ترافقت ذكرى الثورة السورية التاسعة لهذا العام مع ثلاثة أحداث رئيسية، طغت على الفعاليات والمظاهرات التي شهدتها مناطق الشمال السوري الخارجة عن سيطرة النظام، والتي بدت أقل زخماً مما كانت عليه في السنوات السابقة. الحدث الأول هو الاعتصام المفتوح الذي دعا له ناشطون على طريق حلب اللاذقية الدولي، والذي جاء يوم الخامس عشر من آذار، اليوم المحدد لبدء مرور الدوريات الروسية التركية المشتركة على الطريق. والحدث الثاني هو نزوح أعداد كبيرة من الأهالي والمهجرين، وذلك  بعد خسارة معاقل مهمة للثورة في أرياف إدلب وحماة وحلب. أما الحدث الثالث فهو تنامي حالة الإحباط واليأس التي سبقت ذكرى الثورة بأيام قليلة، وذلك جرّاء الاتفاق الروسي التركي الذي جاء مخيباً للآمال، إذ لم تُتًح الفرصة لمراجعة ما حدث واستعادة التوازن من جديد.

وقد شهدت مناطق مختلفة مظاهرات وفعاليات مختلفة في ذكرى الثورة، دعت إليها المكاتب الثورية والنشطاء في مناطق من إدلب وريف حلب الغربي، منها أريحا وأطمة وإدلب المدينة وباتبو، بينما شهدت مناطق عفرين وإعزاز والباب وأخترين ومارع في ريفي حلب الشمالي والشرقي حضوراً أوسع للمظاهرات والاحتفالات بإحياء عيد الثورة، تضمنت رفع لافتات وشعارات تطالب بإسقاط النظام ومحاسبة رموزه وقادته والإفراج عن المعتقلين.

youtube://v/lqz85mtFGe0

على وسائل التواصل الاجتماعي، تركَّزَ الحديث في ذكرى الثورة على استعادة ذكريات وأحداث أيامها الأولى، وبالمقارنة مع ما كان عليه الحال في السنوات السابقة، يمكن بسهولة ملاحظة التراجع في التغطيات الميدانية التي تجريها المواقع والصفحات الإلكترونية للفعاليات الاحتفالية والاحتجاجية على الأرض، وكذلك الأمر في المواد الإعلامية التي تذكّر بأحداث الثورة ورموزها ومحطاتها.

وفيما يتعلّق بالاعتصام الذي تم على الطريق الدولي، انقسمت الآراء في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام بين مؤيد له ومعارض. وقد رأى فيه بعض من تحدثنا إليهم عودةً بالذاكرة إلى أيام السلمية الأولى التي رافقت المنتفضين ضد حكم الأسد لأشهر طويلة قبل بدء العمل المسلح، وتذكيراً بنجاعة هذا الأمر في هزّ أركان النظام، وتأكيداً على استمرار الثورة كما بدأت، خاصة أن الاعتصام جاء بالتزامن مع ذكرى الثورة. في حين رأى آخرون أنه، وبعد سنوات من القتل الممنهج والاعتقالات، لا فائدة من العودة للاعتصامات والتظاهر، خاصة في ظل نطام قمعي دموي لا يمكن التعويل على ردود أفعاله، وفي ظلّ خذلان المجتمع الدولي للقضية السورية، متسائلين عن جدوى الاعتصامات في مثل هذه الظروف.

ترافق هذا الاعتصام مع فيديو لمقاتلين يتبعون لهيئة تحرير الشام، ظهروا في الطريق مهددين الدوريات المشتركة في حال مرورها بالتصدي لها عسكرياً، وهو ما دفع عدداً من الناشطين لتحميل مسلحيّ الهيئة مسؤولية ما سيحدث، معتبرين أنهم يكررون سلوكهم نفسه في كل مرة، وهو سرقة أي نشاط سلمي وتخريبه.  وقد طالب بعض النشطاء بفض الاعتصام إن لم يكن بالإمكان مواجهة حملة عسكرية جديدة، ستؤدي إلى خسارة مناطق في حال عودتها، مستندين في كلامهم إلى الخسارة الكبيرة التي تكبدتها فصائل المعارضة خلال الأشهر الماضية.

فجر الدين عرابي هو صحفي وناشط من حلب، وقد شارك في إحدى مظاهرات إحياء ذكرى الثورة في ريف حلب، وهو يقول إنه من الواجب «العودة إلى العبارات الثورية البكر الأولى ونشرها مجدداً، وعدم السماح لأحد بالمساس بها، كونها تمثل ذاكرتنا واستمرارنا»، وإنه جاهز ومن معه لدفع الثمن الذي خبروه مراراً، مركّزاً على ضرورة «الابتعاد عن الاستسلام للعاطفة وحدها في التعاطي مع ما يحدث»، والتزام منهج تعزيز القوة في الخطاب والتمسك بالمطالب، التي يلخّصها بـ «الحرية والكرامة، وإلغاء الفكر المتشدد وعدم السماح لإصحابه بالاستمرار في حرف مسار الثورة».

من مظاهرة إحياء ذكرى الثورة في باتبو بريف حلب الغربي

درغام حمادي ناشط وصحفي في ريف حلب، وهو يعزو تراجع فعاليات ذكرى الثورة في محافظة إدلب ومحيطها إلى «خسارة قلاعها» كما وصفها، وأهمها معرة النعمان وسراقب وكفرنبل، وقبلها خان شيخون واللطامنة، بالإضافة إلى خلو جبل الزاوية والأتارب من سكانهما، وهي مناطق دائماً ما كانت تشكل ثقلاً ثورياً منذ الأيام الأولى في العام 2011، وهو الثقل الذي استمر حتى لحظة خسارتها.

يروي حمادي أن كثيراً من الناشطين تفرقوا عن أماكن وجودهم، بعضهم اتجه نحو مناطق في ريف حلب الشرقي وبعضهم الآخر إلى المخيمات، وهو «ما زاد من صعوبة وصولهم للمشاركة، أو انخراطهم في الفعاليات الثورية في المناطق التي لجؤوا إليها»، الأمر الذي يفسّر من وجهة نظره تنظيم مظاهرات كبرى في عفرين وإعزاز والباب، نتيجة الأعداد الكبيرة التي وفدت إلى هذه المناطق خلال الشهرين الماضيين.

المحامي والناشط عثمان خضر قال إن ذكرى الثورة تمرّ في ظروف بالغة القسوة، وذلك نتيجة تقدم قوات النظام، وتحوّل المنطقة إلى ساحة للصراع الدولي، دون إشراك السوريين أصحاب القضية في تحديد مجريات ما يحدث، الأمر الذي تسبّب بإحباط كبير، مترافق مع نزوحٍ هو الأكبر خلال السنوات الماضية. رغم ذلك، يؤكد خضر على أهمية المظاهرات والمعارض والاعتصامات وغيرها من الفعاليات، التي تحافظ على ذكرى الثورة.

من جهته، يقلل المحامي زياد المحمد من أهمية الخسارة الأخيرة في الحد من استمرارية الثورة، فهو يرى أن «الانتكاسات والتراجعات أمر طبيعي»، وأن «الثورة ليست رقعة جغرافية تنتهي المسألة بخسارتها». وزياد هو واحد من أبناء مدينة حلب، تم تهجيره منها قسرياً في الباصات الخضراء أواخر العام 2016، وهو يرى أنه ينبغي مواصلة الثورة رغم كل ما جرى، مع التركيز على ذاكرتها السلمية التي كانت الأصل في انطلاقتها.

يتندر بعض من التقيناهم قائلين إن انتشار فيروس كورونا حال دون اشتراك أعداد كبيرة من السكان في المظاهرات، وهو أمر غير مستبعد حتى لو أن الحديث عنه جاء مُغلّفاً برداء من السخرية، وذلك بعد التحذيرات من التجمعات واحتمال تحوّل الأمر إلى كارثة إنسانية في حال حدوثه. لم يغب ذكر كورونا عن اللافتات ووسائل التواصل الاجتماعي، وذلك عبر المقارنة بين الفيروس وبشار الأسد، وأيهما أكثر خطورة على الشعب السوري، وكذلك في الأغاني الساخرة من النظام ورأسه، والمبنية بكلماتها على مثل هذه المقارنات، في استعادة لذاكرة الأغاني والهتافات الأولى في الثورة.

يمر عيد الثورة التاسع وسط تغيرات كبيرة تشهدها مناطق سيطرة فصائل المعارضة وحياة سكانها، لكن الثورة «لم تهبط من الفضاء» كما يقول الطبيب عبد المنعم الأحمد، ولذلك فإنه «من الطبيعي أن تصبغ الظروف الحالية شكلها وفعالياتها واحتضان الشارع لها، ومن المستحيل مقارنة اليوم بما حدث منذ تسع سنوات، فالزمن لا يعود للوراء، خاصة مع فقدان كثير من مناضلي الثورة الأوائل، الذين كان لهم أكبر الأثر في تفعيل المظاهرات وكتابة اللافتات والأغاني الثورية التي تعبر عن المواقف السياسية».

الطبيب عبد المنعم الأحمد من أبناء ريف إدلب، يعيش اليوم في مدينة الباب بريف حلب الشرقي بعد نزوحه. وهو يقول أن «النزق الثوري بدأ بالتراجع منذ سنوات، مع التحول إلى العسكرة والفصائلية التي قضت على معظم أشكال المظاهرات والفعاليات، خاصة في المناطق التي خضعت مباشرة للتنظيمات الإسلامية المتطرفة مثل داعش والنصرة وغيرها، والتي عملت على قمع فعاليات الحراك الثوري المدني. ومع طول المدة، تأصلت فكرة عدم الجدوى من هذا النوع من الحراك، وساهم في ذلك شعور المتظاهرين بصمم المجتمع الدولي تجاه ما يحدث». ويضرب مثالاً عشرات الوقفات التي نُظمت بخصوص المعتقلين، وجميعها لم تستطع الإفراج عن معتقل واحد، وهو ما زاد من حالة الإحباط، دون أن ننسى ركون عدد كبير من النشطاء للابتعاد عن أي نشاط سياسي خوفاً من الاعتقال من قبل هذه الجهة أو تلك، أو تجسيداً للشعور بالخذلان، بالإضافة إلى هجرة أعداد كبيرة منهم إلى تركيا أو أوروبا، وهو ما يعتبر السبب الأهم في تراجع الفعاليات الثورية السلمية، على حد قول الطبيب عبد المنعم.

يسود جو عام من التأثر بالخسارة، إلى جانب الفقر الذي يمسك بخناق الملايين في مناطق سيطرة فصائل المعارضة، ويضاف إلى ذلك سعي كثيرين لإيجاد مكان آمن بعيداً عن الموت والقصف الذي ساكنهم لتسع سنوات. في ظل هذه الظروف، مضافاً إليها الظروف السياسية العالمية والإقليمية التي تتحكم بمصير الثورة وأبنائها، يبدو مفهوماً أن تتراجع جذوة إحياء ذكرى الثورة عمّا كانت عليه خلال السنوات القليلة الماضية، ويحتاج الأمر فعلياً إلى تغيرات جذرية أو حدث مفصلي كبير يغيّر من هذه الأوضاع، حتى تستعيد ذكرى الثورة بعضاً من روحها التي دُفنت تحت أطنان من القهر والموت وركام المنازل والمصير المجهول.