يحمل شهر آذار هذا كثيراً من الرمزية في تواريخه، من الذكرى التاسعة لاندلاع الثورة السورية، إلى ذكرى قوى 14 آذار، وذكرى قوى 8 آذار التي تصادف يوم المرأة العالمي نفسه.
بعد مرور ما يقارب ستة أشهر على اندلاع الانتفاضة اللبنانية المستمرة حتى اليوم، تجلّت كل هيكليات وأنظمة القمع على سائر الفئات الاجتماعية في أوضح أشكالها. يأتي هذا الانكشاف بعد نضال دام سنوات لتكسير هذه الهيكليات، والتفكير في البديل العادل للجميع. وبعد انقضاء اليوم العالمي للمرأة في لبنان، وبعد كل التحركات النسائية والنِسوية خلال الانتفاضة، ومع كل ما حملته الأشهر الأخيرة من عنصرية وكراهية للـ«أجانب»؛ لا يسعني سوى أن أرى النظام الأبوي والعنصرية تجاه اللاجئين كوجهين لعملة واحدة.
الأصل وكلّ الشواذ تحته
يشبه النظام الابوي كراهية اللاجئين من ناحية تأصيل أو رسم صورة للشخص الأساسي، ثم كل من هم تحته كنسخة غير كاملة عنه. فالرجل هو الأساس في النظام الأبوي، والمرأة والمثليون والعابرون يظهرون كأنهم الشواذ عن الصورة الأصلية؛ تماماً كما تهيمن الهوية اللبنانية على جميع الجنسيات الأخرى في لبنان، من خلال سيطرتها على الموارد، وفي بعض الأحيان السيطرة الحرفية على حياة حملة بعض الجنسيات الأخرى. تحديداً، الخطاب الفوقي تجاه السوريين، الذي كان متواجداً أصلاً قبل الثورة والحرب السورية، قد يكون أبرز تجليات هذه الفوقية التي تحمل الاعتقاد السائد بأن اللبناني مميز من بين جميع أبناء البلدان العربية الأخرى. لقد كبرنا على سماع التهكّمات العنصرية على العمّال السوريين، بالمقدار نفسه من التهكمات الذكورية على النساء والأفراد غير النمطيين، إلى درجة يُمكننا معها اعتبار هذين النوعين من الفوقية والكراهية جزءاً أساسياً من الثقافة اللبنانية المتجذرة في النظام السياسي والاقتصادي القائم على استغلال العمّال الأجانب، السوريين منهم بالأخصّ، الذين بنوا لبنان بعد الحرب، وعلى استغلال عمل النساء المنزلي.
اختزال الأزمات إلى كلمة أو نكتة
في الآونة الأخيرة، ومنذ عدّة سنوات، أصبح روتين حياة اللبنانيين متمركزاً على سماع الخطابات التي تلخّص جميع مشاكل لبنان وانهياراته المتراكمة في كلمة واحدة: السوريون في لبنان. تماماً كما تُلخَّص المشاكل الأسرية من قبل المنظمة الدينية بـ: المرأة، وتحرّرها الزائد بالطبع. وطبعاً، توظَّف اللغة لتنسف تاريخ تسع سنوات، لتأخذ صفة اللاجئ وتستبدلها بالنازح، كي تضفي لمسة «الوكالة الذاتية» المزيفة، إذ أنّ هذه الصفة تعني القدوم إلى لبنان بملئ الإرادة بحثاً عن فرص العمل، أو الوظائف المسروقة كما يسمّيها اليمين اللبناني ممثّلاً برئيس الجمهورية ورئيس تيّاره، وبالعرّاب اللبناني لهذا «النزوح» بواسطة حزبه المقاوم.
من جهة أخرى، تُستَخدم اللغة لتكريس القمع من خلال النكات والمزاح الذي يهدف لتغليف العنصرية والذكورية بغطاء من الفكاهة. فعند ذكر حقوق النساء، لطالما نسمع نكتة «أصبح على الرجل أن يطالب بحقوقه من المرأة»، فيما يواجَه السوريون واللبنانيون الذين يطالبون بالعدالة بنكتة «فلنؤمّن حقوق اللبنانيين من السوريين».
تقييد النشاطية السياسية
يُعاد إنتاج هذين النوعين من القمع من خلال خلق منظومات جديدة، تُحدّد المواضيع والقضايا المسموح التكلّم عنها، وترسم خطوطاً حمراء على كلّ المواضيع الأخرى. فيقال للنساء إنّ قضيّتهنّ ليست أولوية حالياً، لأنّها ليست قضية محبوبة أو ذات شعبية في المجتمع، ممّا سيُبعد كثيراً من الحلفاء المحتملين للمجموعة، وقد يساهم في شرخ الأصوات «المعارضة» للسلطة، باعتبار أنّ القضية تتضمّن المساس بالقوانين الطائفية والأمور العائلية، وهذه ما لا يحبّذه الرجال، أي الشخص اللبناني الأساسي. بالطريقة نفسها، تتجنّب المجموعات مناقشة الأزمة السورية لتفادي الوصول إلى قرار بأخذ مواقف مؤيدة أو معارضة لأحد الأطراف المشاركة في الحرب، ومن ثم تفادي السؤال الأكبر عن الموقف تجاه السلاح اللبناني المشارك، وذلك بُغية عدم استبعاد الأشخاص المشجّعين لمشاركة حزب الله في الحرب السورية، أو المؤيدين لسلاحه كسلاح المقاومة الرسمي، أو الأشخاص الذين لا يتضامنون مع اللاجئين السوريين لكنهم موافقون على أغلب القضايا الأخرى، للمحافظة على علاقات جيدة مع الجميع، وعلى سمعة الشمولية التي تتسع للجميع. هكذا يتم إخماد هذه القضايا والمطالب بحجّة الحفاظ على التحالفات «الاستراتيجية»، لكن على حساب المواقف المبدئية الواضحة والالتزام بالعمل للوصول إلى العدالة الاجتماعية، ليأتي الإصرار على توحيد الجبهات على حساب الأشخاص الذين أصبحوا مُعلَّبين في تابوهات جديدة لا يجوز الاقتراب منها.
قمعٌ يساري بذريعة سياسات الهوية
في الحالتين، تُختزل هذه النضالات إلى سياسات هوية يمكنها الانتظار حتّى تحقيق المطالب الاقتصادية، باعتبار أن المطالب الاقتصادية منفصلة تماماً عن المطالب الأخرى التي تسمّى اجتماعية، وباعتبار أنّ الانتفاضة قائمة على مبدأ الترحيب بالجميع، الذين قد لا يكترثون كلّهم بقضايا الأقليات. وكما يقال للنساء إنّ حقوقهنّ ونضالهنّ نابع من الغرب المستعمر، كذلك يرسم الإعلام اللبناني والجهات السياسية اللاجئين المعارضين لنظامهم بصورة عملاء للغرب المتآمر، الذي ساعدهم على المساهمة في تدمير بلدهم من خلال الثورة، بالإضافة إلى اتّهامهم بالبقاء في لبنان رغبة بالحصول على المساعدات الدولية، والتآمر لتدمير الحضارة اللبنانية بدل العودة إلى بلدهم والمساهمة في عملية إعادة إعماره، التي لم تبدأ أصلاً، والتي لن تطال مشاريع سكن اجتماعي هي بالضبط ما يحتاجه اللاجئون. وطبعاً، ما يجمع هاتين المقاربتين هو الطبقية المبطّنة، التي تفترض أنّ من لا ينتمي إلى الجنسية اللبنانية، ومن ليس رجلاً لبنانياً، لا يعاني من أزمات الاقتصادية بل تقتصر مشاكله على أزمات هويّاتية.
قمعٌ ليبرالي عبر تسطيح النضال
بقدر ما يكره الليبراليون والليبراليات النظام الأبوي الطائفي، نرى كثيرين منهم كارهين للنساء اللواتي لا يُرِدنَ التحرّر عبر الخطوات التي يقدّمونها لهنّ، بالأخصّ فيما يتعلّق باللباس والتحرّر الجنسي. هكذا تنتقل ملكية جسد المرأة من الرجل إلى التيّار الليبرالي، الذي يكرّس نفسه حارساً للحركة النِسوية، لتقرير من هي نِسوية بما فيه الكفاية، ومن لا تزال تقمع نفسها بالإضافة إلى قمع النظام الأبوي: إن كنتِ ما تزالين تريدين ارتداء الحجاب، فأنتِ لست نِسوية؛ وإن كنتِ لا تريدين نشر «ثقافة حقوق الإنسان» عبر مهاجمة النساء المتدينات، فأنتِ منافقة. يتشابه هذا مع خطاب «التنمية» الليبرالي السائد في المنظمات غير الحكومية التي تعمل مع اللاجئين، التي تفرض نفسهاً وليّاً على السوريين لتنمية مجتمعاتهم، من خلال حملات «إنسانية» تسعى إلى «تثقيفهم» وتوعيتهم حول مخاطرهم على أنفسهم: إن كنتم تريدون الاستفادة من الخدمات الطبّية، عليكم التوقّف عن الإنجاب؛ إن كنتم تريدون الاندماج مع المجتمع المُضيف، عليكم تعلّم مهارات معيّنة كي تتشابهوا معهم، وعليكم مناصرة هذه القضايا الاجتماعية. هذا بالإضافة إلى أن إدانتهم للنظام السوري بسبب انتهاكاته المتكرّرة لحقوق الإنسان تأتي مصحوبة بالرفض التامّ لإنصاف السوريين في لبنان، وحتّى مصحوبة أحياناً بالتعبير الصريح عن ضرورة إعادتهم إلى سوريا، باعتبار أن لبنان عليه أن يكون للّبنانيين أوّلاً.
في الحالتين، لا تُسأَل النساء ولا يُسأَل السوريون عن آرائهم، ويتم تسكيتهم بحجّة عدم إدراكهم لمصلحتهم، وتسطيح نضالاتهم وقضاياهم عبر خطاب الفردية، الذي يلقي اللوم على هذه الفئات باعتبارها مساهمة في قمع نفسها، ويعتبر القمع نابعاً من جهلها بدل أن يكون نابعاً من البنى السياسية واليمينية.