يعيش السودان اليوم مرحلة انتقالية، بعد نجاح الثورة السودانية في إسقاط الرئيس السابق عمر البشير في نيسان (أبريل) من العام 2019 الماضي. وتبرز في هذه المرحلة ملفات شائكة إلى الواجهة، على مستويين؛ الأول داخلي يسعى فيه الشارع السوداني إلى طي مرحلة البشير ومحاسبة رموزها، مواجهاً عقبات في تحقيق ذلك، والثاني خارجي تحاول فيه القوى الحاكمة اليوم تغيير الخط الدبلوماسي الذي انتهجه السودان لعقود، وقد جاء رفع العقوبات الأميركية عن السودان مؤخراً كثمرة لهذا التحوّل.

ويقود السودانَ في مرحلته الانتقالية ائتلافٌ من القوى تشكَّلَ بعد اتفاق الإعلان الدستوري في آب (أغسطس) 2019، الذي نصَّ على تقاسم السلطة بين القوى المدنية والعسكرية، وتَشكَّلَ بموجبه مجلس السيادة السوداني، وحكومة وبرلمان انتقاليان، بعد مفاوضات طويلة ومعقدة بين قوى المعارضة السياسية والمجلس العسكري السوداني.

يُفترض أن تمتد هذه المرحلة الانتقالية إلى ثلاث سنوات بعد توقيع الاتفاق، وسيحاول هذا النصّ رصد أهم ملامحها حتى هذا اليوم، مع اقترابنا من انقضاء العام الأول على سقوط البشير.

على الصعيد الداخلي

يسعى آلاف السودانيين إلى تحقيق تقدّم في قضية مذبحة اعتصام القيادة العامة، لمحاكمة المسؤولين عن قتل نحو 180 مدنياً من المتظاهرين في الثالث من حزيران (يونيو) 2019،  حيث اتُّهم قادة المجلس العسكري الذي أطاح بالبشير، وعلى وجه الخصوص قوات الدعم السريع التي يقودها الجنرال حمدان دقلو المعروف بـ حميدتي، بارتكاب تلك المذبحة المروعة. ولا تزال تداعيات القضية مستمرة حتى اليوم، وسط وعود من رئيس الحكومة السوداني، عبد الله حمدوك، بتشكيل «لجان تحقيق» للنظر في القضية، وهي وعود لا تثير إلا مزيداً من الحنق لدى عموم السودانيين، فهي تترادف لديهم مع المماطلة والتسويف، ذلك أن الحكومة شكلت عدة لجان تحقيق للنظر في هذه القضية سابقاً، ولم تؤدِ إلى أي نتيجة. ولعلّ العجز عن تحقيق تقدم في هذا المجال يرجع إلى نفوذ حميدتي كطرف وازن في المعادلة السياسية اليوم، وهو أحد الموقعين على الإعلان الدستوري، ويشغل موقع نائب رئيس مجلس السيادة السوداني المُشكَّل بموجب الاتفاق.

وقد شهدت العاصمة السودانية في 22 شباط (فبراير) 2020 احتجاجات واسعة، وذلك تنديداً بتسريح عدد من الضباط الذين ناصروا الثورة أثناء وجود البشير في السلطة، ورفضوا الأوامر الموجهة لهم بالاعتداء على المتظاهرين. وأطلق المحتجون اسم «مليونية رد الجميل» على هذه المظاهرات، التي خرجت في يومين متتاليين بسبب العنف الذي قوبلوا به في اليوم الأول، حيث أُصيب العشرات بهراوات الشرطة والرصاص والغاز المسيل للدموع.

في سياق متصل، احتلت قضية محاكمة البشير اهتمام الشارع السوداني في الأيام الأخيرة، وذلك بعد موافقة الحكومة السودانية على مثول الأشخاص الذين صدرت بحقهم أوامر اعتقال أمام محكمة الجنايات الدولية. وكان وزير الإعلام السوداني قد أعلن عن اتفاق الحكومة والمتمردين في دارفور على هذا، وذلك خلال محادثات السلام الدائرة في جوبا، مشيراً إلى أن البشير «قد يتم تسليمه إلى محكمة الجنايات الدولية، وقد تتم محاكمته في محكمة خاصة أو مشتركة في الخرطوم».

وأفادت صحيفة الشرق الأوسط بهروب الملقب «علي كوشيب» من مكان سكنه، بعد هذه التطورات، إلى دولة إفريقية مجاورة، وذلك بعد سحب أرصدته البنكية. وكوشيب هو أحد المتهمين بارتكاب جرائم حرب في السودان، وأحد المطلوبين للجنائية الدولية.

خارجياً؛ خط دبلوماسي جديد

برزت إلى الواجهة خلال الفترة الماضية قضية التطبيع مع اسرائيل، وذلك بعد انتشار خبر عن لقاء جمع بين عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة السوداني، وبنيامين نتنياهو، في أوغنذا، وهو اللقاء الذي أعلنت الحكومة السودانية عدم معرفتها به مُطالبةً البرهان بتقديم توضيحات حوله. وأعلنت اسرائيل بعد هذا اللقاء عن بدء تحليق طائراتها التجارية في المجال الجوي السوداني، بموجب اتفاق مع السودان.

وتأتي هذه التطورات ضمن جملة تغييرات تسعى حكومة السودان لإنجازها مع الدول الأخرى، ليكون ذلك بمثابة انعطافة في العلاقات الشائكة للسودان مع أكثر من طرف. وقد أجرى الرئيس الألماني زيارة وُصفت بـ«التاريخية» إلى السودان، لأنها تعد الأولى لمسؤول غربي بعد انقطاع العلاقات لمدة ثلاثة عقود من حكم البشير.

واتصالاً بذلك، تسعى الحكومة السودانية أيضاً إلى إغلاق ملف التفجيرات التي طالت سفارتي الولايات المتحدة في نيروبي ودار السلام، وأدت إلى فرض عقوبات أميركية على السودان، وهي العقوبات نفسها التي رُفعت قبل أيام، حيث اتهمت واشنطن حكومة السودان بالتورط فيها، بسبب استضافتها زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن في ذلك الوقت. وأعلنت الحكومة السودانية أنها ستبدأ بمفاوضات مع أسر ضحايا التفجيرات، الذين يطالبون الخرطوم بتعويضات تصل إلى مليارات الدولارات، مُضيفةً أنها تسعى إلى إزالة اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، عبر معالجة كافة المواضيع السياسية مع واشنطن.

وفي سياق المساعي الدبلوماسية الجديدة، عقد كل من السودان ومصر وإثيوبيا اجتماعات عدة، لمناقشة القضايا الخلافية بشأن سد النهضة الإثيوبي، وذلك برعاية وزير الخزانة الأميركي وبحضور ممثلين عن البنك الدولي في واشنطن. وقد تم الاتفاق أواسط شباط (فبراير) الماضي على 90 بالمئة منها، بحسب وزير الري السوداني، الذي أضاف أن السودان «كان له دور أساسي في الاتفاق الذي قدمته وزارة الخزانة الأميركية، والذي كانت 80 في المئة من بنوده مقترحات سودانية».

تسعى القوى السياسية والعسكرية السودانية في هذه المرحلة إذن إلى تبني خطاب جديد، وإلى تجاوز واقعها السياسي الذي استمر لعشرات السنوات، وأدى إلى عزل السودان دبلوماسياً وراء أسوار من العلاقات الشائكة مع الغرب وبعض دول الجوار. ويحصل هذا وسط مناخ من الحرص، فرضته الخريطة السياسية الانتقالية، التي قرر فيها الجميع تقديم تنازلات، بحيث يتم توزيع السلطة والنفوذ بين القوى السياسية التي قادت الثورة السودانية، والمجلس العسكري الذي لا يزال يمسك بكثير من مفاتيح السلطة في البلد.