيه روحٌ وإذ بها روحي، ويبدأ الحوار المتخيل يومياً:

أنا: يا الله، لحظة، لتتوقف لحظة؛ هل بإمكاننا وقف هذا التفاعل المنوي قبل أن نصل إلى نقطة لا رجعة عنها.

هو: كلا.

أنا: يا الله؛ هلّا منعنا جبلة الطين هذه من التحول إلى فخارة.

هو: كلا.

أنا: يا الله؛ هلا تركنا الفخارة خاوية، بحيث لا تتحول إلى كائن عضوي.

هو: كلا.

أنا: سأفقد الذاكرة كلها هناك. ألا يمكنني أن أكون شاهداً على كوكب يفقد ذاكرته تماماً قبل أن يعود إليك. فلتكن مقايضة؛ أتحمل ألم الكوكب المصاب بالزهايمر، أحفظ التفاصيل المنسية، أبصمها وأرددها. أخبرك عن خطايا غيري من البشر، أتجسس على حياتهم، مقابل أن لا أفقد ذاكرتي، أن أبقى هنا إلى يمينك أو يسارك، لا يهمني في أي جانب، فلأبقَ جزءاً منك، من الذاكرة التي لا تفنى.

هو: كلا.

تنتهي السيجارة. أتأفف. حدث ما حدث إذاً؛ الله أقل ديمقراطية من والدَي، أنا كائن عضوي إذاً، أورغانيزم؛ فاقد للذاكرة.

اصطياد الذاكرة 

في خريطة النَفْس، تختبئ أجزاء من أناي في جيوب، هنا وهناك، تضع بيوضاً وتترأس خلايا شعورية نائمة. تتوارى عن ذهني هاربة من وجه العدالة الإلهية، إذ أنها ترغب في أن لا تَنسى، ترغب في تملّك الذاكرة. تستعيد في مهربها أسئلة لاواعية: هل يمكن الهرب من الزهايمر الولادي هذا حقاً؟ هل سيبقى وجه الله محفوظاً في تلافيفي الدماغية إذا ما واظبتُ على تناول زيت السمك على معدة فارغة؟ هل أرغبُ حقاً بتذكّر أن الكوكب يفقد ذاكرته أيضاً، فيما يتكاثر البشر للحفاظ على الفصيلة في قمة السلسلة الغذائية؛ يَهرَمُ فيما يصطادون، يُصابُ بالخرف كلما أتقنوا استعمال الحياة، يرتجفُ إذا ما فقدوا تركيزهم وهاجمتهم «فلاش باك» ما؟

أم يُفضّل أن أحرق طاولتي البيضاء بزرزور السيجارة مرة أخرى؟ أو أن أزيد من استقلاب الزمن داعمة جهازي الهضمي بالنيكوتين؟ أم عليَّ استنساخ أعراض سيجارة الاستيقاظ على مدار اليوم؛ خدرٌ في نقرة الرأس وأطراف أصابع القدم، غثيانٌ على مستوى الخلية، هبوطٌ في سكر الدم، انتفاضاتٌ متقاربة في كافة أنحاء الجسد؟ ونةٌ خافتة في الأذن تُشكّك بما يدخره باطن عقلي من صور وتسجيلات صوت غير رقمية؟

يختبر الضجيج سلامة المدخرات ومدى صحتها ونسبة تطابقها مع الأصل؛ تطابق، أصل، نسخة مزورة عن الذاكرة. ترتفع درجة الحرارة في محرك التشغيل الكائن في جمجمتي، ويشيخ الله فجأة فيما تنبعث في المكان نفحة من رائحة النفتالين.

قتل الأورغانيزم  

في التدخين استجابةٌ لما يسميها فرويد بدافعية الموت، والتي ترافق الأورغانيزم ما إن ينزلق من بين ساقي الحياة. وفي هذه الحال تكون السيجارة المُدخَّنة اندثارية تماماً، فالأورغانيزم، المطرود من عالم المألوه وبالتالي الفاقد الذاكرة، يسعى غالباً إلى حل عقدة الانفصال وتجاوز مأساة الفقد. ببساطة يسعى إلى مقتله؛ لا يرغب الأورغانيزم بالمجمل، والمُدخِّنُ على وجه التحديد، بالانتحار حرفياً، فإحلال الضرر في القلب أو الرئة هو محاولة عودة متعثرة إلى الحالة اللاعضوية؛ لا ضربات، لا نفس، ولا مؤشرات حيوية تجعل من الخسارة الإلهية أمراً واقعاً.

المُدخِّن، شقيٌ كما الأورغانيزم، واعٍ أنَّ الذاكرة التي يَعِدُ بها نفسه بعد الموت الفيزيائي لا تشبه ذاكرته البكر، وأنَّ لا قعر للانفصال.

إنعاش الأورغانيزم 

ولأن وعيه يكفيه ليدرك أن الاجتماع بالذاكرة البكر، على لذته، أمر مستحيل، يتمسك الأروغانيزم بفانتزم لمّ الشمل، ويعيش تحت سطوة دافعية فرويدية أخرى؛ دافعية الحياة، التي تُحَوِّلُ بدورها الرغبة بالانتحار إلى أمل مستدام بالموت. ليتني لم أحرق طاولتي البيضاء؛ ليتني لم ألتصق. ليتني لم أنسَ. ليتني لم أُحَلِّق. ليتني لم أُخلَق منذ بادىء الأمر. وكذلك «يَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً».

ولأنه محكوم بالحياة، يقتنع الأورغانيزم بأن اللذة المتوهمة التي يسعى هستيرياً إلى الحصول عليها تكمن في التأجيل، ويستبدل الذاكرة المفقودة بذاكرات بديلة من شأنها مساعدته على ممارسة النجاة؛ نجاته هو نفسه ونجاة المستعمرة الأكبر، الجنس البشري. وهي ممارسة تشترط عليه أن يتفجر حبّاً، حبّا نرجسياً لذاته، وآخر يشمل المستعمرة كلها.

أن يحب الأورغانيزم ذاته: أن يأكل، أن يشرب، أن يقاوم المرض، أن يسكن؛ لينسى أنه ينسى، ليستمر فردياً.

أن أحب ذاتي كمُدخِّنَة: أن أتحكم بالوقت، أن لا يعود الوقت دائرياً وإنما أسطوانياً؛ ليست عشرين دقيقة، بل عشرين سيجارة.

 أن يحب الأورغانيزم المستعمرة: أن يبحث عن شريك حياة دافىء، أن يستبدل صورة الله بأخرى عائلية، أن يتجاوز الانفصال إلى الانضمام فالإكثار، أن يستمر الجنس البشري ككل.

أن أحب المستعمرة كمُدخِّنَة: أن أُحوِّلَ الستارَ الدخاني إلى مِشدٍّ فرنسي يلم جسد الكوكب، مسكن المستعمرة، الذي رهّلته الولادات المتكررة، ومواليد لا تتفوق على شهيتهم الغذائية سوى شهية لا متناهية للتدمير. أن أفقد شهيتي وأقتصد بالموارد، أن أتابع قتل بويضاتي وخفض حظوظي بالإنجاب، أن أمتنع عن الأمومة إرادياً فلا أمنح الكوكب طفلاً من قطران.

ألم تستحضر سيجارة بعد؟ أنت واحد منهم؟ 

هُم

هل أنت منهم؟ من يرفضون التعمق في المخيلات المُدخنة، المنقوعة بالنيكوتين، أو على الأقل التلصص على بعض منها. مخيلاتٌ لا تتشابه كما لا تتشابه العلامات التجارية التي يحمل التبغ المعبأ اسمها. أم أنك ممن أدركوا عِظَم الثورة الباطنية التي يشنها المبعدون اجتماعياً على المنظومة الصحية؛ نحن نستهلك السجائر، نحتفي بالضرر الصحي، وإعاثة الخراب بالجسد، وتَلْفِ الأعضاء الحيوية، في ممارسات تحكمها قوانين الموت. بِعنا أجسادنا للشيطان عن سبق إصرار، مُجدِّدين الصفقة مع كل عقب مسحوق، ثائرين على الله أيضاً.

حماية النسيان

في محاولتهم للحفاظ على الروتين، واستقرار مؤشرات النسيان، ومنع الذاكرة من التسرّب، والمعاهدات الأزلية مع الشيطان: «لا تؤذنا فلا نؤذيك؛ شأننا شأنك؛ أُبعِدت عن الجنة وها نحن للذاكرة فاقدون»، يعمد مشعوذو العالم الصحي إلى تقسيم الفضاء العام، متجاهلين أن الهواء لا يمكن محاصصته. يعمدون إلى رسم حدود مرئية وغير مرئية تفصل عالمهم عن عالمنا الموبوء، كدائرة صفراء كبيرة تتوزع على امتداد قطرها اسطوانات معدنية، حيث ستذهب السجائر إلى مثواها الأخير. المشهد وثنيٌ تماماً، غايته التطهير؛ يتحلّق أصحّاء الجسد من حولنا فيما يُمنع علينا أن نخطو خارج الدائرة ما دامت السيجارة مستعرة؛ مرددين: «اقتلها».

أنا

لما كل هذه المسافة بينكم وبين الطريدة؟ هل هو المسّ؟ أم يخشى صحيح الجسد أن تَزلَّ قدمه، فينزلق إلى عالم المشرحة؟ أم أنه يخاف أن يصبح عميلاً مزدوجاً، أو ما يسمونه المدخن الاجتماعي؟ لأصدقكم القول، أنفر من الخوف الثاني، ففيه عدم قدرة على اتخاذ قرار وقلّة التزام، فالتدخين ليس متعة آنية أو تسلية أو إشارة ود. التدخين طقس؛ عليك أن تدع السيجارة تلتهمك تماماً حتى تكتمل أركانه، كأن تتداعى على الدرج صعوداً، لا بل وهبوطاً، فليس في السجائر العشوائية، والتدخين المتقطع أو النهم المؤقت، أي طريق إلى تجلٍ ما.

انقلاب الذاكرة

غير أن للذاكرة إرادة مستقلة، الذاكرة المضغوطة، بما فيها الأصل والمزورة، لا يمكن التنبؤ بمشيئتها أو قدراتها، فهي تتجاهل مشيئة من نسوا ومن يقاومون النسيان. وقد يكون ضرباً من التَطيّرُ أن نتأمل في مأساة اليوم الكوفيدية على أنها تحالف بين الذاكرة وكوكب الأرض، الساعي أيضاً إلى استعادة ذاكرته بيولوجياً، مُحوِّلينَ التباعد الاجتماعي إلى ابتعاد اجتماعي: على الكلّ التزام مسافات أمان، على الكلّ التزام الوحدة في حجره، سواء كان راغباً بالتذكر أم لا. هل تحاول الأرض قتل الأورغانيزم؟ هل الأورغانيزم على موعد مع الموت؟ هل يقف الله على الضفة الأخرى حاملاً معه الذاكرة؟

*****

* يُعبِّرُ هذا المقال عن أفكار الكاتبة وحدها؛ وتبرأ ذمة الناشر من أي نوايا تبشيرية تدعو إلى التدخين.