فشلت المحادثات التي انطلقت في السادس من آذار (مارس) الجاري بين مجموعة الدول المُنتجة والمُصدرة للنفط (أوبك) وروسيا، أو ما يُعرف بـ« أوبك+»، في التوافق على تخفيضٍ جديدٍ لحجم الإنتاج، بمقدار 1.5 مليون برميل يومياً لمدة ثلاثة أشهر. وكان الهدف من التخفيض الذي اقترحته السعودية في المحادثات هو الحفاظ على أسعار النفط قريباً من 50 دولار أميركي للبرميل، وذلك لمواجهة تداعيات موجة جديدة من انخفاض الطلب على النفط وتراجع الإنتاج العالمي، بعد تفشّي وباء كورونا والشلل الذي ألحقه بالأسواق العالمية، لا سيما في الصين، أحد أكبر مستوردي النفط في العالم.

وقد جاء الاجتماع في إطار التنسيق المستمر بين دول أوبك وروسيا منذ العام 2017 لتخفيض الإنتاج وتقاسم الحصص النفطية، من أجل الحفاظ على مستوى أسعار النفط في ظلّ الانخفاض على الطلب وزيادة حضور الولايات المتحدة الأميركية كمُنتِج مهم للنفط في الوقت الحالي، وذلك بالاعتماد على النفط الصخري. أما السبب الذي أدى إلى فشل المحادثات، فهو رفض روسيا للاقتراح الذي تقدّمت به دول أوبك، وإصرارها على الحفاظ على حجم الإنتاج دون نقصان.

لم يتأخر الرد السعودي على رفض روسيا، وجاء تصعيدياً ومخالفاً للتوقعات، حيث قررت الرياض الاستغناء عن سياسة تخفيض الإنتاج، لتتحول إلى إغراق الأسواق العالمية بالنفط الخام، وذلك رغم الركود الاقتصادي الذي خلّفه وباء كورونا. وتضمّنت قرارات المملكة زيادة إنتاجها حتى يصل إلى مستويات قياسية، ستبلغ في نيسان (أبريل) المقبل 12.3 مليون برميل نفط يومياً، لتعود في وقتٍ لاحقٍ للإعلان عن نيتها الوصول إلى 13 مليون برميل لزيادة حصتها السوقية. فضلاً عن ذلك، منحت الرياض تخفيضاتٍ للدول المستوردة بين 6 و8 دولارات للبرميل الواحد من أجل تشجيعها على الاستيراد.

بالإضافة إلى التخفيضات التي أعلنت عنها السعودية، وبالتزامن مع حدة انتشار وباء كورونا، هبطت أسعار النفط إلى معدلاتٍ كبيرة، حيث خسر البرميل قرابة 60 بالمئة من قيمته خلال أيامٍ معدودة، ليصل سعره أمس الخميس (19 آذار/مارس 2020) إلى أقل من 21 دولار، ومن ثمّ عاود الارتفاع صباح اليوم الجمعة بشكلٍ طفيف حتى وصل سعره إلى حدود 25 دولار.

معركة طويلة الأجل!

أعقبت فشل المحادثات والقرارات السعودية مجموعةٌ من التصريحات التصعيدية، وسلسلة من مشاهد فرد العضلات بين موسكو والرياض، إذ أعلنت السعودية أنها مستعدة لمعركة طويلة بشأن مستويات الإنتاج والحصص السوقية. وأوضح أمين الناصر، الرئيس التنفيذي لعملاق النفط السعودي أرامكو، أن تكاليف الإنتاج لدى «أرامكو» من بين الأدنى في العالم، ولذا فهي قادرة على مواجهة انخفاض أسعار النفط والاستمرار في إنتاج 12 مليون برميل يومياً في المتوسط لمدة عامٍ كامل لتباع بأسعارٍ قريبة من 27 دولار للبرميل، مشيراً إلى أن أرامكو ستسحب 300 ألف برميل يومياً من مخزونها الضخم، للوصول إلى ذلك المعروض القياسي المُقرّر في نيسان (أبريل) المقبل، من غير أن يؤدي ذلك إلى مزيدٍ من الإنفاق.

وتلا التصريحات السعودية إعلانٌ إماراتيٌّ عن قرارٍ برفع الإنتاج تزامناً مع الخطوة السعودية، ليصل إلى 4 ملايين برميل نفط يومياً، بزيادةٍ مقدارها مليون برميل، لتبدو دول الخليج في موقفٍ صلب وموحّد في وجه روسيا. كما أعلنت الإمارات أيضاً عن مواصلة الجهود للوصول بشكلٍ أسرع إلى حجم إنتاج 5 مليون برميل يومياً.

أما روسيا، فشدّدت على تشبّثها بقرارها حيال عدم الموافقة على خفض الإنتاج، وفق استراتيجيةٍ يُراد منها إيصال رسائل اقتصادية وسياسية، ليس فقط لدول أوبك، بل للولايات المتحدة الأميركية أيضاً. وتحاول موسكو من خلال موقفها المتعنّت إخراج النفط الصخري الأميركي من المنافسة في الأسواق، بعد أن باتت الولايات المتحدة في طليعة الدول المنتجة، ذلك أنّ انخفاض الأسعار سيعني شلل القطاع النفطي الأميركي، بسبب غرقه بالديون، والكلفة العالية التي يتطلبها النفط الأميركي، وهو ما يحول دون قدرته على مجاراة أسعار النفط الحالية. كما يعوّل الجانب الروسي أيضاً على الاستفادة من خفض أسعار النفط في ترسيخ حضوره في الأسواق بحيث يتعذّر الاستغناء عنه، وإجبار الولايات المتحدة نتيجة ذلك على إعادة النظر بالعقوبات التي تفرضها على الاقتصاد الروسي، والمتصلة بضم روسيا لشبه جزيرة القرم وتدخلها العسكري في سوريا.

يأتي ذلك في وقتٍ اعتبر فيه الرئيس دونالد ترامب أنّ انخفاض أسعار النفط يصب في المصلحة الأميركية، لأنه بوسع الولايات المتحدة شراء كمياتٍ كبيرة من الخام بأسعار قليلة، وزيادة الاحتياطي البترولي الاستراتيجي، وهو ما سينعكس بشكلٍ إيجابي على الأسواق والمنتِجين الأميركيين، غير أنّ توسع تفشي وباء كورونا وما ترتّب على ذلك من آثار على تراجع الأنشطة الاقتصادية على مستوى العالم، دفعه للتحذير من أنّ اقتصاد الولايات المتحدة سوف يتجه نحو الركود.

يُفهم من تصريحات دونالد ترامب أنّه لم يعد من الممكن اعتبار الولايات المتحدة طرفاً رابحاً من خفض أسعار النفط. وبخلاف ذلك، صار يتوجب على الولايات المتحدة دعم قطاع النفط المُتعثّر لمواجهة انخفاض الأسعار، أو الاستسلام أمام المُنتجين التقليديين في روسيا والخليج مبكراً، والقبول بخفض الإنتاج والتخلي عن الموقع الريادي الذي وصلت إليه الولايات المتحدة خلال العقد الأخير كأكبر منتجٍ للنفط، وهو ما يعني ضمناً فسح المجال أمام روسيا للتمدّد أكثر في أسواق أوروبا وشرق آسيا، أو التخفيف من حدة العقوبات المفروضة على موسكو في سبيل إعادة الأمور إلى ما قبل أزمة النفط الحالية.

من سينتصر؛ السعودية أم روسيا؟

لدى كلٍّ من الطرفين، السعودي والروسي، مجموعةٌ من أوراق الضغط التي يحاول من خلالها كلٌّ منهما إجبار الآخر على التراجع، كما يحاول كل طرفٍ منهما استغلال نقاط ضعف الطرف الآخر. من جهتها، تعوّل السعودية على الدعم الأميركي والإبقاء على موقف موحّد داخل كارتل دول أوبك في مواجهة روسيا، كما تعوّل أيضاً على انخفاض تكلفة إنتاج النفط لديها مقارنةً بروسيا. وتريد السعودية أن توصل رسائل إلى موسكو وباقي المنافسين بأنها لا تزال تتربع على عرش سوق النفط العالمي، ولا يمكن تجاهل قراراتها. أما نقطة الضعف الأبرز لدى السعوديين، فهي الخسائر الطائلة التي لحقت بسهم أرامكو بعد انخفاض الأسعار وأزمة كورونا، وقد ينعكس ذلك، ليس فقط على مكانة أرامكو في سوق الأسهم، بل على خطط ومشاريع ولي العهد محمد بن سلمان، الذي بنى ما يُعرف بـ«رؤية 2030» بشكلٍ أساسي على سهم أرامكو، إذ قد يُضطر إلى اتباع سياساتٍ مالية تقشفية تمسّ بالسعوديين، أفراداً وشركات.

أما روسيا، فهي تتسلح في هذه المواجهة النفطية بعدة مزايا؛ منها انخفاض كلفة نقل النفط، كونها تعتمد على الأنابيب، وذلك بخلاف السعودية، التي تستخدم الناقلات البحرية، وتستغرق شحناتها وقتاً أطول حتى تصل إلى المستوردين. كما تعوّل روسيا على تنوّع اقتصادها، وعدم اعتماده على النفط بالقدر نفسه الذي تعتمد عليه الموازنة السعودية، ولذا جاءت التصريحات الروسية مشدّدةً على أنّه بوسع موسكو الحفاظ على مقدار الإنتاج الحالي من النفط لمدة عشر سنوات دون أن تتأثر بانخفاض الأسعار، وذلك بالاعتماد على الصندوق الاحتياطي الذي راكمته خلال العقد الأخير، الذي وصل إلى 550 مليار دولار، ويمكن لموسكو أن تستخدم 20 مليار من هذه الاحتياطيات سنوياً للتعامل مع أزمة انخفاض الأسعار.

كان انتشار وباء كورونا هو المُسبب الأول لتراجع أسعار النفط هذا العام، نتيجة تراجع الطلب وتعطّل عمليات الإنتاج والنقل حول العالم، وهو الذي دفع أيضاً إلى جولة جديدة من مباحثات أوبك+ مطلع هذا الشهر للاتفاق على تخفيض الإنتاج، ولكنّ الأمر ما لبث أن تحوّل إلى حرب أسعارٍ آلت إلى مزيدٍ من التراجعات في سعر برميل النفط، ليعود الكورونا بعد انتشاره المتسارع والهائل في شهر آذار (مارس) إلى تعميق هذه التراجعات بشكلٍ لم يعد محتملاً بالنسبة للمصدرين، وذلك بعد أن شلّ الوباء اقتصادات الدول والشركات وأسواق المال حول العالم. لقد باتت الخسائر الهائلة في قطاع النفط وباقي القطاعات الاقتصادية في هذه الأيام أكبر بكثير من الحدود التي تخيّل كل طرفٍ أنه قادرٌ على تحمّلها في أعقاب فشل المفاوضات، فهل يؤدي ذلك إلى تراجعٍ عن جولة الحرب هذه لأنّ كورونا أقوى من روسيا والسعودية مجتَمعتين؟ لا يبدو أنّ الوقت مناسبٌ لحرب بوتين وبن سلمان (المدعوم ترامبياً) في هذه المرحلة العصيبة التي يمرّ بها العالم، وذلك ليس تحسّراً على أسعار النفط المرتفعة، ولكن على الأقل من أجل شعوبهم وشعوب باقي الدول التي تعيش من عوائد النفط.