لا نعرف على وجه اليقين ما الذي كان عبد الحليم خدّام يفكر فيه في الأشهر القليلة الفاصلة بين اغتيال رفيق الحريري واستقالته من مناصبه الرسمية في سوريا؛ كان الحريري قد اغتيلَ في شباط (فبراير) من العام 2005، واستقال خدّام في حزيران (يونيو) من العام نفسه. كذلك، لا نعرف على وجه اليقين أسباب الخلاف العميقة بين بشار الأسد وخدّام، لكن المؤكد أن الأخير لم يكن راضياً عن سياسة بشار حيال لبنان، ولم يكن راضياً عن موقعه السياسي الآخذ بالتراجع، ولا عن تراجع حصته من النهب الاقتصادي لصالح صعود المخلوفية.
لكن المؤكد أن الرجل كان يفكر خلال تلك الأشهر في واحد من أمرين؛ الأول هو البحث عن وسيلة تجعله ينجو من مصير مماثل لمصير الحريري، أو مصير رئيس الوزراء السوري السابق محمود الزعبي الذي «انتحر» بعد اتهامه بالفساد. والأمر الثاني هو كيف يمكنه الاستفادة من الأجواء الدولية اللاحقة لاغتيال الحريري، التي كان يبدو أنها تتجه إلى خنق النظام السوري تمهيداً للإطاحة به، بحيث يحجز له مكاناً في النظام الجديد، مستفيداً من علاقاته الإقليمية والدولية الواسعة التي نسجها خلال سنوات عمله الطويلة كوزير للخارجية ثم نائب للرئيس للشؤون السياسية.
نستطيع اليوم أن نُرجِّحَ أنه كان يفكر في الأمرين معاً، لكننا لا نعرف من الذي أوحى له بفكرة أن يعلن عن استقالته بشكل مفاجئ في اجتماع عام، بحيث يكون إعلانه هذا وسيلة لحمايته من أي رد فعل انتقامي. فالرجل بفعلته هذه سجّل سابقة غير معهودة في تاريخ الأسدية، ولم يترك من خلالها مجالاً لأن يتم اتهامه بالفساد ثم إقالته وقتله، ذلك أن قتله بعدها مباشرة كان سيشكّل فضيحة تزيد من إضعاف موقف النظام وتؤكد مسؤوليته عن اغتيالات لبنان. ولكن الأهم أنها كانت رسالة سلام وجهها الرجل لبشار الأسد، خاصة أنه لم يُخفِ في الكلمة التي ألقاها في المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث أسباب استقالته، عندما انتقد الأوضاع السياسية في سوريا وانتقد ما آلت إليه الأوضاع في لبنان، حتى أن علي جمالو، عضو المؤتمر، قال لخدّام «طالما أنك بقيت أربعين سنة في السلطة، فماذا فعلت خلال هذه السنوات للديمقراطية التي تتحدث عنها؟ ولماذا لم تطبقها؟ وكنت مسؤولاً عن لبنان، فلماذا وصلنا إلى هنا في هذا الملف؟».
لقد أوحى عبد الحليم خدّام لبشار الأسد أنه ليس لديه ما يخفيه، وأنه يريد «سلّته بلا عنب» وفق التعبير الدارج، وحمى حياته بالاستفادة من الأجواء الدولية التي أعقبت اغتيال الحريري. وقد نجحت خطته تلك، إذ أنه غادر سوريا بعدها بشكل طبيعي عبر لبنان إلى باريس، ليعلن من هناك في 30 كانون الأول (ديسمبر) 2005 انشقاقه عن النظام، ويؤكد مسؤولية بشار الأسد عن اغتيال الحريري. في ظروف أخرى، كان عبد الحليم خدام لينتهي «منتحراً» في مكتبه، كما سيحصل مع شريكه في إدارة الوصاية السورية على لبنان، اللواء غازي كنعان، الذي انتحر في تشرين الأول (أكتوبر) من العام 2005 نفسه.
كانت خطته تلك بالغة الذكاء، وهذا بالضبط ما يجعلني أفترض أن هناك من أوحى له بها. صحيحٌ أننا لا نعرف شيئاً مؤكداً عن مدى ذكاء الرجل أو غبائه، إلا أن سيرته لا تشي برجل لامع على أي صعيد؛ كان خدّام موظفاً أسدياً من الطقم السياسي الأول، وقد شغل منصب وزير خارجية حافظ الأسد منذ استيلاء الأخير على السلطة حتى العام 1984، ثم شغل بعدها موقع نائب الرئيس وكان مسؤولاً عن إدارة الملف اللبناني سياسياً. وينسب له كثيرون براعة استثنائية، نتيجة نجاح حافظ الأسد في إحكام قبضته على لبنان عندما كان خدّام يدير هذا الملف، وقبلها نجاة حافظ الأسد من كل التحديات الخارجية والداخلية التي واجهته حتى أواسط الثمانينات، وهي التحديات التي كان خدّام وزيراً للخارجية خلال معظمها.
لكننا نعرف اليوم أنه لم يكن ثمة ذكاءٌ من نوع خاص يقف خلف هذه النجاحات، بل كانت الوحشية الشديدة ومعها الاستعداد للمساومة على كل شيء عدا البقاء في السلطة، وهو ما لا يتطلّب ذكاء من أي نوع طبعاً. لكن الأهم أننا نعرف أن رجال السياسة السوريين في عهد الأسدين لم يكونوا يقررون شيئاً أصلاً، بل كان القرار كله في يد قادة الأجهزة الأمنية وقادة وحدات الجيش الرئيسية والسلالة الحاكمة، ولم يكن السياسيون أصحاب المناصب الرسمية شيئاً أكثر من أدوات تنفّذ الأوامر؛ لا نعرف نوع الذكاء الذي يتطلبه تنفيذ الأوامر، وهو نوع الذكاء الوحيد الذي تخبرنا به سيرة خدّام حتى العام 2005.
لكن يبدو أن ذكاءً جديداً قد نَبَتَ له في وقت ما بعد اغتيال الحريري أو قبله بقليل، ولا نعرف على وجه اليقين نوع هذا الذكاء، ولا العوامل التي حفزته، لكن الرجل قرر أن يتمرد على بشار الأسد. وتشي الأحداث اللاحقة لانشقاقه أن اعتقاده بقرب سقوط النظام السوري كان من بين دوافع ذكائه المستجد إياه، إذ أسّس الرجل بعدها تحالفاً معارضاً حمل اسم جبهة الخلاص الوطني بالشراكة مع الإخوان المسلمين، وراح يتحدث عن الديمقراطية والتغيير والانتقال السياسي في سوريا، ومعه خصوم الأمس الذين باتوا حلفاء اليوم.
لا نعرف كيف كان أول حديث مباشر بين خدّام وقيادة جماعة الإخوان السورية، لكن ما يبدو ممتعاً هو أن نتخيل واحداً منهم وهو يسأله: أخ أبو جمال، ألم تعد تخاف على سوريا من «الجزأرة»؟
كان خدّام قد قال في كلمة ألقاها على مدرج جامعة دمشق في شباط (فبراير) 2001، تعليقاً على المطالبات بإحياء المجتمع المدني في سوريا، بأن هذا ربما يقود البلاد إلى المصير الجزائري، قاصداً ما جرى في الجزائر من صراع بين النظام ومسلحين إسلاميين خلال ما يعرف بالعشرية السوداء. ستكون العودة إلى قراءة ما قاله خدّام في تلك الجلسة ممتعة ومفيدة جداً؛ فهو يقول مثلاً في بداية حديثه عن بيانات المثقفين السوريين التي تطالب بالديمقراطية: «أولاً دعونا نتفق ماذا تعني الثقافة؟ وماذا يعني المثقف؟»؛ نستطيع هكذا أن نعرف من أين تعلَّمَ بشار الأسد كيف يصيغ الهراء الذي يقوله في خطاباته.
ولكن قبل بشار الأسد، لا نعرف على وجه التحديد ما هو الأمر الذي دفع حافظ الأسد إلى الثقة بخدّام وتوليته مناصب سياسية حساسة منذ العام 1970، لكنَّ ما يسعنا هو العودة قليلاً إلى الوراء، عندما كان عبد الحليم خدّام محافظاً للقنيطرة خلال حرب 1967. لقد سقطت القنيطرة بعد بلاغ أصرّ وزير الدفاع حافظ الأسد على إذاعته، تضمَّنَ إعلان سقوط المدينة قبل أن يدخلها الجيش الإسرائيلي بأكثر من عشر ساعات على الأقل. ويبدو أن خدّام قد مارس ذكاءه الاستثنائي في تنفيذ الأوامر، فلم يعترض على إعلان سقوط مدينة تحت إدارته رغم معرفته، دون شكّ، بأنها لم تكن قد سقطت بعد. يبدو المحافظ الكفء إذن مناسباً تماماً لدور وزير خارجية حافظ الأسد؛ لقد كانت تلك لحظة استثنائية في الحياة السياسية لوزير خارجية سوريا القادم.
وقد نجحت «الحنكة السياسية» لخدّام في جعله وسيطاً رئيسياً في العلاقة بين قادة التيارات السياسية اللبنانية وقيادة النظام السوري الأمنية، وفي العلاقة بين هؤلاء القادة أنفسهم، وحتى في العلاقة بينهم وبين قوى إقليمية ودولية أخرى. لا نعرف ما الذي كان يدور في الجلسات المغلقة التي كان يعقدها خدّام مع زعماء الطوائف اللبنانية، لكننا نستطيع أن نقول إنه كان يمارس براعته في تنفيذ الأوامر، حتى أن أحداً منهم لم يكن يحمل ضغينة للرجل الذي لم يكن ينطق عن هواه بل عن هوى حافظ الأسد وقادة أجهزته الأمنية. من المفيد أن نرجع إلى شهادات الزعماء اللبنانيين في البرامج الوثائقية مثل حرب لبنان، كي نرى كيف أنهم كانوا يأتون على ذكر أبو جمال كما لو أن حضوره يُفسّر نفسه بنفسه؛ كما لو أنه من طبائع الأشياء. لعلّ زعماء الطوائف اللبنانية هم أكثر من يستحقّ العزاء برحيل خدّام اليوم، فهو الذي كان يمنحهم شعوراً بأنهم رجال سياسة تتم مفاوضتهم، لا زعماء مهزومين يتم توجيه التعليمات لهم.
في أواسط الثمانينات، صار خدّام أيضاً مقاولاً لتصريف النفايات النووية برتبة نائب لرئيس الجمهورية، وهي مهنة تتطلب براعة استثنائية بدورها؛ تحتاج أن يكون المرء مجرماً، وأن يكون قادراً على تفريغ النفايات النووية في موانئ بلده ثم نقلها ودفنها كيفما اتفق، دون أن يجرؤ أحد مُساءلته. وهو ما قام به خدّام فعلاً عام 1987، إذ أنه بالتعاون مع رجل الأعمال السوري محمد طبالو قد رتبّ استقبال شحنة نفايات نووية عبر ميناء طرطوس، تم نقلها كي تُدفَنَ في مواقع في بادية تدمر. وقد عرف سوريون كُثُر بهذه القضية، وتداولوا الحديث بشأنها على نحو هامس، إلى أن تحدَّثَ عنها نزار نيوف عبر قناة الجزيرة عام 2001، فصارت حديث كل بيت في سوريا. لا نعرف من هم المتورطون الآخرون مع خدّام وطبالو في هذه الجريمة، لكن أمراً كهذا ما كان يمكن أن يمرّ دون لمسة شخص واحد على الأقل من عائلة الأسد. لم يتم فتح أي تحقيق في المسألة، باستثناء التحقيق مع نيوف نفسه ومقاضاته لنشر معلومات كاذبة، أما السوريون الذي أصيبوا بالسرطان، أو أنجبوا أطفالاً بعيوب خلقية، نتيجة عدم اتبّاع الإجراءات التي ينبغي اتّباعها عند التخلص من النفايات النووية، فلم يكن ثمة عزاء لهم.
لا نعرف عدد السوريين الذين لحق بهم الأذى جرّاء هذه الجريمة، لكن ما أعرفه على الصعيد الشخصي أن هذه القضية كانت عنصراً مهماً في حياتي. كنتُ في العشرين من عمري تقريباً عندما كان عبد الحليم خدّام يخشى على سوريا من مصير الجزائر إذا ما فُتحت أبوابها أمام «إحياء المجتمع المدني» عام 2001، وكان همّي السياسي منصرفاً إلى ضرورة تحرير فلسطين، متأثراً بالانتفاضة الفلسطينية الثانية بشكل رئيسي وقتها. كانت المفاهيم السياسية تتكامل تدريجاً وببطء في ذهني، وكان رفضي للنظام السوري وأسلوبه في الحكم يتصاعد رويداً رويداً، مترافقاً مع تقدير واحترام لموقف الأسد الراعي للمقاومة، حال بيني وبين أن يتحول رفضي ذاك إلى معارضة جذرية للنظام. كانت لحظة انشقاق خدّام هي لحظة الانعطافة التي حوّلت ذاك الرفض إلى حقد عارم لم أستطع كبحه في أي يوم منذ ذلك الوقت؛ كان مشهد أعضاء مجلس الشعب السوري وهم يتحدثون عن دفن النفايات النووية في جلسة علنية مذهلاً بالنسبة لي، وهي الجلسة التي جاءت بعد يوم واحد فقط من ظهور خدّام على قناة العربية معلناً انشقاقه عن النظام، ومتهماً بشار الأسد بالمسؤولية عن اغتيال الحريري.
تحدَّثَ أعضاء مجلش الشعب بطلاقة عن جرائم خدّام، وحمّلوه مسؤولية عرقلة الخطة الإصلاحية لبشار الأسد، داعين إلى محاكمته بتهمة الخيانة العظمى، وبتهم فساد شتى من بينها قضية دفن النفايات النووية. كانت مذهلة كمية الاحتقار التي يتعامل بها النظام مع السوريين. شعرتُ أننا جميعاً لا شيء، لقد كان السفلة يعرفون جميعاً بقضية دفن النفايات النووية وغيرها، لكن أحدهم لم ينبس ببنت شفة حتى أعلن خدّام معارضته لبشار الأسد.
وليس الأمر أنني فوجئتُ بأن الجميع يعرفون، فهذا كان معلوماً؛ كذلك ليس الأمر أنني عاتبٌ عليهم لأنهم لم ينبسوا ببنت شفة، لأن اللسان الذي سينطق كان سيُقطع دون شك؛ ثم على من يعتب المرء؟ على أعضاء مجلس الشعب السوري؟! لكن الأمر أن الوقاحة والاحتقار وعدم الإحساس بالحاجة إلى التستّر هو ما كان لا يُحتمل بالنسبة لي، لقد كان ذلك أشبه بانزياح ستار ثقيل من أمام عيني؛ لا معنى للانشغال بالعداء لإسرائيل وحدها فيما تجثم هذه العصابة المنحطة فوق صدورنا، ثم سأحتاج أكثر من خمس سنوات أخرى كي تزول الغشاوة كلها عن عيني، وتنضم بقية أجنحة محور الممانعة إلى قائمة الذين أحقد عليهم. ولقد حوكم خدّام لاحقاً بخصوص كل شيء، وصدرت بحقه أحكام بالأشغال الشاقة المؤبدة، لكن قضية دفن النفايات النووية لم تكن من بين القضايا التي تمت محاكمته بشأنها أصلاً، ولم يعد أحدٌ إلى ذكرها بعد جلسة مجلس الشعب الشهيرة تلك.
لا نعرف ما الذي كان يقوله قدامى البعثيين بخصوص القيادي السابق في حزبهم خلال جلساتهم الخاصة، لكنني عبّرتُ عن غضبي ذاك أمام واحد منهم في مدينتي طرطوس، وسألته عن سبب عدم محاسبة خدّام قبل انشقاقه رغم معرفة الجميع بجرائمه. لقد كان جوابه بالغ الطرافة: «هل تريدنا أن نخوض صراعاً جديداً مع سُنّة بانياس؟». كان الرفيق البعثي علوياً، وهو من قيادات الصف الثلاثين ربما في حزب البعث. ولا أعرف على من تعود الـ«نا» في عبارة «هل تريدنا»، لكنها لا تعود على البعثيين دون شك، فالبعث كله لم يعد ذا شأن في البلد، والرجل لم يكن في موقع يسمح له بأن يكون طرفاً في أي صراع من أي نوع. كان العلوي القابع في داخل الرفيق البعثي هو من يتحدث على الأرجح، وكانت عبارته تلك تكثيفاً شديداً لمزيج الانحطاط والرثاثة التي يعيشها النظام السوري وحزبه القائد للدولة والمجتمع.
كان عبد الحليم خدّام من سُنّة بانياس، لكن أحداً لم يعرف له عزوة أو أنصاراً بينهم، كما أن أحداً لم يعرف له يداً بيضاء أو هيبة استثنائية على أيّ منهم. كانت المدينة تختنق تحت الإهمال والشِقاق الطائفي والتلوث الذي يحاصرها جرّاء وجود مصفاة نفط ومحطة حرارية على طرفيها، ولم يكن أهلها يعرفون شيئاً من خدّام سوى قصره الفخم، ويخته الفاخر الذي كان يرسو قريباً منه. على أي حال، ما كان سُنّة بانياس ليغضبوا من أجل خداّم، تعرف قيادة النظام هذا دون شك، لكن الرفيق البعثي الغارق في ذُعره الطائفي لم يكن يعرف على الأرجح، وهو الذي ينقسم العالم في رأسه إلى سنّة وعلويين، ولم يكن البعث بالنسبة له شيئاً أكثر من بوابة لممارسة الولاء للسلالة الأسدية.
نجا خدّام بجرائمه إذن، لكن ذكاءه المستجد لم ينفعه في شيء سوى في تلك النجاة، إذ إن تواضع قدراته الخطابية الذي كان يظهر بمجرد أن يفتح الرجل فمه، بالإضافة إلى افتقاده إلى أي شيء مهم يستطيع قوله، باستثناء اتهامه للأسد بالمسؤولية عن اغتيال الحريري، أبعده عن أن يكون محور أي اهتمام سياسي أو إعلامي. ربما يكون الإخوان المسلمون هم الطرف الوحيد الذي أخذ الرجل على محمل الجد، ولكن ليس طويلاً، إذ إن تحالفه معهم انفرط عام 2009، عندما قرّرَ الأخيرون تعليق معارضتهم للنظام بسبب موقف الأخير الداعم لحركة حماس في حرب غزة أواخر 2008.
في الحقيقة، هناك طرفٌ آخر أخذه على محمل الجد، وهو صنّاع الدراما في سوريا، الذين أنتجوا أعمالاً درامية عديدة تفضح الفساد والنهب واسع النطاق لخيرات البلد، وكانت تمرّرها الرقابة بعد أن يتم اختتام السيناريو بما يوحي أن المسؤول عن الفساد هو شخص يشغل موقعاً مشابهاً لموقع خدّام، مع تنويع في النهايات، بين الاعتقال والتصفية والهرب خارج البلد، وهي النهايات الثلاث التي استطاع خدّام أن يحظى بأقلّها سوءاً.
بعد قيام الثورة، لم يستطع خدّام أن يحجز مكاناً له في مؤسسات المعارضة، لكن الثورة كانت دافعاً لاهتمام إعلامي واسع بالشأن السوري، وهو ما عاد عليه بمقابلات عديدة أجرتها معه قنوات تلفزيونية كبرى منها الجزيرة والعربية وغيرهما، وقلّما حازت أي من هذه المقابلات، التي كان بعضها مطولاً وتم بثّه على أجزاء، بأي اهتمام استثنائي، ذلك أن الرجل لم يقل جديداً في أي منها سوى مزيد من محاولات تبرير نفسه وتاريخه ومواقفه. ولا نعرف إذا كان الرجل لم يقل شيئاً لأنه لا يجرؤ، أم لأنه ليس لديه ما يقوله، لكن ما نعرفه أن الرجل كان مملاً على نحو لا يُطاق، حتى أنني وجدت صعوبة شديدة في مشاهدة أجزاء من تلك المقابلات، علّني أجد فيها ما يمكن أن يكون مفيداً، ولكن دون فائدة. كان كلامه عقيماً على نحو لا يُصدَّق.
في برنامج الذاكرة السياسية على قناة العربية، في واحدة من حلقات خريف 2011، يسأل مقدم البرنامج طاهر بركة ضيفه عبد الحليم خدّام عن سبب عدم انشقاقه أيام حافظ الأسد طالما أنه لم يكن راضياً عن أسلوب النظام في الحكم، فيجيبه أن مصير أي منشق هو القتل أو السجن حتى الموت. ثم يسأله بركة عن سبب تجرؤه على الانشقاق في عهد بشار، فيقول إن الأمر قد اختلف، لأن «قبضة الأمن قد تراخت». لم يكن لدى أبو جمال ما يقوله دفاعاً عن حافظ الأسد ونظامه إذن، ولم يكن لديه ما يفسّر به تجرؤه على الانشقاق سوى أن قبضة الأمن قد تراخت. وقد رحل الرجل عن هذا العالم فجر الثلاثاء، 31 آذار (مارس) 2020، دون أن يفصح عن ما لا نعرفه، ودون أن يكشف عن أسرار كثيرة كان قد تعهّد بالكشف عنها إذا تجرأ النظام على محاكمته، وهو الوعيد الذي لم ينفّذه في أي وقت.